رسالة إلى جنرالٍ مُتعب
نيسان ـ طارق خميس ـ نشر في 2024-11-29 الساعة 12:26
x
نيسان ـ
وصلتني رسالتك أيها الصديق، ودعني أقدمك للقرّاء باسم الجنرال المُتعب. وصلتني رسالتك المليئة بالأسئلة عن المعنى خلف السابع من أكتوبر، وهي أسئلة تشتد وخزاً بالرأس كلما زادت معاناة أهلنا وازداد معها عجزنا.
وليكن واضحاً عندك أيها القارئ المتربّص، أن صديقنا لم يتعبه الوهن الذي يصيب الناس عادةً من حب الدنيا وكراهية الموت، أبداً، بل لطالما كان آخذاً بعنان الخطر يسوقه تجاه كل هيعة وفزعة، يبتغي الموت مظانه1.وأنّه وإن كان بعيداً اليوم عن كل ميادين النزال، فإن روحه مازالت محاربة تنتظر يوم يؤذن لها لتغادر محدودية الطين التي حبست فيه.
لكنه اليوم بالمحصلة مثلنا كُلّنا. لقد أٌخذنا رهائن لمحتكري العنف، سحبوا سلاحنا، ووقفنا هكذا؛ كل فرد وحده نراقب المجازر بأدوات نصرة محدودة.
الفارق بيننا أيها الجنرال المُتعب، أنك ذقت في يوم من الأيام طعم الجهاد، على خلافنا نحن الذين ما زلنا محرومين من وضع غضبنا في مصارفه الصحية؛ صدور الأعداء. هناك، حيث يمكن للشخصية أن تشهد اكتمالها بأداء فروضها قرب خطر الفناء، إذ سيتاح للإنسان أن يعرف كل شيء دفعة واحدة، لكن بالمحصلة لن يعرف إلا شيئاً واحداً.
إننا نسكن فوق جناح بعوضة، وعندما يرفّ جناحها ضيقاً بنا ننتقل إلى فسحة بلا نهاية، "يوتوبيا" المؤمن التي لا يرضى "يوتوبيا" غيرها؛ الآخرة. فاللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.
هذاجوهر ما يميز هؤلاء المقاتلين، هو أنهم لم يَعِدوا أحداً بجنة الأرض، لم يخدعوا أحداً كما تواترت أيديولوجيات الأرض على خديعة الناس، لقد أوقفوا أنفسهم أمام حقيقة الدنيا، وضربوا موعداً مؤجلًا مع كل متعها، تُسد بهم كل ثغور الدنيا، وبهم يُتقى اعتياد المهانة؛ "يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء"،كما جاء في الحديث.
صديقي الجنرال المُتعب، رسالتك مليئة بالأسئلة الحقيقية، وهي أسئلة تدور في ذهني وفي أذهان كثيرين، وأنا أكتب لك أساساً كاتباً لنفسي مُذكّراً إياها بالحقائق التي رأتها يوم الطوفان، زاجراً لها أن يُفزعها شيوع الموت وخذلان القريب والبعيد على أن تشكّ بما رأت. لقد جاء المجاهدون بالصدق، وعلينا أن نصدّق به، لأننا سنسأل عن هذا بالذات، سنسأل عن تصديقنا.
قطع الطريق على الهاوية
تقول لي: ما هدف السابع من أكتوبر؟
ولكن قل لي قبلها: ما البديل عن السابع من أكتوبر؟ ما الذي تقترحه؟ وكيف كنا سنكون لولاه؟ عندما نكون على مفترق طرق، بين طريق الفناء الأكيد وطريق فيه احتمال النجاة والنصر معاً، فما الذي تختاره؟ أو دعنا نفكر بكلمة "الاختيار" نفسها؟ ما الذي أمامنا بعد تصميم عدونا على سحقنا عن بكرة أبينا؟
ما الذي أمامنا حين يُقدّر الظاهر فوق عباده أن نُظهر الحق ونخوض معركة فرقانه، غير أن نليق بقدرنا ونحتمله بكرامة وحمد؟ لأن النصر وعدُ من يقبل أقداره ويكونها كما ينبغي، فالنصر مقام يُوصل إليه بتمرين طويل من النصرة والقتال، ولكن دون أن نتخيل النصر نقطة نصل إليها وينتهي عندها كل شيء، إنه طريق خُلق وأقدار.
ومع كل هذا أقول لك: كل تقييم للحدث هو سابق لأوانه. لا يمكننا تقييم حدث ما وهو ما زال يحدث، والمحطات الفارقة في التاريخ تستمر في قطف ثمارها لسنوات، حتى إذا وجدت نفسك بعد سنين وقد حققت نصراً كاسحاً، قلت: انظروا هناك، إلى تلك النقطة في التاريخ، منها ستبدأ الحكاية.
ما حدث ينتمي للأحداث الضخمة التي تفتح المستقبل على غيب محمّل بكل الاحتمالات. وهذا يعني أن نتائج السنة القادمة ليست هي نتيجة المعركة النهائية فحسب، وأن ما سيحدث لاحقاً أهم مما يحدث الآن على أهميته.
من طبيعة الحرب أن تخسر معارك وتربح أخرى، ما يحدد القيمة الكلية لجولاتنا مجتمعة هو الوجهة التي تنتظم فيها هذه الجولات من القتال. إنّنا نبني البعيد الذي يخصنا بكل جدارة، وهذا البعيد رهين الروح التي ستخرج بها من هذه المعركة. هدف عدونا هو كسرنا إلى الأبد، سيخسر الجيش النظامي حين لا يحقق أهدافه، ستنتصر مقاومتنا بمجرد قدرتها على الاستمرار، وهو استمرار يصونه السياسيّ بإضفاء السردية والوجهة عليه. وهذه أيضاً مهمة بناء السردية القوية للحدث والبناء عليها.
أعرف أن سؤالك "لماذا؟"، هو بالطبع ليس سؤالاً عن مشروعية المقاومة، بل سؤال عن حجم العملية التي كانت لا بد ستُخلّف وراءها ردّة فعل مثل هذه قد تشكل خطراً وجودياً علينا.
حسناً، هذا تحديداً ما يجعل من 7 أكتوبر حدثاً فارقاً وهائلاً. أنت تذكر عندما تحدثنا قبل معركة "سيف القدس" عام 2021، كان يغلب على تقييمي أنه جرى إخراج سلاح المقاومة خارج القدرة على الإيلام، وبالتالي خارج القدرة على إحداث أثر سياسي. لقد تأقلمت "إسرائيل" مع جولات التصعيد، وهو ما يتفق مع ما أوصى بهتقرير راندالذي أجرى مراجعة لحروب غزّة من 2008 وحتّى ما قبل 2021، بأن نمط "جزّ العشب" الذي يتبعه الجيش الإسرائيلي هو أنسب نمط، أي عدم القضاء على حماس وعدم الذهاب معها لمعركة صفرية.
لقد كانت مقاومتنا في عين عدونا عشباً زائداً في حديقته الخلفية، وهكذا كان أهلنا وناسنا قتلى معروفة ديّتهم. يُقتلون في جولات متباعدة، ثم يُقتلون ببطء خلال الحصار، ثم يقتلون عندما يحاولون الهرب؛ لقد جرى تحويل القطعة التي تحرّرت إلى كابوس، ليجري تأديبنا كلنا.
دخلت حركة "حماس" أيضاً صيرورة التأقلم الخطرة، أصبحت حكومة ولها حساباتها: إطعام الناس من الفتات، وبيروقراطية متضخمة، ولغة سياسية باهتة لا تقول شيئاً ولا ترسم وجهة وتعتمد على الإنشاء العام، وبتنا نخشى عليها من مصير حركة "فتح"، فلا عصمة لأحد.
هكذا، كنّا على أعتاب استبدال حماس بقوانين الله، لكن ما حدث، هو أن طليعة العبور ربطت حزاماً ناسفاً على وسط مرحلة سابقة وضغطت الزر كاسرةً سنوات طويلة من قواعد الاشتباك؛ من العقلانية المُكلفة لنا، ومن الرتابة، ومن الصيرورة المرعبة للتدجين.
إذا لم ندرك بعمق ما نوعية القرار الذي اتخذه هؤلاء الرجال المغامرون، أشجع أهل الأرض، فلن نراكم فهماً على ما فعلوه، وبالضرورة لن تلوح لنا أنواره، فالأنوار في عصر الظلمات تحتاج إلى رؤيتها البصيرة والبصر معاً، ومن طُمست بصيرته سيكون أي وهج محل ريبة له.
عندما كنت مُتمسمراً أمام التلفاز أول خمس ساعات، تذكرت قولك عندما كنت شاباً: مشكلتنا أننا لا نملك قائداً شجاعاً مُجازفاً لم تخصِهِ العقلانية، كما كان نابليون حين وصفه هيجل: "رأيت روح التاريخ يمتطي حصانه".
يا صديقي، لقد رأينا روح التاريخ تمتطي "الفيزبا" وتعبر السياج في 7 أكتوبر، فما لنا لم نعد قادرين على احتمال روعتنا؟!
الحسابات الوثنية
لقد بدا وكأننا غير قادرين على منح ما حدث رهاننا الروحي، خوفاً من عواقب الصدمة. كأن "رفسة من فرس تركت في الجبين شجاً وعلمت القلب أن يحترس"2،أن يحترس من رفع سقف التوقع، وترقب الحلم، ومن فرط تعب الإرادة والجبن أمام جموح الحلم، تُدفع الناس لعدم تصديق قدرتها على الفعل.
إننا بذلك نلتقي مع التعب الوثني، الذي يَفزع من أي حلول لعالم الغيب في عالم الشهادة، ويبادر إلى إخراج المعية الإلهية واللا متوقع والتفاصيل الصغيرة والأشياء المخفية من التحليل، ويتسمّر أمام المعادلات الحسابية، ويفضّل في النهاية أن يخسر في قواعد يعرفها على أن يربح في قواعد لا يعرفها.
ليس الأمر هنا في ثنائية "عقلانية" و"لا عقلانية"، بل في نوعين من العقلانية: واحدة تفهم العقل باعتباره جزءاً من عملية أوسع لماهية الأحداث السياسية وتُشكّل الحسابات جزءاً منها، وأخرى لا تفهم إلا الحسابات ولأنه كذلك لا تعود حتى الحسابات تعمل لصالحها.
تقول لي لقد ذهبنا من دون حسابات كافية لهذه الخطوة. حسناً، إذا كان مطلوباً أن يعدّوا ما يستطيعون، فلقد أعدوا أكثر مما يستطيعون.
إن كان هناك نقص في الحسابات، فدعني أذكّرك أننا ذهبنا لمعركة بدر الكبرى بنقص في المعلومات وليس بتمامها؛ ألا تقول الآية: "إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ". ولله الأمر من قبل ومن بعد.
أراد ربّ التاريخ ما حدث لحكمة باطنة ستتجلّى مع الأيام، ولحكمة ظاهرة أيضاً رأيناها أمامنا، فلقد بعثت روح بأكملها في كلمة ظُنّ حتى أمس أنه جرى شطبها في منطقتنا العربية والإسلامية: الجهاد.
أجيال قادمة جديدة كان سيُقذف بها خارج التاريخ، بلا مربين ولا قدوات ولا مجاهدين، متروكين لأظافر الثورات المضادة المتوحشة، تعيد نحتهم بقسوة.
جرى تنظيم الكوادر ذوات العدد بخمس ساعات، آلاف الأفراد الآن انضموا لخلايا صامتة لا ندري متى يأذن الله لها وتنفجر كقنابل عنقودية لا يُعرف أين مركزها وأين طرفها. كسكين سويسري هذا الحدث الجارح، سيُستعمل لأغراض عدة وقت تقاطع الظروف مع الأداة التي تخصها.
الحسابات! يا صاحبي لقد كان ظهرنا للحائط، لم يتركوا لنا شيئاً. ألم نصل في عام 2000 لهذا الاستنتاج، ومن أجله دخلنا الانتفاضة الثانية؟ دعنا نتذكر لقد أدركنا وقتها أن "حلّ الدولتين" لم يكن سوى فخّ، ولذلك قرّرنا أن نلعب خارج قواعد اللعبة، فقتلوا أبو عمار والياسين والرنتيسي وأبو علي… أقصد قتلوا كل الصف الأول الذي استنتج أنه لا بد من الخروج عن قواعدهم، وعوّلوا على أن الحصار في غزة سيتكفّل بكي الوعي، ووضعوا علينا عجوز المقاطعة في الضفة.
ثمّ دُفعنا سريعاً لاستنتاج أن خيار السلطة والدخول في الانتخابات هو الطريقة الوحيدة للتعبير عن إرادتنا السياسية، وبذلك خسرنا كثيراً من منجزات الفعل العسكري في الانتفاضة الثانية، والذي جعل المقاومة لا تخضع لمعادلات السلطة بشكل تام، هو قدرتها على الاحتفاظ بالقوّة واستخدامها عند لزوم الأمر للدفاع عن خياراتها انطلاقاً من عام 2007.
تصفير عدّاد كلّ شيء
لقد وضعوا جزءاً كبيراً من نخبة الانتفاضة الثانية في السجون، تنهش الأيام من أعمارهم. تصفير السجون هدف سامٍ، لأن الأسرى يدفعون ثمن اختيارهم الدفاع عنّا، ونسيانهم جريمة علينا ألا نعتَد العيش معها. إذا سادت ثقافة نسيان من يُعتقل، فسيُصبح الفعل المقاوم في ذاته أقل قيمة في نفوس الناس، في نفوس من هم في الأسر ومن هم خارجه من أهل ومجتمع.
تصفير السجون ضرورة نضالية، لأن عدونا من المهم أن يدرك على الدوام كلفة حياتنا وقيمتها، خصوصاً فيما يتعلق بالمناضلين الذين بادروا بتقديم حياتهم، وأننا سنستمر في الخطف والتبادل حتى لا تصبح مهانتنا سهلة.
تصفير السجن سيتيح لنا تجديد نخبتنا القيادية، ووضعها مجدداً في أيدي المغامرين الأمينة، التي هي من تجرّأت في السابق على إيذاء "إسرائيل".
ومع ذلك تصفير السجون هدف ضمن أهداف أخرى.
الهدف السياسي للعملية، هو هذا: القفز عن السياسة التي رسموها وجعلت من قتلنا عملية غير مكلفة لهم. أن نجعل ديتنا أكثر كلفة، أن نخلق أفقاً جديداً للجهاد في المنطقة يكسر مع ما سبق من مناوشات، أن نعيد ربط حلمنا بأحلام الناس المتروكين حولنا، أن نتمكن في المستقبل من الاستفادة من الروح التي انفجرت وعياً وغضباً وثأراً في أجيال كاملة تنتظر وما بدلت تبديلا، أن نكسر صورة "إسرائيل" وسطوتها ونجعل من أسطورتها التي بنيت على دمنا محط سخرية، وأن نكسر فكرتها القائمة على ردعنا وعلى التفكير ألف مرة قبل أن نمسها بطريقة تؤذيها، أن نكسر أمن المستوطنين ونشكّك في ثقتهم بحرّاسهم، ليتحسسوا باستمرار جواز السفر الآخر ويراقبوا موعد الرحلة القادمة.
ولكن أيضاً، أن نكسر النظام العالمي من خلال كسر "إسرائيل"، فليست "إسرائيل" احتلالاً منعزلاً تدعمه الدول الغربية، بل هو تعبير حقيقي عنها وعن مصالحها وعن منظومتها العقائدية. وهي قاعدة متقدمة لهذا النظام، ولذا جعل هذه الشراكة عبئاً هو هدف سياسي لا يستهان به، فما وضعته قاعدة متقدمة لك لا يستطيع حماية نفسه أمام قطاع صغير ومحاصر، فكيف يمكن الاعتماد عليه في حروب قادمة أكبر. خفض قيمة مشروع "إسرائيل" في سوق العالم، ورفع تكلفة بقائه؛ هذا ما تفعله مقاومته.
إنّ هبة النظام العالمي لنصرة "إسرائيل" وولاءهم وبراءهم فيما يتعلق بها، يتجاوز فكرة المصالح، ولذلك نحن لا نُهدّد مصالح الغرب فقط بضرب "إسرائيل"، بل نهدد فكرة الغرب نفسها، ونذكّي النار في الجذوة التي لم تنطفئ يوماً في تحديهم وتحدي هيمنتهم، من أفغانستان إلى العراق ومروراً بسوريا وليس انتهاءً بفلسطين. هذا صراع تكثف آخر مائة سنة، واشتد في آخر 20 سنة منه حين انطلقت حملة تصفيتنا باسم "الحرب على الإرهاب"؛ احتلال أفغانستان والعراق ثم الثورات على الأنظمة الوسيطة في بلادنا ثم الثورات المضادة وحُمّى التحالف مع "إسرائيل".
هل حدث كل هذا في 20 سنة فقط؟ لا بد أنّ تَكبسل الزمن وتسارعه يطوي داخله انبعاثة جديدة على وشك الحدوث، ويدعمها عدم استقرار عالمي يشهد صعود الصين وروسيا، وتراجع أميركي وأزمة اقتصادية تلوح بالأفق، إنها ظروف مناسبة لولادة الجديد من خلف ظهر العالم، فلنربط الأحزمة.
العشرون الأخيرة تركض بسرعة آخذة من دمائنا كلنا، واضعة مصائرنا في اتجاه واحد، ليس لدينا خيار غير المقاومة. إننا نسهم بدورنا في حرب المواقع الجديدة، التي تحاول تغيير نتائج الحربين العالميتين، حيث دُمّر الجسم السياسي الذي يوحدنا وبتنا بلا مرجعية جامعة، مُفتّتين، يسهل إخضاع كل قطعة جغرافية على حدة، لقد حان الوقت لتغيير هذه المعادلة التي استقرّت على أجسادنا ودمائنا طويلاً.
لا بد أن نخرج أنداداً من المعركة حتى مع من مدّوا لنا يد العون. إننا طرف قوي وقادر على المشاركة في رسم شكل المستقبل، وتحالفاتنا هي تحالفات الأنداد، فما حدث أعاد تعريف العدو لنفسه؛ وهذا جوهر كي الوعي، ولكنه أيضاً أعاد تعريفنا عند "الأصدقاء"؛ وهذا جوهر التحالفات الندية.
ستقول لي: كيف سيحدث كل هذا ونحن محاصرون كل ما نتمنّاه هو وقف إطلاق النار؟ أقول لك حدث بالفعل. لقد ظنّوا أن الإبادة تكفي لردعنا! قتلنا كلنا! إنهاء أي وجود لجماعة فلسطينيّة! لقد جنّدوا جيناتنا لحربهم، وليس الموضوع يخصنا وحدنا، ما انطلق لن تتوقف انطلاقته، ونحن نؤدّي دورنا خلاله لا أكثر.
ربما يأخذ كلّ هذا وقتاً طويلاً، لكنه بدأ بالفعل. إننا نقف في المكان الصحيح من معارك العالم القادمة، وليس أشد كلفة من أن تتحدى شرّ البرية؛ كفرة النظام العالمي، إلا أن تخضع لهم، ولقد تجرّعنا ذلك لسنوات.
ألا تحن مثلي ومثل الملايين ممن ذاقوا ويلات هذا النظام، لتدفيعه ثمن العيش بكرامة؟ للموت ونحن نحاول على الأقل؟ فنكون كمن مات في منتصف الهجرة إلى ما يحلم، غريباً قد وقع أجره على الله.
إلى يوم السؤال الأكبر
أراك تُفكّر في كل هذا وعينك على أدائنا السياسي الذي أخذ بسرعة يُردّد أسطوانة: نوافق على حدود الرابع من حزيران 1967. إنه يريد سريعاً أن يقول للنظام أننا لسنا مجانين لدرجة أننا لا نملك حلولاً ومقترحات، أو أننا لسنا مارقين عن قواعدكم لدرجة التفكير بما هو أبعد. لطالما كانت هذه الأدوار موزعة ومتناغمة، فلتحدث وفق منطقها، وليقولوا ما يريدون، الوقائع ذهبت أبعد بكثير ممّا توحي لهم الأماني.
فهذه الحلول تجاوزها الميدان منذ عام 2000، وجاءت "صفقة القرن" تتوج نتائجها. لم يعد لدينا مشروع سياسي، وصيرورة أوسلو انتهت في الضفة، حيث هناك دولة ولكن للمستوطنين. أما مشروع غزة، فقد قال كلمته ووضع خلاصته. والداخل المحتل نصبّوا عليه "أبو رغال". في حين أصبح اللاجئون خارج حسبة أي أحد. ولو نادى منادي الكون في 6 أكتوبر: أيها الهنود الحمر الجُدد، لالتفتنا جميعاً.
كثيراً ما كنّا نُردّد معاً أننا ننجح في العمل العسكري ونخفق في السياسة. وبينما ركض العسكري متعلّماً ومستفيداً من كل ما حدث معه، وقف السياسي عاجزاً عن تطوير أدائه، ومُتكلّساً في لغته، وارثاً ذهنية "فتح" التي رسمت للجماعة الفلسطينية حدود تسييسها.
كلّ هذا صحيح، ولكني أرى هذه المرة أن تسييس العملية يكمن في ذاتها، أي أن العسكر اليوم يتحدثون السياسة، ربما دون أن يقصدوا ذلك، وهذا مفهوم في اللحظات القصوى للقتال، لكنه لاحقاً بحاجة إلى الترجمة في بقية أجهزتنا السياسية والإعلامية والتربوية.
وعلينا أن نتذكر أنّ السياسة الكبرى تحدث في مكان بعيد عن هذا كله. هذا الحدث قادم من المستقبل، ولذلك فإن لغته ستولد ببطء، وإن فواعله الجدد الذين سيهضمون نتائجه في جهازهم العصبي لم يظهروا على الشاشات بعد. ربما يكون منهم أصحاب البأس الذين ينتظرون انكسار باب السجن، وربما يكونون في دفعة جيلية جديدة تكره الثرثرة وتفضّل العمل طويل النفس، فلكل روح حرّة نفقها الخاص في مواجهة أعين النظام الدولي.
إنّ "إسرائيل" عازمة على سحقنا كلنا للنهاية، ورغبة النظام الدولي في وضع مسار سياسي يضفي شيئاً من العقلانية على هذا الجنون اليهودي، لن تفلح. فلقد نجحنا في استفزاز غرائز الوجود الأساسية لمشروعهم، ولئن كانوا يتذكرون احتمالية فنائهم مع كل مفترق طرق، مُنسجمين بذلك مع الجينات الثقافية لأجدادهم الذين وثّنوا ديانة التوحيد، فإننا هذه المرة جعلنا هواجسهم حقيقة. وكلّما زاد توحش النظام عكس ذلك شيئاً من شعوره الحقيقي بالخطر.
إن "إسرائيل" خطيرة بالفعل، لكننا نحن أيضا خطيرين. ليس الأمر في أننا نملك قوتهم أو تحالفاتهم، هذا بعيد جداً، لكننا عصيون على الموت، وهذا معنى أن "الشهداء أحياء عند ربهم"، ذلك أن الشهادة هي ابتكار التوحيد الأساسي ومخالبه المُدببة في مواجهة همجية الوثنية. لن يجدوا ما يخيفوننا به ما دمنا نعد الموت حياة، وما داموا يقاتلون باسم الأمم المتحدة ونقاتل بأسماء الله الحسنى، وهذا جوهر سعيهم المحموم في الهجوم على عقيدتنا وثقافتنا. يعرفون جيداً أن عددنا القليل تُكثّره نوعية ما نعتقد به، وأسلحتنا المحدودة نعوّضها باتساع المعية الإلهية.
وإنزال الخوف بنا سرعان ما يستحثّنا لمعاودة الكرّة، ذلك أن ما نطلبه أبعد بكثير مما يملكونه. مملكتنا ليست من هذا العالم، ومليكنا لا يشبه ملوك الأرض، تعالت حكمته فلا نحيط بها، وتقدست قدرته فلا يعلو عليه أحد. نحن عبيد الذي بارك بما فعلنا ولن يُضيّعنا.
صديقي الجنرال المتعب، ثمّة مسحة من جنون بمن يُفكّر في قلب الطاولة على النظام العالمي مرّة واحدة، لكنه جنون يُمكن شرحه. عقلانيّتنا الباردة تجاه ما يحدث هي العصية على الشرح، والأسوأ، أنه لا يمكن الدفاع عنها يوم السؤال الأكبر.
مرتاس -طارق خميس
وصلتني رسالتك أيها الصديق، ودعني أقدمك للقرّاء باسم الجنرال المُتعب. وصلتني رسالتك المليئة بالأسئلة عن المعنى خلف السابع من أكتوبر، وهي أسئلة تشتد وخزاً بالرأس كلما زادت معاناة أهلنا وازداد معها عجزنا.
وليكن واضحاً عندك أيها القارئ المتربّص، أن صديقنا لم يتعبه الوهن الذي يصيب الناس عادةً من حب الدنيا وكراهية الموت، أبداً، بل لطالما كان آخذاً بعنان الخطر يسوقه تجاه كل هيعة وفزعة، يبتغي الموت مظانه1.وأنّه وإن كان بعيداً اليوم عن كل ميادين النزال، فإن روحه مازالت محاربة تنتظر يوم يؤذن لها لتغادر محدودية الطين التي حبست فيه.
لكنه اليوم بالمحصلة مثلنا كُلّنا. لقد أٌخذنا رهائن لمحتكري العنف، سحبوا سلاحنا، ووقفنا هكذا؛ كل فرد وحده نراقب المجازر بأدوات نصرة محدودة.
الفارق بيننا أيها الجنرال المُتعب، أنك ذقت في يوم من الأيام طعم الجهاد، على خلافنا نحن الذين ما زلنا محرومين من وضع غضبنا في مصارفه الصحية؛ صدور الأعداء. هناك، حيث يمكن للشخصية أن تشهد اكتمالها بأداء فروضها قرب خطر الفناء، إذ سيتاح للإنسان أن يعرف كل شيء دفعة واحدة، لكن بالمحصلة لن يعرف إلا شيئاً واحداً.
إننا نسكن فوق جناح بعوضة، وعندما يرفّ جناحها ضيقاً بنا ننتقل إلى فسحة بلا نهاية، "يوتوبيا" المؤمن التي لا يرضى "يوتوبيا" غيرها؛ الآخرة. فاللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.
هذاجوهر ما يميز هؤلاء المقاتلين، هو أنهم لم يَعِدوا أحداً بجنة الأرض، لم يخدعوا أحداً كما تواترت أيديولوجيات الأرض على خديعة الناس، لقد أوقفوا أنفسهم أمام حقيقة الدنيا، وضربوا موعداً مؤجلًا مع كل متعها، تُسد بهم كل ثغور الدنيا، وبهم يُتقى اعتياد المهانة؛ "يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء"،كما جاء في الحديث.
صديقي الجنرال المُتعب، رسالتك مليئة بالأسئلة الحقيقية، وهي أسئلة تدور في ذهني وفي أذهان كثيرين، وأنا أكتب لك أساساً كاتباً لنفسي مُذكّراً إياها بالحقائق التي رأتها يوم الطوفان، زاجراً لها أن يُفزعها شيوع الموت وخذلان القريب والبعيد على أن تشكّ بما رأت. لقد جاء المجاهدون بالصدق، وعلينا أن نصدّق به، لأننا سنسأل عن هذا بالذات، سنسأل عن تصديقنا.
قطع الطريق على الهاوية
تقول لي: ما هدف السابع من أكتوبر؟
ولكن قل لي قبلها: ما البديل عن السابع من أكتوبر؟ ما الذي تقترحه؟ وكيف كنا سنكون لولاه؟ عندما نكون على مفترق طرق، بين طريق الفناء الأكيد وطريق فيه احتمال النجاة والنصر معاً، فما الذي تختاره؟ أو دعنا نفكر بكلمة "الاختيار" نفسها؟ ما الذي أمامنا بعد تصميم عدونا على سحقنا عن بكرة أبينا؟
ما الذي أمامنا حين يُقدّر الظاهر فوق عباده أن نُظهر الحق ونخوض معركة فرقانه، غير أن نليق بقدرنا ونحتمله بكرامة وحمد؟ لأن النصر وعدُ من يقبل أقداره ويكونها كما ينبغي، فالنصر مقام يُوصل إليه بتمرين طويل من النصرة والقتال، ولكن دون أن نتخيل النصر نقطة نصل إليها وينتهي عندها كل شيء، إنه طريق خُلق وأقدار.
ومع كل هذا أقول لك: كل تقييم للحدث هو سابق لأوانه. لا يمكننا تقييم حدث ما وهو ما زال يحدث، والمحطات الفارقة في التاريخ تستمر في قطف ثمارها لسنوات، حتى إذا وجدت نفسك بعد سنين وقد حققت نصراً كاسحاً، قلت: انظروا هناك، إلى تلك النقطة في التاريخ، منها ستبدأ الحكاية.
ما حدث ينتمي للأحداث الضخمة التي تفتح المستقبل على غيب محمّل بكل الاحتمالات. وهذا يعني أن نتائج السنة القادمة ليست هي نتيجة المعركة النهائية فحسب، وأن ما سيحدث لاحقاً أهم مما يحدث الآن على أهميته.
من طبيعة الحرب أن تخسر معارك وتربح أخرى، ما يحدد القيمة الكلية لجولاتنا مجتمعة هو الوجهة التي تنتظم فيها هذه الجولات من القتال. إنّنا نبني البعيد الذي يخصنا بكل جدارة، وهذا البعيد رهين الروح التي ستخرج بها من هذه المعركة. هدف عدونا هو كسرنا إلى الأبد، سيخسر الجيش النظامي حين لا يحقق أهدافه، ستنتصر مقاومتنا بمجرد قدرتها على الاستمرار، وهو استمرار يصونه السياسيّ بإضفاء السردية والوجهة عليه. وهذه أيضاً مهمة بناء السردية القوية للحدث والبناء عليها.
أعرف أن سؤالك "لماذا؟"، هو بالطبع ليس سؤالاً عن مشروعية المقاومة، بل سؤال عن حجم العملية التي كانت لا بد ستُخلّف وراءها ردّة فعل مثل هذه قد تشكل خطراً وجودياً علينا.
حسناً، هذا تحديداً ما يجعل من 7 أكتوبر حدثاً فارقاً وهائلاً. أنت تذكر عندما تحدثنا قبل معركة "سيف القدس" عام 2021، كان يغلب على تقييمي أنه جرى إخراج سلاح المقاومة خارج القدرة على الإيلام، وبالتالي خارج القدرة على إحداث أثر سياسي. لقد تأقلمت "إسرائيل" مع جولات التصعيد، وهو ما يتفق مع ما أوصى بهتقرير راندالذي أجرى مراجعة لحروب غزّة من 2008 وحتّى ما قبل 2021، بأن نمط "جزّ العشب" الذي يتبعه الجيش الإسرائيلي هو أنسب نمط، أي عدم القضاء على حماس وعدم الذهاب معها لمعركة صفرية.
لقد كانت مقاومتنا في عين عدونا عشباً زائداً في حديقته الخلفية، وهكذا كان أهلنا وناسنا قتلى معروفة ديّتهم. يُقتلون في جولات متباعدة، ثم يُقتلون ببطء خلال الحصار، ثم يقتلون عندما يحاولون الهرب؛ لقد جرى تحويل القطعة التي تحرّرت إلى كابوس، ليجري تأديبنا كلنا.
دخلت حركة "حماس" أيضاً صيرورة التأقلم الخطرة، أصبحت حكومة ولها حساباتها: إطعام الناس من الفتات، وبيروقراطية متضخمة، ولغة سياسية باهتة لا تقول شيئاً ولا ترسم وجهة وتعتمد على الإنشاء العام، وبتنا نخشى عليها من مصير حركة "فتح"، فلا عصمة لأحد.
هكذا، كنّا على أعتاب استبدال حماس بقوانين الله، لكن ما حدث، هو أن طليعة العبور ربطت حزاماً ناسفاً على وسط مرحلة سابقة وضغطت الزر كاسرةً سنوات طويلة من قواعد الاشتباك؛ من العقلانية المُكلفة لنا، ومن الرتابة، ومن الصيرورة المرعبة للتدجين.
إذا لم ندرك بعمق ما نوعية القرار الذي اتخذه هؤلاء الرجال المغامرون، أشجع أهل الأرض، فلن نراكم فهماً على ما فعلوه، وبالضرورة لن تلوح لنا أنواره، فالأنوار في عصر الظلمات تحتاج إلى رؤيتها البصيرة والبصر معاً، ومن طُمست بصيرته سيكون أي وهج محل ريبة له.
عندما كنت مُتمسمراً أمام التلفاز أول خمس ساعات، تذكرت قولك عندما كنت شاباً: مشكلتنا أننا لا نملك قائداً شجاعاً مُجازفاً لم تخصِهِ العقلانية، كما كان نابليون حين وصفه هيجل: "رأيت روح التاريخ يمتطي حصانه".
يا صديقي، لقد رأينا روح التاريخ تمتطي "الفيزبا" وتعبر السياج في 7 أكتوبر، فما لنا لم نعد قادرين على احتمال روعتنا؟!
الحسابات الوثنية
لقد بدا وكأننا غير قادرين على منح ما حدث رهاننا الروحي، خوفاً من عواقب الصدمة. كأن "رفسة من فرس تركت في الجبين شجاً وعلمت القلب أن يحترس"2،أن يحترس من رفع سقف التوقع، وترقب الحلم، ومن فرط تعب الإرادة والجبن أمام جموح الحلم، تُدفع الناس لعدم تصديق قدرتها على الفعل.
إننا بذلك نلتقي مع التعب الوثني، الذي يَفزع من أي حلول لعالم الغيب في عالم الشهادة، ويبادر إلى إخراج المعية الإلهية واللا متوقع والتفاصيل الصغيرة والأشياء المخفية من التحليل، ويتسمّر أمام المعادلات الحسابية، ويفضّل في النهاية أن يخسر في قواعد يعرفها على أن يربح في قواعد لا يعرفها.
ليس الأمر هنا في ثنائية "عقلانية" و"لا عقلانية"، بل في نوعين من العقلانية: واحدة تفهم العقل باعتباره جزءاً من عملية أوسع لماهية الأحداث السياسية وتُشكّل الحسابات جزءاً منها، وأخرى لا تفهم إلا الحسابات ولأنه كذلك لا تعود حتى الحسابات تعمل لصالحها.
تقول لي لقد ذهبنا من دون حسابات كافية لهذه الخطوة. حسناً، إذا كان مطلوباً أن يعدّوا ما يستطيعون، فلقد أعدوا أكثر مما يستطيعون.
إن كان هناك نقص في الحسابات، فدعني أذكّرك أننا ذهبنا لمعركة بدر الكبرى بنقص في المعلومات وليس بتمامها؛ ألا تقول الآية: "إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ". ولله الأمر من قبل ومن بعد.
أراد ربّ التاريخ ما حدث لحكمة باطنة ستتجلّى مع الأيام، ولحكمة ظاهرة أيضاً رأيناها أمامنا، فلقد بعثت روح بأكملها في كلمة ظُنّ حتى أمس أنه جرى شطبها في منطقتنا العربية والإسلامية: الجهاد.
أجيال قادمة جديدة كان سيُقذف بها خارج التاريخ، بلا مربين ولا قدوات ولا مجاهدين، متروكين لأظافر الثورات المضادة المتوحشة، تعيد نحتهم بقسوة.
جرى تنظيم الكوادر ذوات العدد بخمس ساعات، آلاف الأفراد الآن انضموا لخلايا صامتة لا ندري متى يأذن الله لها وتنفجر كقنابل عنقودية لا يُعرف أين مركزها وأين طرفها. كسكين سويسري هذا الحدث الجارح، سيُستعمل لأغراض عدة وقت تقاطع الظروف مع الأداة التي تخصها.
الحسابات! يا صاحبي لقد كان ظهرنا للحائط، لم يتركوا لنا شيئاً. ألم نصل في عام 2000 لهذا الاستنتاج، ومن أجله دخلنا الانتفاضة الثانية؟ دعنا نتذكر لقد أدركنا وقتها أن "حلّ الدولتين" لم يكن سوى فخّ، ولذلك قرّرنا أن نلعب خارج قواعد اللعبة، فقتلوا أبو عمار والياسين والرنتيسي وأبو علي… أقصد قتلوا كل الصف الأول الذي استنتج أنه لا بد من الخروج عن قواعدهم، وعوّلوا على أن الحصار في غزة سيتكفّل بكي الوعي، ووضعوا علينا عجوز المقاطعة في الضفة.
ثمّ دُفعنا سريعاً لاستنتاج أن خيار السلطة والدخول في الانتخابات هو الطريقة الوحيدة للتعبير عن إرادتنا السياسية، وبذلك خسرنا كثيراً من منجزات الفعل العسكري في الانتفاضة الثانية، والذي جعل المقاومة لا تخضع لمعادلات السلطة بشكل تام، هو قدرتها على الاحتفاظ بالقوّة واستخدامها عند لزوم الأمر للدفاع عن خياراتها انطلاقاً من عام 2007.
تصفير عدّاد كلّ شيء
لقد وضعوا جزءاً كبيراً من نخبة الانتفاضة الثانية في السجون، تنهش الأيام من أعمارهم. تصفير السجون هدف سامٍ، لأن الأسرى يدفعون ثمن اختيارهم الدفاع عنّا، ونسيانهم جريمة علينا ألا نعتَد العيش معها. إذا سادت ثقافة نسيان من يُعتقل، فسيُصبح الفعل المقاوم في ذاته أقل قيمة في نفوس الناس، في نفوس من هم في الأسر ومن هم خارجه من أهل ومجتمع.
تصفير السجون ضرورة نضالية، لأن عدونا من المهم أن يدرك على الدوام كلفة حياتنا وقيمتها، خصوصاً فيما يتعلق بالمناضلين الذين بادروا بتقديم حياتهم، وأننا سنستمر في الخطف والتبادل حتى لا تصبح مهانتنا سهلة.
تصفير السجن سيتيح لنا تجديد نخبتنا القيادية، ووضعها مجدداً في أيدي المغامرين الأمينة، التي هي من تجرّأت في السابق على إيذاء "إسرائيل".
ومع ذلك تصفير السجون هدف ضمن أهداف أخرى.
الهدف السياسي للعملية، هو هذا: القفز عن السياسة التي رسموها وجعلت من قتلنا عملية غير مكلفة لهم. أن نجعل ديتنا أكثر كلفة، أن نخلق أفقاً جديداً للجهاد في المنطقة يكسر مع ما سبق من مناوشات، أن نعيد ربط حلمنا بأحلام الناس المتروكين حولنا، أن نتمكن في المستقبل من الاستفادة من الروح التي انفجرت وعياً وغضباً وثأراً في أجيال كاملة تنتظر وما بدلت تبديلا، أن نكسر صورة "إسرائيل" وسطوتها ونجعل من أسطورتها التي بنيت على دمنا محط سخرية، وأن نكسر فكرتها القائمة على ردعنا وعلى التفكير ألف مرة قبل أن نمسها بطريقة تؤذيها، أن نكسر أمن المستوطنين ونشكّك في ثقتهم بحرّاسهم، ليتحسسوا باستمرار جواز السفر الآخر ويراقبوا موعد الرحلة القادمة.
ولكن أيضاً، أن نكسر النظام العالمي من خلال كسر "إسرائيل"، فليست "إسرائيل" احتلالاً منعزلاً تدعمه الدول الغربية، بل هو تعبير حقيقي عنها وعن مصالحها وعن منظومتها العقائدية. وهي قاعدة متقدمة لهذا النظام، ولذا جعل هذه الشراكة عبئاً هو هدف سياسي لا يستهان به، فما وضعته قاعدة متقدمة لك لا يستطيع حماية نفسه أمام قطاع صغير ومحاصر، فكيف يمكن الاعتماد عليه في حروب قادمة أكبر. خفض قيمة مشروع "إسرائيل" في سوق العالم، ورفع تكلفة بقائه؛ هذا ما تفعله مقاومته.
إنّ هبة النظام العالمي لنصرة "إسرائيل" وولاءهم وبراءهم فيما يتعلق بها، يتجاوز فكرة المصالح، ولذلك نحن لا نُهدّد مصالح الغرب فقط بضرب "إسرائيل"، بل نهدد فكرة الغرب نفسها، ونذكّي النار في الجذوة التي لم تنطفئ يوماً في تحديهم وتحدي هيمنتهم، من أفغانستان إلى العراق ومروراً بسوريا وليس انتهاءً بفلسطين. هذا صراع تكثف آخر مائة سنة، واشتد في آخر 20 سنة منه حين انطلقت حملة تصفيتنا باسم "الحرب على الإرهاب"؛ احتلال أفغانستان والعراق ثم الثورات على الأنظمة الوسيطة في بلادنا ثم الثورات المضادة وحُمّى التحالف مع "إسرائيل".
هل حدث كل هذا في 20 سنة فقط؟ لا بد أنّ تَكبسل الزمن وتسارعه يطوي داخله انبعاثة جديدة على وشك الحدوث، ويدعمها عدم استقرار عالمي يشهد صعود الصين وروسيا، وتراجع أميركي وأزمة اقتصادية تلوح بالأفق، إنها ظروف مناسبة لولادة الجديد من خلف ظهر العالم، فلنربط الأحزمة.
العشرون الأخيرة تركض بسرعة آخذة من دمائنا كلنا، واضعة مصائرنا في اتجاه واحد، ليس لدينا خيار غير المقاومة. إننا نسهم بدورنا في حرب المواقع الجديدة، التي تحاول تغيير نتائج الحربين العالميتين، حيث دُمّر الجسم السياسي الذي يوحدنا وبتنا بلا مرجعية جامعة، مُفتّتين، يسهل إخضاع كل قطعة جغرافية على حدة، لقد حان الوقت لتغيير هذه المعادلة التي استقرّت على أجسادنا ودمائنا طويلاً.
لا بد أن نخرج أنداداً من المعركة حتى مع من مدّوا لنا يد العون. إننا طرف قوي وقادر على المشاركة في رسم شكل المستقبل، وتحالفاتنا هي تحالفات الأنداد، فما حدث أعاد تعريف العدو لنفسه؛ وهذا جوهر كي الوعي، ولكنه أيضاً أعاد تعريفنا عند "الأصدقاء"؛ وهذا جوهر التحالفات الندية.
ستقول لي: كيف سيحدث كل هذا ونحن محاصرون كل ما نتمنّاه هو وقف إطلاق النار؟ أقول لك حدث بالفعل. لقد ظنّوا أن الإبادة تكفي لردعنا! قتلنا كلنا! إنهاء أي وجود لجماعة فلسطينيّة! لقد جنّدوا جيناتنا لحربهم، وليس الموضوع يخصنا وحدنا، ما انطلق لن تتوقف انطلاقته، ونحن نؤدّي دورنا خلاله لا أكثر.
ربما يأخذ كلّ هذا وقتاً طويلاً، لكنه بدأ بالفعل. إننا نقف في المكان الصحيح من معارك العالم القادمة، وليس أشد كلفة من أن تتحدى شرّ البرية؛ كفرة النظام العالمي، إلا أن تخضع لهم، ولقد تجرّعنا ذلك لسنوات.
ألا تحن مثلي ومثل الملايين ممن ذاقوا ويلات هذا النظام، لتدفيعه ثمن العيش بكرامة؟ للموت ونحن نحاول على الأقل؟ فنكون كمن مات في منتصف الهجرة إلى ما يحلم، غريباً قد وقع أجره على الله.
إلى يوم السؤال الأكبر
أراك تُفكّر في كل هذا وعينك على أدائنا السياسي الذي أخذ بسرعة يُردّد أسطوانة: نوافق على حدود الرابع من حزيران 1967. إنه يريد سريعاً أن يقول للنظام أننا لسنا مجانين لدرجة أننا لا نملك حلولاً ومقترحات، أو أننا لسنا مارقين عن قواعدكم لدرجة التفكير بما هو أبعد. لطالما كانت هذه الأدوار موزعة ومتناغمة، فلتحدث وفق منطقها، وليقولوا ما يريدون، الوقائع ذهبت أبعد بكثير ممّا توحي لهم الأماني.
فهذه الحلول تجاوزها الميدان منذ عام 2000، وجاءت "صفقة القرن" تتوج نتائجها. لم يعد لدينا مشروع سياسي، وصيرورة أوسلو انتهت في الضفة، حيث هناك دولة ولكن للمستوطنين. أما مشروع غزة، فقد قال كلمته ووضع خلاصته. والداخل المحتل نصبّوا عليه "أبو رغال". في حين أصبح اللاجئون خارج حسبة أي أحد. ولو نادى منادي الكون في 6 أكتوبر: أيها الهنود الحمر الجُدد، لالتفتنا جميعاً.
كثيراً ما كنّا نُردّد معاً أننا ننجح في العمل العسكري ونخفق في السياسة. وبينما ركض العسكري متعلّماً ومستفيداً من كل ما حدث معه، وقف السياسي عاجزاً عن تطوير أدائه، ومُتكلّساً في لغته، وارثاً ذهنية "فتح" التي رسمت للجماعة الفلسطينية حدود تسييسها.
كلّ هذا صحيح، ولكني أرى هذه المرة أن تسييس العملية يكمن في ذاتها، أي أن العسكر اليوم يتحدثون السياسة، ربما دون أن يقصدوا ذلك، وهذا مفهوم في اللحظات القصوى للقتال، لكنه لاحقاً بحاجة إلى الترجمة في بقية أجهزتنا السياسية والإعلامية والتربوية.
وعلينا أن نتذكر أنّ السياسة الكبرى تحدث في مكان بعيد عن هذا كله. هذا الحدث قادم من المستقبل، ولذلك فإن لغته ستولد ببطء، وإن فواعله الجدد الذين سيهضمون نتائجه في جهازهم العصبي لم يظهروا على الشاشات بعد. ربما يكون منهم أصحاب البأس الذين ينتظرون انكسار باب السجن، وربما يكونون في دفعة جيلية جديدة تكره الثرثرة وتفضّل العمل طويل النفس، فلكل روح حرّة نفقها الخاص في مواجهة أعين النظام الدولي.
إنّ "إسرائيل" عازمة على سحقنا كلنا للنهاية، ورغبة النظام الدولي في وضع مسار سياسي يضفي شيئاً من العقلانية على هذا الجنون اليهودي، لن تفلح. فلقد نجحنا في استفزاز غرائز الوجود الأساسية لمشروعهم، ولئن كانوا يتذكرون احتمالية فنائهم مع كل مفترق طرق، مُنسجمين بذلك مع الجينات الثقافية لأجدادهم الذين وثّنوا ديانة التوحيد، فإننا هذه المرة جعلنا هواجسهم حقيقة. وكلّما زاد توحش النظام عكس ذلك شيئاً من شعوره الحقيقي بالخطر.
إن "إسرائيل" خطيرة بالفعل، لكننا نحن أيضا خطيرين. ليس الأمر في أننا نملك قوتهم أو تحالفاتهم، هذا بعيد جداً، لكننا عصيون على الموت، وهذا معنى أن "الشهداء أحياء عند ربهم"، ذلك أن الشهادة هي ابتكار التوحيد الأساسي ومخالبه المُدببة في مواجهة همجية الوثنية. لن يجدوا ما يخيفوننا به ما دمنا نعد الموت حياة، وما داموا يقاتلون باسم الأمم المتحدة ونقاتل بأسماء الله الحسنى، وهذا جوهر سعيهم المحموم في الهجوم على عقيدتنا وثقافتنا. يعرفون جيداً أن عددنا القليل تُكثّره نوعية ما نعتقد به، وأسلحتنا المحدودة نعوّضها باتساع المعية الإلهية.
وإنزال الخوف بنا سرعان ما يستحثّنا لمعاودة الكرّة، ذلك أن ما نطلبه أبعد بكثير مما يملكونه. مملكتنا ليست من هذا العالم، ومليكنا لا يشبه ملوك الأرض، تعالت حكمته فلا نحيط بها، وتقدست قدرته فلا يعلو عليه أحد. نحن عبيد الذي بارك بما فعلنا ولن يُضيّعنا.
صديقي الجنرال المتعب، ثمّة مسحة من جنون بمن يُفكّر في قلب الطاولة على النظام العالمي مرّة واحدة، لكنه جنون يُمكن شرحه. عقلانيّتنا الباردة تجاه ما يحدث هي العصية على الشرح، والأسوأ، أنه لا يمكن الدفاع عنها يوم السؤال الأكبر.
مرتاس -طارق خميس