فلاديمير بوتين المستبد الشرعي تماما
نيسان ـ نشر في 2018/03/29 الساعة 00:00
قبل ساعات قليلة كشف الناطق الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن الشروع في تنفيذ برنامج الرئيس فلاديمير بوتين للنهوض بالبلاد سيبدأ قريبا.
وقال بيسكوف إن “لدى الرئيس برنامجا محددا تحدث عنه خلال الرسالة الأخيرة إلى الجمعية الفيدرالية سوف تتم المصادقة عليه وتحويله إلى قانون”. وكان بوتين قد قال إن روسيا بحاجة إلى قفزة نوعية، مشيرا إلى الميول السياسية يجب أن لا تقسّم البلاد. لأن الجميع يملك نفس الهدف، وهو مصير روسيا.
وقبل هذه اللحظة بسبعة أعوام، أي في بدايات العام 2011 كان الدبلوماسيون الروس الذين كنا نلتقي بهم، لا يخفون توجّسهم مما سمّوها بالخطة الأميركية الرأسمالية لزرع زلزال في الشرق الأوسط تمتد ارتداداته، ليصل إلى الاتحاد الروسي وجمهورياته الإسلامية وأن الهدف النهائي هو تفكيك العالم.
أركان البوتينية يستطيعون، من أجل البرهنة على صحة النظرية في سياساتها الخارجية، مواجهة كل الإدعاءات الأميركية عن حقوق الإنسان وغيرها. فحين يرفع الأميركيون أصواتهم بحق الشعوب في الحرية يقول لهم لافروف (رأيناكم في سجن أبوغريب)
كان الروس جادين. ولكن الحرب الباردة قد انتهت! كنا نقول لهم. وكانت إجاباتهم بأن الحرب مع الإمبريالية لم تكن باردة في يوم من الأيام وأنها لم تنته ولن تنته أبدا. ألا يشبه هذا ما يقوله مندوب روسيا في مجلس الأمن هذه الأيام؟ ألا يشبه التصريحات السوفييتية الماركسية اللينينية التي اعتادت روسيا على العيش تحت ظل يافطتها منذ ثورة أكتوبر الشعبية في العام 1917 وحتى ثورة بوريس يلتسين الذي حل البرلمان السوفييتي وألغى دستور روسيا وسحق انتفاضة شعبية روسية عارمة، ليتنحى بعدها مسلّماً السلطة كلها لرئيس وزرائه وضابط المخابرات الشيوعي الشاب الذي يحكم روسيا منذ ذلك الحين؟
اليوم يعلن ذلك الشاب الذي تجاوز الستين فوزه بالانتخابات الرئاسية الروسية الأخيرة لفترة رئاسية رابعة بنسبة 76 بالمئة من أصوات الناخبين الذين يتجاوز عددهم الـ55 مليون روسي بقليل.
ورغم تشكيك كثيرين في نتائج تلك الانتخابات والآليات التي استندت إليها، إلا أن بوتين لا يكترث كثيرا بهذا، فهو لا يؤمن أصلا بقواعد اللعبة العالمية لما يسميه الغرب بـ”الديمقراطية”. ليس هذا فقط، بل إن العالم حسب التفسير الأميركي قد انتهى، وصار شيئا من الماضي، لم تعد تهضمه روسيا بأي صورة كانت.
وبالفعل، لم يكن الاستراتيجيون الأميركيون يعبثون حين بدأوا بدراسة “البوتينية” قبل سنوات عديدة، فبوتين مع الوقت طوّر تصوراته عن الكوكب والسياسات المتبعة فيه، وشق لنفسه ولروسيا طريقا مختلفا تماما، مع الوقت صار يعتبر كما قال هؤلاء “كابوسا حقيقيا” يؤرق الغرب.
ولكن ماذا فعل بوتين؟ هو فقط أنقذ روسيا من أن تبتلعها العولمة، هاجس دول العالم كله بعد إعلان الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب عن ولادة النظم العالمي الجديد، نظام القطب الأوحد. ولدت روسيا الجديدة من تلك اللحظة.
وقبل أعوام قليلة كان يمكننا أن نقرأ رأيا لواحد من هؤلاء الباحثين المدققين في تحولات العالم. إنه العالم السياسي جورج فريدمان، الذي تنبأ بأن “ظاهرة بوتين” تشبه حالة الاتحاد السوفييتي في العام 1980، ما أن لاح خطره على العالم حتى انهار بعدها خلال عشر سنوات. يعتقد فريدمان أن روسيا أضعف كثيرا مما يحاول بوتين أن يظهره للعالم، وأن مشكلتها الحقيقية تكمن في الاقتصاد. وإذ تشكل موارد الطاقة نسبة معتبرة من الميزانية الروسية، فإن سعر النفط تراجع منذ عام 2014 بشدة. وتقول الأرقام إن احتياطيات روسيا البالغة 91 مليار دولار ستتبخر. لكن نبوءة فريدمان لم تتحقق حتى الآن.
كان بوتين يفاجئ العالم بقدرة روسيا على الولادة من جديد من رحم أخطاء العالم ذاته. أنظر إليه كيف تعامل مع الأزمات على امتداد خرائط القارات. كان يستثمر فيها من أجل روسيا على طول الخط، وخاصة حين يصل الغرب إلى طريق مسدود تجاه تلك القضايا والأزمات.
يتقدم بوتين خطوة حذرة إثر خطوة حذرة، لكنه حين يطمئن إلى ما يسميه بغباء الغرب وحماقته وتهوّره ورغبته في الهيمنة، يتقدم بقوة ويعلن انتصاراته، كما فعل حين أعلن ضم القرم.
كان بوتين قد سيطر على شبه الجزيرة عسكريا، لكنه أعلن عن ضمّ القرم ليقول للعالم إن روسيا تتحدى. وأنها أًضحت قادرة على فرض إرادتها. فعل الأمر ذاته في سوريا، ودون أن يرف له جفن.
أيديولوجيا هجينة
كثيرون يشككون في مصداقية ونتائج الانتخابات الروسية الأخيرة التي فاز بها بوتين، إلا أنه لا يكترث كثيرا بهذا، فهو لا يؤمن أصلا بقواعد اللعبة العالمية لما يسميه الغرب بـ”الديمقراطية”. ليس هذا فقط، بل إن العالم حسب التفسير الأميركي قد انتهى عند بوتين، وصار شيئا من الماضي، لم تعد تهضمه روسيا بأي صورة كانت
يؤمن بوتين وأركان حكمه بالعديد من الأفكار التي ورثوها من حقبة الشيوعية، ومن أحقاب سحيقة في التاريخ الروسي، ومن الفكر الليبرالي أيضا.
لكن كل شيء يفيد مصلحة البوتينية هو قابل للاستحضار، فروسيا التي كانت وثنية قبل قرون قليلة فقط، باتت “كعبة” المسيحية الأرثوذوكسية في العالم اليوم. والمدافعة عن المسيحيين الشرقيين في كل مكان، والمعتزة بتقاليدها التي تبدأ بالغطس في المياه المتجمدة لإرضاء القديسين، إلى تعميد الصواريخ والمقاتلات الروسية على القساوسة قبل الذهاب إلى الحرب ضد الإرهاب الإسلامي.
كل هذا يفيد بوتين، فهو وريث فلاديمير الأول حفيد حاكم روسيا روريك، الذي بات يُعرف باسم “فلاديمير العظيم” بعد أن أدخل المسيحية إلى روسيا، وها هو فلاديمير جديد يرفع من شأن دور روسيا في حماية المسيحية في العالم.
وحين يتطلب الأمر يتحول مستشرقو البوتينية إلى منظرين معتبرين ينطلقون من نظريات حقيقية درست العلاقة ما بين الشرق المسلم والعالم، وبرهنت على أن الشرق خطر حقيقي، يمكن أن ينفلت تماما إذا لم يجر كبحه. ولن يعجز هؤلاء عن تقديم البرهان على ذلك مبتدئين بحروب القرم وغير منتهين عند الإخوان وداعش والنصرة.
يتقدم هؤلاء ميخيائيل بوغدانوف الرجل الذي يعمل في الخلف، ولكنه يتولى كافة شؤون الشرق الأوسط في الكرملين وتمتد الملفات الموكلة إليه من أزمة مياه النيل إلى الأوضاع في ليبيا حتى أزمات الخليج واليمن والعراق وسوريا وإيران.
أما حين يتطلب الأمر استحضار الإرث الاشتراكي، والستالينية، يتقدم سيرجي لافروف الذي ما يزال ينظر إلى الغرب كخطر رأسمالي، وهو الذي عاش فيه طويلا مندوبا للاتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة في نيويورك.
لافروف وفريقه يستطيعون من أجل البرهنة على صحة البوتينية في سياساتها الخارجية مواجهة كل الإدعاءات الأميركية عن حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها من تلك الأكاذيب التي اعتاد الغرب على ترويجها من أجل مصالحه أيضا. فحين يرفع الأميركيون أصواتهم بحق الشعوب في الحياة، يذكرهم لافروف بغزواتهم ضد أفغانستان والعراق وليبيا، ويقول لهم “رأيناكم في سجن أبوغريب. ورأينا ديمقراطيتكم التي تركتموها خلفكم في كابول وبغداد. ديمقراطية طائفية تلفيقية”. يتساءل لافروف: لماذا نضيّع الوقت في تصديق البراغماتية الأميركية، فلنذهب فورا إلى الهدف، ونتناول القضايا من الآخر. لن يكذب علينا الرأسمالي الأميركي بعد الآن.
وبالطبع لا يسأل أحدٌ: ولكن هل توجد في روسيا اشتراكية معاكسة لتلك الرأسمالية التي يتحدث عنها لافروف وفريقه؟. لم يعد هذا مهما مادام الروس يواجهون الأقنعة الغربية في كل لحظة.
ماذا عن أوروبا؟
لقد سقطت تلك الأقنعة الغربية دفعة واحدة، حتى أن الغرب عاجز عن تفسير الظواهر تفسيرا ذكيا، تقول صحيفة لوموند الفرنسي إن “بوتين مستبد من نوع آخر. إذ أنه شرعيٌ تماماً”. وتلقي باللوم على الديمقراطية الروسية التي، كما تصفها الصحيفة، تعاني خللاً حقيقيا في الدولة والمجتمع. ولكن سيقول بوتين “انظروا من الذي يتحدث. الفرنسيون؟ ألم يكونوا على وشك انتخاب مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية المتطرفة؟ هل هذه ديمقراطيتكم؟ على الأقل نحن ليست لدينا عنصرية في موسكو كتلك التي لديكم في باريس”.
يعيب الأميركيون على بوتين الصفقات التي عقدها مع زعماء المافيا في روسيا، وقراره وضع يده في أيديهم كي لا تبقى الدولة الروسية بعيدة عن نشاطات المافيا، إذ أن صديق بوتين فلاديمير ياكونين هو واحد من زعماء تلك العصابات التي تنتشر نشاطاتها في أنحاء العالم، وهو من يدير السكك الحديدية الروسية، متربعا على إمبراطورية من المجموعات التجارية تقدر بمليارات الدولارات.
إلى جانب ياكونين يتحرك في ظل بوتين إيغور سيتشين الذي يسيطر على عملاق النفط روسنفت، ويوري كوفالتشوك مالك بنك روسيا، وغينادي تيمشنكو الذي يسيطر على الشركة الروسية لإنتاج الغاز نوفاتيك، وأقطاب مقاولات البناء أركادي وبوريس روتنبرغ.
يقول قدري ليك، عضو بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن الفساد بالنسبة إلى الكرملين، هو وسيلة فعالة للحفاظ على السيطرة على النخب الاقتصادية والسياسية والبلدية ووسائل الإعلام وحتى المثقفين، مضيفا أن “هذا هو أساس الحراك الاجتماعي في روسيا. ففي هذا النظام القائم على المحسوبية، تتم المكافأة على أساس الولاء وليس الجدارة، فالحصول على ثروة مكتسبة بطرق غير مشروعة هو مكافأة”.
المعهد الملكي للشؤون الدولية تشاثام هاوس نشر في العام 2012 تفاصيل مثيرة حول برنامج بوتين للسيطرة على البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا وروسيا البيضاء من خلال استخدام شركات وهمية مثل شركتي “إيرال ترنس غاز” و”روس أوكر إنيرجو”.
وتعتبر البوتينية بناء على ذلك أن الاتحاد الأوروبي يشكل تهديدا لروسيا دون شك. ولذلك كانت موسكو تعارض بحزم أي تقارب بين الاتحاد الأوروبي وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا.
الواشنطن بوست أيضاً لا تتوقف عن الحديث عن البوتينية وربطها مع النشاطات غير الشرعية في العالم، وقد نشرت تصريحات للمدير التنفيذي للمنتدى الدولي للدراسات الديمقراطية كريستوفر ووكر قال فيها “يجب أن ينظر إلى زعزعة
الاستقرار في أوكرانيا من قبل روسيا على أنها تطبيق لجهود الكرملين لمنع الأوكرانيين من الحصول على حكومة ديمقراطية وقابلة للمساءلة وهو ما من شأنه أن يعرض للخطر النظام الروسي الاستبدادي والفاسد”. ويضيف ووكر أن “هذا أيضا هو السبب وراء تمويل موسكو للأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرفة التي هي بطبيعتها ضد الاتحاد الأوروبي، بدءا من الجبهة الوطنية في فرنسا”.
لكن لا شك أن لبوتين رأيا آخر، حيث يرد على كل تلك الانتقادات بالقول “ألم تتعاملوا في أميركا مع المافيا المحلية لديكم؟ وعقدتم معها صفقات أنقذت الولايات المتحدة من الكساد في الثلاثينات؟ ألم يصعد برلسكوني على رأس الحكم في إيطاليا؟ لماذا تواصلون نفاقكم وكيلكم بمكيالين؟ لكن ومع ذلك فإن الاقتصاد الروسي لا يزال يعاني الكثير من الصعوبات. فنسبة الفقر بلغت 13.4 بالمئة حتى العام قبل الماضي، والبطالة بلغت 5.3 بالمئة.
العالم تغير، وربما كان بوتين الوحيد الذي أدرك كم تغير هذا العالم
روسيا التي تعتبر أكبر دولة في العالم تحتل مساحة تساوي مساحة كوكب بلوتو يأتي ترتيبها في المرتبة الـ12 على مستوى العالم من حيث الناتج المحلي، وقوتها الشرائية هي السادسة عالميا. وهي أكبر منتج للماس في العالم. وفي العام 2015 بلغ حجم اقتصادها 1.3 تريليون دولار.
هل بوتين ضرورة عالمية
يعتقد بوتين أنه تمكن من حجز مقعد لروسيا والبوتينية في المستقبل، ولكنه بالطبع مستقبل مرتبط به شخصيا، ولا تشفع لهذه النظرية مطالبة المشرّعة الروسية يلينا بوروسوفا أحد أعضاء مجلس الدوما ورئيسة أمانة المرأة والطفل، بتوزيع “نطاف” بوتين على الروسيات لإنتاج جيل قومي روسي معتد بنفسه يواصل مشروع بوتين التحديثي.
لقد بدا الأمر وكأن العالم، وخاصة الأميركي منه، بحاجة إلى بروز البوتينية، كرد على ما يجري هناك في النصف المتقدم منه، صورة منعكسة، ونقيض لا بد منه. فلا بد من مسوّغ للنزاعات، ولا بد من مبرر لخرق القانون بذريعة خرقه.
لكن ما لا يحسبه الغرب الأوروبي أن تخليق البوتينية بهذا الشكل وتركها تتدخل في العالم أمرٌ لا يمكن التنبؤ بنتائجه دوما. فروسيا تتضخم بشكل غير متوقع.
فأحدث الإحصاءات حددت عدد أفراد القوات المسلحة الروسية بنحو 2.019.629 عسكريا. وقد قامت روسيا أخيرا بالتدخل العسكري في كل من شبه جزيرة القرم، وسوريا، وزيادة وجودها في البحر المتوسط، وكذلك بحر البلطيق. إضافة إلى هيمنة جيش القراصنة الإليكترونيين الروس على العمليات غير الشرعية في الشبكة العنكبوتية حول العالم، إضافة إلى شراء الشركات الروسية للعقارات في مراكز تجارية عالمية مختلفة بشكل واسع.
لكن نظرية فريدمان حول روسيا بوتين تعود لتقول إن روسيا الحالية موشكة على الدخول في “شتاء قارس”. إذ أنه حسب فريدمان، أكثر ضعفا من تلك القوة التي كانت تسمى الاتحاد السوفييتي.
لكن ما ينساه الأميركيون دوما، في الحسابات حول البوتينية، هي أنهم ليس لديهم رونالد ريغان وجورج بوش هذه الأيام. بل دونالد ترامب الذي لم يحسم أمر تدخل بوتين ذاته في حملته الانتخابية وإيصاله إلى البيت الأبيض. العالم تغير فعلا، وربما كان بوتين الوحيد الذي أدرك كم تغير هذا العالم. واليوم مشكلة بوتين الحقيقية ليست في وصفه بأنه شبيه بـ”هتلر” كما قال عنه وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، بعد ثبوت ضلوع البوتينية في محاولة الجاسوس سيرجي سكريبال بالسلاح الكيميائي في سالزيري جنوب بريطانيا، وتخفيض العلاقات الدبلوماسية ما بين لندن وموسكو. أو في وصفه بأنه سفاح وقاتل أطفال كما يصفه السوريون بعد تدخله العسكري لصالح نظام الأسد، بل تكمن مشكلة بوتين الحقيقية القادمة في الانتقال السياسي الغامض الذي لا يعرف أحد عنه شيئاً بعد في زمن ما بعد بوتين.
ابراهيم الجبين- العرب
نيسان ـ نشر في 2018/03/29 الساعة 00:00