اتصل بنا
 

نرد وحياة / محمود الشمايلة

نيسان ـ محمود الشمايلة / كاتب أردني ـ نشر في 2015-04-23

x
نيسان ـ

العمر قطار سريع، لا يتوقف عند أحد، والموت فاغر فاه لا يشبع، يحوم حولنا ويداعبنا في كل حين، هي الحياة مرة محببة كفنجان قهوة الصباح، مرّة بكل تفاصيلها، كدواء السّعال نشربة علقما على أمل أن نحظى بلحظات شفاء من أوجاعنا في وقت اخر..

صباح نيساني جميل ،أسير بمليء قدّمي إلى حيث لا أدري، بعد أن داهمني التقاعد كما العمر، أجدني مشغولا بإنفاق الوقت أكثر من اي شيء اخر، أتيه في عتمة الزحام المفرط بين أصوات الباعة وضجيج السيارات والوجوه الغائبة خلف فقر وثراء.

يبتلعني ذلك المقهى على ناصية الشارع دون سبق إصرار وترصد مني، هكذا وبكل سذاجة أختبئ وراء صمتي المدقع وأجلس على مقعد عتيق كما كل شيء هنا، الطاولات الخشبية، النوافذ، أباريق الشاي والقهوة، الأراجيل وحتى صاحب المقهى، رجل طاعن في السن إلى حد الساعة البندولية المعلقة فوق رأسه، همهمات مبهمة تداخلت مع بعضها واختلطت بدخان الاراجيل والسجائر المتصاعد من الافواه جعلت فضاء المكان معتما قاتما معتقا برائحة المعسل والقهوة وروائح أخرى ، فلم أسمع سوى قرع أحجار النرد وهي تتدحرج على المساحة المتاحة داخل طاولة الزهر هناك في الزاوية الخلفية.

ثمة شيء في داخلي جعلني استهوي المكان، لا أدري إن كان سحر الأمكنة الجديدة أم حميميتها، شعرت بنشوة جعلتني أبصق في وجه الساعة البندولية التي كانت تصرخ في وجهي كلما نظرت اليها، وكأنها حكيم طاعن في السن، فلم تعد تهمني تلك الصرخات.

رجل مسن بائس، رثّ الثياب، حفر الزمن على وجنتيه أخاديد وأودية، دخل المقهى تواً وهو يتأبـّـط طاولة الزّهر ويجوب بعينيه المكان، وكأنه يبحث عن شخص ما، حتى تقابلت نظراتنا فأشار بيده إلى طاولة الزهر وأنا أومأت له موافقاً لعلّي أحظى بمفارقة جديدة لطقس حياة التقاعد، فلا شك أنه من المتقاعدين القدامى.

بنفس وتيرة صمتي كان هو، فتح طاولة الزّهر، وكأنه فتح باب الحياة أمام عيني، وراح يرتب أحجار اللعب بمهارة فائقةكما الحياة، لعبة السباق مع الزمن عليك أن تنقل أحجارك من نقطة البداية الى النهاية بأقل عدد ممكن من الرميات، فتكون تلك هي أحلامك الكبيرة تجتهد في حياتك وترسم طريقك وقد تقضي على أحلام الآخرين من أجلها، وفي حقيقة الأمر أنت لن تتلقّى سوى مشيئة الرب.

كان الرجل مشغولاً بترتيب الأحجار وأنا كنت مشغولاً باسترجاع كل ما أعرفه عن هذه اللعبة، أربعة وعشرون مثلثا، كما لو أنها أربعة وعشرون ساعة، توزعت على أربعة مساحات مختلفة وتناوبت فيما بينها أسود، أبيض، أسود، أبيض، ليل، نهار، "وكلُّ في فلك يسبحون"

أي الأحجار تختار؟

جاء سؤاله مباغتاً، جعلني أشعر بخيبة كبيرة، ألا يجب أن نتعارف أولاً، أم سيتركها لظروف قادمة وكأنه يعلم أنني سأعود مرة أخرى.

ثلاثون قطعة مستديرة تمثل أيام شهرٍ ما، نصفها بيضاء والنصف الآخر سوداء.

حسنا اختر أنت -

- سأختار اللون الأسود

هكذا وبكل ثقة اختار اللون الأسود، إذن سيختار الجزء المظلم من ليالي الشهر المظلمة لعلّه يسعى إلى إرهابي، ألم تكن جيوش التتّار ترتدي قبعات لها قرون لإخافة أعدائهم؟

أرمي. بنج وجهار، سي ودو، دو وشيش ... دو يك .....

توالت الرميات الواحدة تلو الأخرى، ونحن منشغلون في نقل الأحجار من البداية إلى النهاية اختلطت أحجار الليل وأحجار النهار تقاطعت وتوازت ثم ابتعدت وكل منّا يُحاول أن يحتجز حجراً لخصمه. أليس غريباً أن تكون نهايتي هي نقطة انطلاقة؟!

صوت أحجار النرد بطاقة دعوى يفهما الجميع، نصف دائرة بشرية التفت حول الرجل المسن أربعة أو ربما خمسة رجال وكأنها جوقة موسيقية ورجل قميء جلس على يميني، كانت أحجار النرد تدور فوق الزخارف الفارسية محدثةً صوتاً حاداً والعيون تدور معها.

صاح أحدهم : دش .. ارتسمت ابتسامة عريضة على شفتي الرجل المسن وكنت أتساءل كم دش حصل عليه هذا الرجل في حياته فابتسمت أنا أيضاً.

من الواضح جداً أنّ هذه الجوقة تساند الرجل المسن، باستثناء الرجل القميء الذي لم يسعفه المكان فاضطر إلى مساندتي. فبدأ بتلقيني ماذا أفعل، ونصّب نفسه مسؤولا عن حياتي حرك هذا الحجر، ضع هذا هنا، لا تفعل كذا، بل أفعل كذا .. وهكذا ولا أدري ان كانت الجوقة ستفرح لفوز الرجل المسن أم لخسارتي.

الضجيج في داخلي يعلو، كيف لهذا القميء أن يتدخل في حياتي ويقرر نيابة عني ما يناسبني ام لا، و يعتبرني إطاراً يضع فيه الصورة التي تناسبه هـــــو فشعرت بامتعاض شديد جعلني افقد حماستي.

أكتفي برمي أحجار النرد وتنفيذ رغبات القميء، وأطيل النظر في وجه الرجل المسن، بتلقائية فطرية، تنعكس الأرقام على وجهه، فكلما ابتسم عرفت أن الرجل القميء سوف يغضب أليست سعادتنا تبنى على تعاسة الاخرين ؟

جهار، سي، شيش، بنج، يوم لك ويوم عليك ....

تدور الاحجار، والرجل القميء ما زال يتمادى ...

الضجيج في داخلي يتعاظم ...

يرمي الرجل المسن حجري النرد.

بنج، ويك، خمسة، و واحد، إنه قرار صعب، عليك بالمجازفة قال أحدهم سوف يجازف هذا الرجل من أجل أن يحافظ على ما أكتسبه في حياته أو ربما سيفكر في تحقيق مكاسب مستقبليه، ولكن قبل هذا وذاك عليه أن يتجاوز أزمته أولا.

يضع الرجل المسن حجراً أسوداً في الخانة الأولى ويُعرّض نفسه لخطر قد يؤدي إلى خسارته، ويعتمد في ذلك على سوء حظي. ( شيش و جهار) 6 ، 4 سوف تكون المسمار الأخير في نعش هذه اللعبة.

أرمي حجري النرد، الأول يقف على ستة، والآخر يدور ويدور و يدور كما الحياة .... ، انحنت الظهور إلى مسافة قريبة من الطاولة والعيون تدور مع الحجر ... صاح أحدهم ( الله يلعن أخت الزهر) وآخر ضرب بكفّه على ركبته متحسراً، وأسندوا ظهورهم إلى المقاعد وعدّلوا من جلستهم وكأنهم فقدوا الأمل في الحياة.

هذه المرّة يتمادى الرجل القميء ويحمل حجري ويضعه فوق الحجر الأسود على خانة الواحد، ويُصدر قراره بأن اللعبة قد انتهت ، وأنا كنت أتساءل لماذا يجب على أحدنا أن يفوز ألا يمكن أن نفوز معاً أم هذه هي الحياة؟...!

هذه فرصتي لن أسمح لهذ القميء أن يتدخل في حياتي مرة أخرى، بكلّ هدوء وثقة أعيد الحجر الذي حركه القميء إلى مكانه، وأترك الحجر الأسود حراً طليقاً، واحرّك حجراً آخر ،وأضرب رغبات القميء بحذائي، يحتج الرجل القميء، فتدافع عنّي الجوقة كاملة، تقذفه بكلمات بذيئة، فتهب رياح الغضب وتطفئ سراج عقله، يغادر المكان وهو يتمتم بكلمات لا أفهمها ...

تنتهي اللعبة بفوز الجميع وخسارة الرجل القميء.

السعادة تعرف طريقها إلى وجوه الجوقة، وأنا لا أقل عنهم كذلك، فهذه المرّة خسرت بمحض إرادتي، كما كنت أخسر بإرادة الآخرين.

خرجت من المقهى إلى الشارع العام، والغيوم الحُبلى تتكاثف فوق المدينة، يبتلعني الزحام فأسير عبر الأرصفة المزدحمة بسرعة، فلا شك أنها ستمطر بعد قليل.

نيسان ـ محمود الشمايلة / كاتب أردني ـ نشر في 2015-04-23

الكلمات الأكثر بحثاً