عن الولع في مدح الزعماء

سعد القرش
نيسان ـ نشر في 2018/03/19 الساعة 00:00
لا أحب إسداء النصائح، تطوعا أو تلبية لطلب؛ لإيماني بثقل النصيحة. ولو حاك الإثم في صدري، فلا أنصح إلا نفسي، وأذكّرها بهذا النهي “لا تمدح حاكما على قيد الحياة ولو كان نبيا رسولا”. وبهذه القاعدة الذهبية أنتصر على نفسي الأمارة، وعلى وسوسة شيطان أوعز إليّ بمدّ يدي إلى رفّ قريب بمكتبتي، لالتقاط كتاب ضخم عن أنور السادات. كتاب منبوذ لا أقربه إلا كل بضع سنوات، كلما ضاقت واستحكمت ومسّني شيء من اليأس، واحتجت إلى قدر من تدبر المصائر، ومد الخيوط إلى نهايات واحتمالات أخرى لا تتفق تماما مع “إجماع” يحظى به حكام على قيد الحياة. ولم أجد وصفا لكتاب “أنور السادات رائدا للتأصيل الفكري” أكثر دقة وإيجازا من عنوان رواية نجيب محفوظ “عبث الأقدار”، وأضفت كلمات مثل “تعس الكاتب والكتاب والمستهدف به”. وقضت الأقدار بموت الكتاب في حياة السادات، فكان من الأعمال قصيرة العمر محدودة الهدف، أما وجوده بندرة في طبعته الوحيدة عام 1975 فيدين المثقف الذي يبتغي بالكتابة وجها لم تخلق له، ويمدّ بها حبلا إلى الحاكم، وهو لا يدرك قسوة اختبار الزمن، وأن لا سلطان لأحد على القارئ الذي يملك وحده حق الفرز. وقد تولى مؤلف الكتاب مناصب أكاديمية، وأصدر العشرات من مؤلفات نقدية وروايات أنتجت أفلاما ومسلسلات لا تجذب انتباه أحد، وتمضي إلى النسيان، مثل مؤلفها الذي مات في صمت عام 2017، في درس بليغ لبؤس المثقف. كان السادات يتطاوس منتشيا بنصر على مرمى عشرة أشهر، حين انتهى المؤلف من كتابه، في أغسطس 1974، ولم ينتبه إلى ضرورة ترسيم العلاقة بين المثقف والسياسي، واتخاذ موقف نقدي، والوقوف على مسافة تسمح له بتوقع تقلب القلب، وهو بين إصبعين من أصابع شيطان تمكن ممن هم أكثر حكمة من السادات، وأولهم تابعي اشتهر بالزهد والتنسك والعلم، هو عبدالملك بن مروان أحد فقهاء المدينة الأربعة. وقد أتاه الملك على غير انتظار؛ ورفض عمرو بن سعيد بن العاص أن يبايعه، فاتفقا على أن تكون الخلافة لعبدالملك، ومن بعده لعمرو. كتبا بذلك كتابا، وأشهدا عليه أشراف أهل الشام، ثم غدر به عبدالملك، فأُخذ عمرو، كما يسجل أبوحنيفة الدينوري في “الأخبار الطوال”، “فأضجع، وذبح ذبحا، ولُف في بساط. كان السادات يتطاوس منتشيا بنصر على مرمى عشرة أشهر، حين انتهى المؤلف من كتابه، في أغسطس 1974، ولم ينتبه إلى ضرورة ترسيم العلاقة بين المثقف والسياسي، واتخاذ موقف نقدي وأحس أصحاب عمرو بذلك، وهم بالباب، فتنادوا، فأخذ عبدالملك خمسمئة صرة، قد هيئت، وجُعل في كل صرة ألفا درهم، فأمر بها، فأُصعِدت إلى أعلى القصر، فألقيت إلى أصحاب عمرو بن سعيد مع رأس عمرو، فترك أصحابه الرأس ملقى، وأخذوا المال، وتفرقوا. فلما أصبح عبدالملك أخذ من أصحاب عمرو ومواليه خمسين رجلا، فضرب أعناقهم، وهرب الباقون، فلحقوا بعبدالله ابن الزبير”. وأمر عبدالملك بإرسال الحجاج بن يوسف إلى ابن الزبير، فحاصر مكة شهرا، وضرب الكعبة بالمنجنيق، ثم قتل ابن الزبير، أول مولود في الإسلام، وصلبه منكسا، وبعث برأسه إلى عبدالملك. أما معمر القذافي، فقال عنه عبدالمنعم الهوني، الذي عرفه عام 1963، إنه كان “شديد التمسك بمواقيت الصلاة ويحض الآخرين على التزامها”، واشترط في من ينضم إلى التنظيم صفات “كلها أخلاقية أي يصلي.. بعضهم كان يتهمه بالإفراط في المظاهر خصوصا حين يكون في النادي العسكري ويحين موعد الصلاة وينادي الحاضرين للصلاة معه… كان يعارض استخدام أي شتيمة في الحديث أو أي نعت قاس بحق أحد الزملاء”. ووافقه عبدالرحمن شلقم في كون القذافي الشاب “شبه قديس. يواظب باستمرار على الصلاة والصيام. استقامته وورعه كانا مصدر إحراج لرفاقه… كانوا لا يلعبون الورق في حضوره ويطفئون السجائر إذا وصل… وثمة من سماه الفقيه”. وقال علي عبدالسلام التريكي إن القذافي كان يجري محادثات في الكرملين عام 1971، ونظر إلى ساعته وقال: حان وقت صلاة العصر. وانصرف للصلاة، “ولعلها كانت المرة الأولى التي يقيم فيها السوفييت حفلة على شرف زعيم زائر ولا يقدمون الخمر”. الروايات السابقة سجلها غسان شربل في كتابه “في خيمة القذافي.. رفاق العقيد يكشفون خبايا عهده”. وبعد الثورة على القذافي قال التريكي إنه كان دمويا. وقال عبدالسلام جلود، إن القذافي خلال دراسته كان حسن السلوك “لكن سلوكه انقلب تماما”، منذ عام 1975 حين انفرد بالسلطة، بعد فشل انقلاب عضو مجلس قيادة الثورة عمر المحيشي. عمّد القذافي مفكرا في معرض القاهرة للكتاب، والبعض ممن فاتتهم البيعة ذهب إلى العقيد حاملا دراسة عن عبقريته الأدبية. سقط الكثيرون عربا ومصريين، وقال نوري المسماري أمين جهاز المراسم العامة إن القذافي كان يجتمع بالمثقفين في القاهرة “كي يهينهم”. يسيء إلى المثقف الغافل، لا أقول المغفّل، مديحه لأي حاكم على قيد الحياة، فلا يتخيل تحولاته حين تدير السلطة رأسه. وما قاله نبيل راغب عن الريادة الفكرية للسادات لم يخطر ببال بريطاني أن يصف به تشرشل، ولم يفكر فرنسي أن يقوله في ديغول، فالخط الفكري عند السادات متسق ومتناغم، “ففلسفة التأصيل الفكري عند السادات فلسفة إنسانية حضارية شاملة… وسيلاحظ القارئ أن التاريخ سيسجل للسادات دوره كرائد فكري بنفس الدرجة التي سيسجل بها دوره كقائد سياسي. فإن ما قدمه من فلسفة للتأصيل الفكري يضيف الكثير إلى البناء الذي بدأه رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد وغيرهم من رواد الفكر الحديث في الأمة العربية”. لم تعد المساحة تتسع لما قيل عن التبشير بعبدالفتاح السيسي قبل أربع سنوات، ولكني أستأذن محرر “العرب” في أربع كلمات إضافية: السيسي أصابنا بخيبة أمل. العرب
    نيسان ـ نشر في 2018/03/19 الساعة 00:00