يوسف حسن العيسوي خيار العاهل الأردني للإشراف على مكافحة البيروقراطية
نيسان ـ نشر في 2018/07/06 الساعة 00:00
محمد قبيلات- العرب
صدرت الإرادة المَلكية، في مطلع الأسبوع الماضي، بتعيين يوسف حسن العيسوي رئيسا للديوان المَلكي الأردني، ليحلَّ محلَّ الدكتور فايز الطراونة الذي شغل هذا المنصب ثلاث مرات، استمرت آخرها خمس سنوات خلت، وقدم استقالته مؤخرا، ليتم على الفور تعيين العيسوي، ضمن سلسلة تغييرات تم بعضها، في أعقاب الأحداث الأخيرة التي مرّت بها البلاد وتسببت بإقالة حكومة الدكتور هاني الملقي، وينتظر إتمام بعضها الآخر في الفترة الزمنية القادمة.
ويُعدُّ العيسوي من الرؤساء القلائل الذين تولّوا هذا المنصب ممن تدرجوا ضمن السلّم الوظيفي لملاكات الديوان المَلكي، وهو صاحب السجّل الوظيفي الذي يمتد لأكثر من خمسين عاما قضاها مناصفة بين الخدمة في القوات المسلحة والديوان الملكي. ويأتي هذا التعيين ضمن الأجواء والظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، ويُتوقع أن تستمر تفاعلاتها على شكل موجات واسعة من التغييرات في الصفوف الأولى من الكوادر والقيادات الأردنية، وقد تكون على عدة مستويات وتمتد للفترات الزمنية المقبلة، ضمن عملية وصفها بعض المتابعين بموجات “تسونامي الدوار الرابع” الارتدادية، نسبة إلى الاحتجاجات التي شهدتها البلاد نهاية مايو الماضي وامتدت إلى مطلع شهر يونيو الحالي.
التوظيف السياسي
لم تقف التشبيهات عند هذا الحد، بل ذهبت إلى أن تعيين العيسوي جاء ضمن عملية يمكن وصفها بالتوظيف السياسي لرجل غير سياسي في موقع حساس. تأتي حساسية الموقع اليوم لأن دوره بات يشغل مساحة واسعة من اهتمام المتابعين للتطورات السياسية المتسارعة التي تتميز بها المرحلة، كما تتزامن مع أسئلة كثيرة حول ماهية وظيفته، في محاولة يمكن أن توصف بالتأصيل التشريعي لدور الديوان الملكي وبعض المؤسسات الرسمية، وما إذا كانت بعض تلك المؤسسات المهمة في إدارة الدولة سيبقى لها نفس الدور أم أن التغيير سيشمل وظيفتها ومهماتها، مع علمنا بأنها ظلّت طوال العقود الماضية تشكل المرجعيات الوازنة للعمل السياسي أو العمق الاستراتيجي للدولة الأردنية.
ولا شك أن الديوان الملكي يقع منذ فترة تحت تركيز الأنظار، لدوره في صناعة القرارات المهمّة، بل لمباشرته تنفيذ مهمات الحكومات، ما أعاد طرح الأسئلة حول الحدود والصلاحيات الدستورية لمؤسسة الديوان الملكي، ولعل في تصريحات الملك عبدالله الثاني بن الحسين خلال لقائه صحافيين قُبيل تقديم حكومة الملقي استقالتها ما يؤشر إلى ذلك؛ حيث كشف الملك، في اللقاء، أنه كان مضطرا إلى متابعة وتنفيذ بعض أعمال وزراء الحكومة بنفسه، وأن عددا قليلا من هؤلاء الوزراء يقومون بواجباتهم بالشكل المقبول بينما الآخرون “نائمون”.
للديوان الملكي هيبة ومكانة كبيرتان عند الأردنيين، وكما يُحبّ أن يصفه الملك فهو بيتهم وموئلهم الذي بقي على الدوام فاتحا أبوابه للمواطنين، يفيئون إليه لقضاء حاجاتهم، وهذا ما قاله الملك في رسالة التكليف الملكية التي وجهت إلى يوسف العيسوي وطالبه فيها بأن تبقى أبواب الديوان مُفتَّحة للمواطنين كما كانت على الدوام.
لكن هناك من قرأ هذه الرسالة وهذا التكليف بفهم آخر، حيث ظلّ الديوان على الدوام يتقاطع بعمله مع الحكومات في أدائها لمهماتها، ما جعل ولاية الحكومة الدستورية موضع شك وبأنها منقوصة، فهي باتت مُزاحَمةٌ في تصريفها للأعمال من قبل جهة تُعد مرجعية عليا، فلا حيلة للوزراء برفض أوامرها أو حتى الاعتراض على نشاطها.
هذا مع العلم أنهم هم المسؤولون أمام الجهات الرقابية عن نتائج هذه الأعمال، حتى أن الدستور نص بشكل واضح على أن أوامر الملك الشفاهية لا تُعفي الوزراء من المسؤولية في حال قصّروا أو تجاوزوا القوانين، وذهبت بعض هذه القراءات إلى ما هو أبعد من ذلك في تفسيراتها لتعيين العيسوي في هذا المنصب، إذ رأت في ذلك أن صاحب القرار أراد الإفساح لحكومة الدكتور عمر الرزاز بأن تباشر ممارسة ولاياتها الدستورية بشكلها الكامل والأكثر استقلالية، ومن دون مزاحمة من جهات وازنة متحصّنة بالهيبة الملكية.
التقاطع مع عمل الحكومة
العيسوي معروف بعمله الدؤوب والحثيث، فهو العسكري والموظف الذي لا يتسلل إليه كلل أو ملل، ومن المعروف عنه على نطاق واسع حول طريقته في العمل، أن الموظفين غالبا ما يجدونه قد حضر باكرا ووصل قبل وصولهم مكان العمل، سواء في المكاتب أو في الميدان، وقد أشرف على أكثر من مهمة في الديوان الملكي، وأبلى بلاء حسنا، فمنذ بداية تعيينه في منصب إداري بسيط في الديوان الملكي، في أواسط التسعينات من القرن الماضي، كُلف بأرشفة وثائق الديوان الملكي، وأبهر الجميع بما أنجز ولفت إليه الأنظار، بأدائه المتقن.
وظلَّ يتدرج في مواقع مختلفة من مواقع الخدمة في الديوان، خصوصا بعد أن تم التوسع في كادر الديوان الملكي، في عهد عبدالله بن الحسين، حتى أصبح عدد كوادره وملاكاته أضعاف أضعاف ما كانت عليه في عهد الراحل الحسين بن طلال، وهذا ما شكل على الدوام مادة مثيرة للكثير من أسئلة معارضين بارزين تمحورت عموما حول الجدوى من التوسع في التوظيف والتعيينات، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من تخمة المؤسسات بالتعيينات لأسباب اجتماعية، وهو ما أنتج حالة مستفحلة من البطالة المقنّعة حسب رأيهم.
وقبل أن يصبح العيسوي في موقع الرجل الثاني في الديوان الملكي، أي أمينا عاما للديوان، كان يشغل موقع مستشار الملك المسؤول عن تنفيذ المبادرات الملكية، حيث أشرف على بناء مدارس ومراكز صحية ونوادٍ رياضية، ومساكن للمواطنين في المناطق النائية المصنفة بالأقل حظا من مكتسبات التنمية، وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن هذه المهمات، برغم أنها تصنف في خانة الأعمال الجليلة لما تنطوي عليه من بعد إنساني، إلّا أنها تدخل دائرة الالتباس، حسب بعض المتابعين، كونها تشكل حالة من التعدي على صلاحيات الحكومة، خصوصا أن لا نصوص تشريعية تفوّض الديوان الملكي بالقيام بمثل هذه الأعمال التنفيذية، والتي تعتبر في صميم عمل الوزارات، كما أن هذه الأعمال الممولة من خزينة الدولة غير خاضعة للجهات التي تمتلك صلاحيات المراقبة أو تقويم الأداء.
وهذا ما زجّ اسم الديوان في لُجّة نقاشات معلنة، طالت مؤسسة طالما ظلت بعيدة كل البعد عن العمل المباشر الذي يضعها في موضع التساؤل، كما أنها دخلت في تقاطعات أدّت إلى الاشتباك مع الأجهزة التنفيذية للدولة، وزاد الأمر حساسية أن مؤسسة الديوان كانت في العادة تُدار من قبل رئيس، على الأغلب ما يكون، من رؤساء الوزراء السابقين، أو من كبار الجنرالات المتقاعدين من القوات المسلحة، ما أعطاها زخما قويا وحضورا طاغيا يتجاوز الحدود المرسومة لعمل الديوان الملكي، ويدخل في علاقة غير مريحة مع عدة جهات تنفيذية لا تقتصر على الحكومة بل تتعداها إلى أجهزة ومؤسسات الدولة العميقة.
رأى كثيرون في تعيين الملك ليوسف العيسوي رئيسا للديوان وضع حد لهذه القصة، فهو ليس سياسيا بالمعنى التنفيذي للتسمية، بل إنه ابن الديوان الملكي الذي حافظ على علاقات دافئة مع مختلف مستويات الدولة، وحظي بثقة ملكية خاصة، عبّر عنها الملك عبدالله الثاني في متن كتاب التكليف، حيث ورد في منطوق التكليف الملَكي للعيسوي “فقد سبق لك أن عملت أمينا عاما للديوان الملكي الهاشمي العامر، ومستشارا فيه، ورئيسا للجنة المبادرات الملكية، وقبلها كنت أحد ضباط قواتنا المسلحة – الجيش العربي. وقد تابعتُ من كثب أداءك وعطاءك المتميز في المواقع كلها التي حللت فيها، وكنت مثالا في تحمل المسؤولية والحرص على النهوض بالواجب، بمنتهى التفاني والأمانة والإخلاص”. فليس أبلغ من هذا الخطاب تعبيرا عن الثقة الخاصة التي يوليها الملك لرجل خبره على مدى سنوات طوال من العمل.
الصورة الأخرى
لكن الصورة ليست وردية إلى آخر المشهد، حيث استثار تعيين العيسوي في هذا الموقع الحساس حفيظة أكثر من طرف سياسي، سواء من الليبراليين أو من المحافظين، فقد كان للخبر وقع الصدمة على كبار المتقاعدين من عسكريين ومدنيين، حيث كانت أسماء كبيرة تدخل ضمن الترشيحات لهذا الموقع، خصوصا مع بدء التسريبات بأن التغيير واقع لا محالة، ومن ضمن هذه الأسماء متقاعدون برتب عالية من الجيش أو رؤساء ووزراء سابقين يُعتبرون من أقطاب السياسة في الأردن.
اللافت هو اختيار صاحب القرار أن ينأى بالديوان عن حالة الاستقطاب المستشرية هذه الأيام، وتسميته أحد كبار الموظفين من الديوان ليملأ هذا الشاغر، وكأن الرسالة الضمنية التي أُريدَ لها أن تصل للأردنيين أن هذه المؤسسة تتبرأ بنفسها من تجاذبات كبار السياسيين ومراكز القوى، لتركن إلى مربع الحياد الإيجابي، الذي يهدف إلى تسكين التوتر والعودة بدور الديوان الملكي إلى حجمه وشكله الطبيعيين السابقين.
الحساسية ليست نابعة عند كبار الضباط من كون العيسوي تقاعد برتبة مقدم من الجيش أو ما قام به من مهن أثناء خدمته العسكرية، وليست متعلقة بأصوله الفلسطينية، وليس ذلك كله مرده المطامع الشخصية بالمنصب، بل يمكن أن يكون القلق من المستقبل القريب، والخوف على المكتسبات التي يمكن وصفها بالوطنية، فلقد سجل التاريخ لكبار وصغار موظفي الديوان في عهد الراحل الحسين دورهم في صناعة الهُوية الوطنية، ورسم صورة الدولة الأردنية، ومازال الناس يرددون الكثير من القصص التي جرت في هذه المؤسسة الوطنية، واستطاعت أن تسطر التأريخ الأردني على هواها، ومنها قصة ذلك الجندي من حراسات الحسين الذي سأل الملك الراحل الحسين بلغة بدوية صِرْفْ “علاّمك يا سيدي؟ أشوفك مهموم”، فما كان من الراحل الحسين إلّا أن باح له بهمومه المتعلقة برفض رئيس مجلس الوزراء تقديم استقالته، لينطلق ذلك الجندي من فوره باتجاه المكان المعقودة فيه جلسة مجلس الوزراء، ويعود بالاستقالة راكضا بها إلى الملك.
هذه القصة، وغيرها الكثير من القصص، تصنع خصوصية للتجربة الأردنية، وتشكل مزاجا أردنيا خاصا ينزع إلى صناعة مظلومية ما، مجبولة بالحنين إلى أيام كان يتقاسم بها الحرس العشاء مع الملك، أيام كانت فيها أعداد الموظفين في الديوان الملكي لا تتجاوز الخمسين موظفا، ولكل منهم قصة دخلت التاريخ للدولة الأردنية، سواء الحارس أو عامل المقسم، أو المصور، أو الطاهي.
أما الجناح الليبرالي، المربّى على الدلال كما يقولون، فإن أعضاء ناديه يحبون أن يمارسوا نشاطهم من هنا، من الديوان الملكي، حيث للقرارات سطوتها وقوّتها على المؤسسات، وحيث الحصانة من دوائر المساءلة، لذلك هم ينظرون إلى العيسوي بعين ملؤها عدم الرضا، باعتبار أنهم رسل التغيير الأجدر بالمواقع الحساسة، مواقع صنع القرارات التي تمتاز بسرعة تنفيذها.
لكن، وكما رأينا، فإن صاحب القرار أراد لهذه المؤسسة العريقة، والتي نشأت مع نشوء الدولة الأردنية، أن تشارك في بناء المرحلة الجديدة مبتعدة عن أطراف الشد والجذب، والحقيقة أن القرار بهذا الشأن ليس جديدا أو مفاجئا، فمنذ عام 2012 بدأ الانسحاب التدريجي من العمل الواقع في دوائر الاشتباك والتقاطع مع الأجهزة التنفيذية، وتم تقنين المبادرات الملكية، وتحويل الإعفاءات الطبية إلى جهات مختصة في المستشفيات ووزارة الصحة، كما تم إيقاف إشراف الديوان على المكرمات الملكية المتعلقة ببعثات الطلبة إلى الجامعات، وأُنيطت بهيئة تابعة لوزارة التعليم العالي، وتمّ توقيف الدعم والمنح بكافة أشكالهما، إضافة إلى وقف تعيين موظفين جدد في الديوان.
نيسان ـ نشر في 2018/07/06 الساعة 00:00