اتصل بنا
 

عن البحر والصبار المُر!

نيسان ـ نشر في 2020-11-25 الساعة 08:56

نيسان ـ دكة مقهى على طريق البحر
حدثنى جارى، ذكر لى غرام طريق البحر عندما تعرف على أرجيلة مذهبة تؤجرها بائعة الهوى سلوى لركاب آخر الموسم، قبيل زمهرير الشتاء الصحراوى.
يقول، وقد يكون صادقًا، ذلك أن الحياة أكلت منه الكثير، فهو أعور، أشيب، فى قدمه اليسرى عرج، لا يمضغ الطعام، يعبُّ الشراب دون حساب.
مما أذهلنى من سيرة الراكب، أنه يضع علامات على دكة يجلس عليها دائمًا، يحفر حرف «س» السين، ويعشق الحروف فى كل مرور!
فى ليلة من ليالى أيلول المتأخرة، هبت ريح شرقية، غامت عيناه بالدموع، وهاج كالجمل التائه، أصدر صفيرًا ونادى الغيم.
- سلوى.. سلوى.
عذبنى صبى المقهى عندما قال لى إنه سيعود فى الصباح، فهو عاش ٦٧ عامًا وهو يعد أغنام سلوى التى شردها شتاء أيلول.
زهرة الصبار المر
حرث ظل شجرة برتقال وارفة، ابتعد عن الساق خطوات، تمادى فى الحفر، مد يده وزرع بصلات صبار برى مر!
طمر التراب، أرخى حزام الجلد ووضع المنجل تحت رأسه ونام.
أينع زهر البرتقال، غابت البراعم عندما استدارت حبات من الثمر الحلو.
اشتعل شوك الصبار، زحف يلتقط الشوك ليقهر خيال «مآتة» تنقر رأسه الغربان.
دمع الرصاص المصهور
تعجب، منذ كان فى ربيعه السادس من مشهد النار، وسخان الفولاذ الذى يتم صهر الرصاص فيه إلى حد الغليان.
كان مُبيض النحاس يشغل الحى بطرق المعادن من قدور وسدور وصحون وملاقط، ينقر أحمر الحديد المشتل ليصنع فأسًا أو سكة محراث.
الولد الصبى أرسلته أمه إلى مبيض الحى، تطلب دمع الرصاص المصهور.
غاب الشاب فى غربة العمل، تحسس حجابًا مغلفًا بالكاشمير الأخضر، نام وقال فى الصباح نفك الحجاب.
ليلة زفاف ابنته ألبسها حجاب دمع الرصاص، بكى طويلًا وهو يتحسس الهواء حول رقبته.
حبل الغسيل
قميص واحد، ثلاثة قمصان، ثانيها مطبوع بالكاروهات البنية والخطوط الرمادية..
- أيضًا.. تذكرت صف الجرابات، يا للهول، لديهم أزواج وأزواج كثيرة من الجرابات الجميلة.
نظر إلى حبل غسيل أمه، فتح فمه وكتم ما دار فى حلقه من كلام وتأوهات.
قال لى:
- كان مجرد حبل غسيل، لا ينافس غسيل أمى التى غسلت قميصى الوحيد، إلى أن ذابت أصابعها.
منديل وعطر السيد البدوى
تاه
تدحرج..
عطس، تلقفته السيدة بلهفة غريبة، قالت: سيدنا، زدنا بركة!
غمزها عن بُعد، هاج حنينها للأموات.
- جود يا صاحب البركات.
ناولها المنديل وبقايا عطر بردى يشبه دمع العروس البكر، اجهشت، ناولت حارس المقام فضة عزيزة.
فى لجة الشوارع، مات الطفل.
باتت ليلتها تندب رائحة العطر وغمزات خادم المقام.
دفنت متاعها كفنًا للطفل وألقت قارورة الشؤم إلى كلاب الشوارع.
خيط أبيض
لم يجد ضالته فى علبة الحلوى المعدنية، مخبأ بقايا الأزرار والخيط وكشتبان الإبر ذات السن النحاسى.
خيوط من ألوان عادية، يريد خيطًا أزرق نيليًا، ملعون زر القميص الذى فرط، حظه أنه التقط الزر العجاجى الموشح، التبس عليه الحال، الأمر يمكن أن يكون سهلًا، خيط أبيض يرمم ما انفرط!
- ربما.
- لا يمكن تشويه القميص.
- من ينتبه إلى خيط أبيض منبوذ.
- اللعنة؛ الزر يتوسط أعلى القميص، لنجرب، بأن الخيط الأبيض، تذكر وسام جائزته الفضى.
تعلق لمرة وحيدة، خاط الأبيض، نسى طريق العمل، جلس ينتظر الفراغ، همس له بائع أدوات الخياطة الدواج، لا نبيع خيوطًا آتية من السماء.
سردين زيت وشطة
فى قعر طرد المعونة وجد علبة، تحسسها شمال يمين، من أعلى، من أسفل، هى علبة حديدية، وعد النفس بوجبة من الطرد، فالفول اليابس، الفاصوليا وحتى الأرز، لا حيلة له على طبخها.
طرق العلبة على أرض غرفته الباردة، طرق بعنف، سال خيط من زيت زفر.
ابتهاج، طرق كثيرًا.. مال برأسه نحو الأرض، لعق الزيت والشنطة.. غمس بصمت رائحة سردين محجوب بين صفائح حديد.
تحسس الظلام بعصاه ونام يغنى قلبه البصير..
ندى الزيتون
بصمات أصابعها رسمت حفريات من ندى الزيتون وريق الزيت المعتق الذى يهرب من مفاصل الشجر العتيق.
نظرته أخافتها، أسمعها أنه يريد أن يراها بعد القطاف!
احتارت الصبية تدعثرت، هاج كلب المزرعة وصل معها إلى براكية بيت من زينكو وأخشاب وجريد نخيل الموسم.
لطمت الأم على خدها، قدت ثوبها، لملمت ما ينفع فى رحلة الشتات.
قبيل الفجر كانت أصابع البنت البكر، التى لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، تنز بقعًا باردة من ندى الزيتون وغابت بين كثبان الرمل حد بحر الناصرة.
ألعاب نارية
رفض الأب، شدت الأم يد طفلتها وصفعتها كاتمة على أنفاسها، همست:
- لا يريد بابا أن نشترى الألعاب النارية، يكره صوت البارود، اسكتى وإلا..
فى نهاية السيرك، كان الأب يحمل بين يديه خرطوشًا لُفَّ بقماش ممهور بدم من أصابه الثار فى العيد السابق.
سألت البنت:
ما هذا يا أبى؟
شد يدها وألصقها بيد أمها وهاج:
-إنه ثوب عمك.
أى عم؟
صفعها وكتمت الأم صوتها.
خريف الحكاية المنسية
ألح طالبًا من الحكواتى إعادة حكاية الغول وبيارق رجال الخريف أبطال الحكاية المنسية، قطب العجوز ولملم بردته وقال:
- اشهدوا أننى أقر وأعترف، يا ناس يا هووو.. لقد نسيت حكاية البيارق، عن أى بيارق كنت أهرج وأغم ليلكم؟
تناولته الحجارة وبقايا حبات من البندورة والبطاطا والبرتقال، أشاح عن جدهم وتابع اللهوووو.
بكى وردد كل ما فى نفسه من وهم وصمت:
ركز جلسته، حوقل وبسمل، مسح صلعته ورنّم كلامه:
- ولما ضربه الحارس اللعين قال إننى محروس مسنود من همم رجال البيارق الذين تعمّدوا بالدم والبخور، والله يا حبيب.. أقسموا حد الصخرة المقدسة ألا ينحنى لهم سيف، ويقول الرواة:
- أضاعوا ما أقسموا عليه وتفرق دمهم بين القبائل.. وأما الحكواتى فيرجو المغفرة..سامحونا.

نيسان ـ نشر في 2020-11-25 الساعة 08:56


رأي: حسين دعسة

الكلمات الأكثر بحثاً