من قرش إلى بريزة و أوراق الذاكرة !
نيسان ـ نشر في 2018/04/16 الساعة 00:00
ماجد شاهين
( 1 ) من قرش إلى بريزة !
و إذا كان لا مناص من القول والاسترجاع ، وعلى سيرة المصروف اليوميّ في ذاكرتنا :
كنت في المدرسة في الصف الأوّل الابتدائي ّ _ في العام 1964 _ في مدرسة مادبا الابتدائية الأولى _ و المدرسة لا تزال قائمة ( البناء ) وعلى حالها وهي مملوكة لورثة العم المرحوم الشيخ شريف أبو الغنم .
كنت أحصل على ( قرش واحد ) يوميّا ً ، و كنا نذهب إلى المدرسة سيرا ً على الأقدام و في أيام العطلة المدرسية لم أكن أحصل على القرش .. بل ربّما نصف قرش ( تعريفه ) .
في المرحلة الإعدادية و حتى الصف الثاني الثانويّ _ كنت في الإعدادية في المدرسة ذاتها ثم انتقلنا إلى المدرسة الثانوية الوحيدة للبنين وهي مجاورة وقريبة للمدرسة الابتدائيّة وقريبة من وسط مادبا ولا تزال المدرسة قائمة واسمها حاليا ً ( مدرسة عماد الدين زنكي ) .
كنت أحصل على مصروف يوميّ في الأيام الدراسيّة بمقدار يتراوح بين ( 3 قروش _ شلن ) .
الشلن يساوي خمسة قروش والبريزة عشرة قروش .
في الصف التوجيهيّ في العام 1975 / 1976 ، صار مصروفي اليوميّ ( شلنا ً ) و القيمة ربما كانت ثابتة و قد تزيد إلى 7 قروش أحيانا ً في مناسبات خاصّة ثم ّ في النصف الثاني من العام المدرسي ّ صارت ( البريزة ) عنوانا ً جميلا ً .
كنّا نحبّ الحياة و كنّا نجد طعماً مميّزا ً في قرص الفلافل و حبّة البندورة
و رغيف الخبز وصحن العدس و طنجرة الكوسا الخرط و صحن الفاصولياء البيضاء بدون لحوم و قطعة الهريسة من صنع أهل الدار .
و كانت أوقات المرحبا واضحة و رائحة الليمون لا تفارق الحوش و البيلسانة تفرش ظلاها على المكان والرصيف .
و كان الجيران يتبادلون أطباق الضحك .
...
الحياة كانت أكثر جمالا ً وبهجة مما قاله ناظم حكمت ، هو كان يقول : الحياة جميلة يا صاحبي !
و أنا أقول : كانت أكثر رقّة و لذّة و دهشة .
( 2 ) دور في مسرحيّة .
أدّيت دورا ً قصيرا ً في مسرحيّة مدرسية قبل خمس وأربعين سنة ، ومن بعدها لم أكن وإلى الآن أنفع في الإنصات إلى ما يقوله المؤدّون والممثلون المسرحيّون و لست قادرا ً على ' إمعان النظر ' إلى فرجة مسرحيّة أو حكاية يؤديها ممثلون في المسرح ، رغم أنّي أدركت منذ زمن بعيد أن المسرح حارس الذاكرة و صانعها وأن الحياة لا تزيد عن كونها مسرحا ً متحركاً يلعب فيه عدد هائل من الممثلين ، وكلّ منهم يؤدّي دوره !
لم أكن قريبا ً من المشهد المسرحيّ ، رغم حاجتي إليه ، ولم أكن بعيدا ً عنه رغم وقوفي هناك في طرف المسافة المفضية إليه أو التي يصنعها بائع عند طرف شارع ٍ مجاور لمسرح يطفح حياة و دهشة !
في اليوميّات المتحركة وسواها ، ما كان يفوتني مشهد ٌُ ،
جمعت أطراف حكاياتي من خلاصة ما يقوله الخارجون من المسرح .. كنت هناك في طرف الشارع وعند رصيف مجاور للمسرح ، و كان الخارجون منه وبعد ساعة أو ساعتين من الانفعال هناك عند خشبة المسرح و في قاعته و بين مقاعده ، كانوا يخرجون ويتمتمون .
هذا يقول أن ' براعة المخرج ' جعلت النص ّ حكاية اقتربت من وجع الناس ،
و تلك تقول أن ' اللقطة ' التي صمتت فيها الممثلة أو دمعت عيناها ، كانت عنوان الفكرة وحبكتها ،
و ثالث يقول أن ّ المشهد التاسع عابه تلعثم الممثل في السطر الخامس ،
و رابعة وخامس وسادسة وسابع وثامنة وتاسع وعاشرة و كثيرون يروون الحكاية و يضيفون إليها و يرون أن ّ المكان صار ضيّقا ً على الناس لولا رحابة النصّ و براعة الممثلين .
..
هكذا ، يظل الرصيف مسرحنا والشارع مرآته و الباعة الجائلون يغدون مخرجين مسرحيين أو ممثلين يؤدون أدوارهم في الهواء الطلق وفي العراء و عند الأسواق .
( 3 ) مدقـّة الحمّص و عجينة الفلافل و أنا !
نقعت ُ ' الحمّص الناشف ' و بعدها كنّا ننظفه من الأخشاب والحبة اليابسة التي لا تلين بالماء ، كنا نسمّيها ' الحبّة العجوز ' و لونها يميل إلى الأخضر .. ثم نفرم الكمية اللازمة بالماكنة اليدوية وبعدها صارت ' ماكينة آليّة ' و نفرم له البصل اللازم والثوم والبقدونس و نضع البهارات و نترك الخلطة لكي تستريح .. ثم ّ في الوقت المناسب نبدأ باستخدام القالب لنضع العجين في الزيت المغليّ ، فتخرج فاكهة الفلافل على شكل أقراص بنكهة طيبة زاكية ورائحة تفوح ، فتجلب المشتهين والمتذوّقين !
فعلت ذلت وكنت أفعله منذ زمن بعيد وحتى بدايات ثمانينيّات القرن المنصرم .
متعة ولذة ، ما بعدها لذّة ، أن يصنع المرء لقمة نظيفة نقية مشتهاة ويبيعها للناس أو يتناولها !
..
أمـّا ، الحمص المسلوق ، فكان عهدي به حتى أواخر 1967 في مطعم العائلة بمادبا ، في الدكان المقابلة لكنيسة الروم الأرثوذكس في البناء المملوك للعم المرحوم عطا الله المنصور الكرادشة رحمه الله ومن بعده أولاده وأحفاده ، والمطعم افتتحته العائلة سنة 1951 .. كنا نستخدم ' مدقـّة الحمص ' لكي نقدم للزبون صحن حمص طازج !
كان ، صحن الحمص أو الفول أو المسبحة أو القدسية و رغيف خبز الكماج الكبير و السرفيس المكوّن من قطع البندورة والبصل والليمون والمخلل و حبّات فلافل .. هذا الطبق كلّه كنا نقدمه للزبون على الطاولة ، فيأكل و يشبع و ربما يشرب شايا ً .. وحين يهم بالمغادرة يدفع ' شلنا ً ' ، أي خمسة قروش .
..
الآن : لحسة الحمص في ملعقتين ، تقتضيان أن ننقد المطعم نصف دينار !
ليس مهمّا ً ، فرق الأسعار والعملة و الجهد و الديكور .. المهم ّ وأكثر طعم الأشياء و اللقمة التي تملأ العين قبل الفم !
سقا الله على أيّام كنا فيها أطفالا ً و شبابا ً ،
حين كانت لنا عيون تقنع و بطون تشبع و أذواق تتقن الانتقاء و أوقات مكتظة بالفرح .
و لكل الذين يغضبون حين أكتب عن الفلافل والحمص والمطعم والأرصفة والحمير و الحجارة العتيقة ، أقول : اذهبوا إلى غيظكم !
نيسان ـ نشر في 2018/04/16 الساعة 00:00