إذ تصبح سيناء عنوانًا للإرهاب فى مصر
نيسان ـ نشر في 2015/07/07 الساعة 00:00
بوسعنا الآن أن نقول إن الإرهاب صار له عنوان فى مصر، وقدم حقيقية وضعها فى المكان الغلط.
(١)
أتحدث عما جرى فى سيناء يوم أول يوليو الحالى، حين شكل أنصار جماعة داعش جيشا صغيرا ضم عدة مئات من المتطرفين، وزودوهم بأسلحة ثقيلة ومدافع مضادة للطائرات، ثم دفعوهم إلى مهاجمة نحو ١٥ كمينا ونقطة ارتكاز لتمكينهم من الاستيلاء على مدينة الشيخ زويد وإعلانها «إمارة إسلامية» فى شمال سيناء. ورغم ان المحاولة انتهت بفشل ذريع، فإنها كانت بمثابة إعلان عن وجود قاعدة للجماعة فى سيناء، لها حاضنتها الاجتماعية ولها حجمها المعتبر وتسليمها المثير للانتباه. ولها طموحاتها التى لم تعد خافية على أحد.
لا يختلف خبراء الشأن السيناوى حول ان التيار التكفيرى له حضور تقليدى منذ عدة سنوات فى محيط شباب القبائل ضمن تيارات أخرى متعددة، سلفية وغير سلفية، إلا أن محاولة الاستيلاء على مدينة الشيخ زويد كانت أول إعلان صريح بعد التحاق المجموعة بتنظيم دولة داعش، عن انتقالها من التبشير بالفكرة إلى محاولة إقامة كيان أو إمارة على أرض سيناء ترفع راية الجماعة. غير ان الصورة تظل منقوصة إذا لم نشر إلى ما جرى فى دمياط يوم ١٢ نوفمبر عام ٢٠١٤، حين استولى أحد ضباط البحرية بمعونة خمسة من عناصر التنظيم على لنش بحرى وخرجوا به إلى المياه الإقليمية وأعلنوا أنه أصبح تابعا لدولة الخلافة الإسلامية، فيما أسمته مواقع الجماعة «غزوة بحرية». وهى المغامرة التى انتهت بتدمير اللنش والقضاء على مختطفيه، بعدما لاحقته وقصفته طائرتان من طراز اف ١٦. وكان خبير الشئون السيناوية الباحث إسماعيل الاسكندرانى هو من نشر تفاصيل القصة على موقع «المدن» فى ١٤ نوفمبر، بعد الحادث بيومين.
عملية دمياط كانت أول إشارة إلى مستوى طموح عناصر داعش وتطلعاتهم فى مصر، وقد كشفت المعلومات التى نشرت فى وقت لاحق عن ان التنظيم استقطب بعض الضباط المفصولين من الخدمة. وهو ما تناقلته بعض المواقع وثيقة الصلة بالأجهزة الأمنية المصرية يوم ٦ فبراير من العام الحالى. وأشير فى هذا الصدد إلى أسماء بذاتها نسبت إليها أدوار فى التخطيط وتنفيذ بعض العمليات الإرهابية الكبيرة مثل تفجير مقرى مديرية الأمن فى الدقهلية والقاهرة ومحاولة اغتيال وزير الداخلية السابق. ذلك غير الهجوم على مواقع الجيش والشرطة فى سيناء الذى أوقع عشرات الضحايا، انتهاء باغتيال النائب العام المستشار هشام بركات. (٢)
ثمة ثغرات غامضة فى سجل وخلفيات تنظيم داعش أشرت إلى بعضها فى كتابات سابقة. بعضها يتعلق بتفسير تحولات عناوينها بدءا من جماعة التوحيد والجهاد وانتهاء بداعش ومرورا بأنصار بيت المقدس. البعض الآخر يخص دوافع نقل انشطتها من استهداف إسرائيل فى سيناء ومدِّها إلى أنحاء مصر، مع تركيزها على رجال الجيش والشرطة والقضاء. ثم ان هناك ثغرة أخرى فى السجل تتعلق بجنسيات المنخرطين فيها ومصادر تمويلها وتسجيلها والجهات الداعمة لها. ورغم شح المعلومات المتوفرة على تلك الأصعدة إلا أن هناك أمورا متفقا عليها بخصوصها، منها ما يلى: إن داعش تمثل الآن أقوى مجموعة إرهابية على أرض مصر، ورغم محدودية أعضائها إلا أنها تتمتع بقدرات وكفاءات عسكرية متميزة نظرا لانخراط بعض العسكريين السابقين فى عضويتها، إضافة إلى مستوى تسليحها الذى لا يتوفر لأية مجموعة أخرى فى الساحة المصرية. ثم ان هذه المجموعة حين كانت تحمل اسم أنصار بيت المقدس قامت بأخطر وأكبر العمليات الإرهابية التى تمت خلال السنتين الماضيتين. وهو ما أعلنته فى بياناتها وسجلته فى الأشرطة التى قامت ببثها. (قضية أنصار بيت المقدس التى تنظرها محكمة جنايات القاهرة حاليا متهم فيها ٢١٣ شخصا نسب إليهم ارتكاب ٥٤ جريمة). الأمر الثالث أن المجموعة استوطنت سيناء واعتبرتها قاعدة لانطلاقها مستفيدة من البيئة الحاضنة والجغرافيا المواتية. وتشير معلومات التقارير الأمنية إلى انهم انشأوا فى وقت لاحق أربعة فروع لهم فى منطقة الدلتا.
هناك ملاحظتان مهمتان على أنشطة التنظيم فى مصر، الأولى ان ثمة فرقا كبيرا فى طبيعة الأهداف ومستوى الأداء بين العمليات الإرهابية التى قام بها أنصار بيت المقدس وبين العمليات الأخرى التى شهدتها مصر. الأمر الذى يسوغ لنا ان نقول إن الأولين متخصصون ومحترفون فى حين ان الآخرين مجرد هواة. والقنابل البدائية التى يفجرونها فى الأماكن العامة أو يفشلون فى تفجيرها خير دليل على ذلك. فى حين أن اتقان ونجاح عملية اغتيال النائب العام مثلا شاهد على المستوى الاحترافى الذى توفر لأنصار بيت المقدس.
الملاحظة الثانية ان العمليات الإرهابية التى قام بها التنظيم فى مصر نسب أغلبها إن لم يكن كلها للإخوان تأثرا بمقتضيات وحسابات الصراع السياسى، الأمر الذى صرف الأنظار عن تنامى قدرات التنظيم فى سيناء. وهو ما بدا منه ان التعبئة السياسية باتت مقدمة على استحقاقات المواجهة الأمنية. ولا استبعد ان يكون ذلك بين ما شجع تنظيم أنصار بيت المقدس على محاولة إقامة إمارة فى سيناء تابعة لمشروع الدولة الإسلامية الذى تسوقه داعش، وشاء ربك أن يصبح ذلك خطأهم القاتل، الذى ورطهم فى شر أعمالهم. (٣)
سواء كان ذلك ناتجا عن الغرور أو سوء التقدير، فالشاهد ان تنظيم داعش أساء التقدير كثيرا حين تطلع لأن يكون له موطئ قدم على أرض مصر، وأغلب الظن أن النجاحات النسبية التى حققها فى العراق وسوريا كانت العامل الأهم الذى أغرى قياداته بأن يجربوا حظهم فى مصر، مستفيدين من «الجيب» الذى توفر لهم فى سيناء. إلا أن النشوة انستهم أن مصر وضعها مختلف عن العراق وسوريا. فالدولة لاتزال متماسكة ومجتمعها يضم بحرا من البشر ناهز تسعين مليون نسمة، وهؤلاء لا يعانون من مشكلات طائفية أو قبلية أو عرقية على النحو الحاصل فى العراق وسوريا وليبيا حيث صراعاتهم وتجاذباتهم سياسية بالدرجة الأولى. ثم ان فى البلد قوات مسلحة لها قدرتها النظامية وكفاءتها القتالية، بما لا يقارن بتشتت وتدهور كفاءة الجيش العراقى، أو تمزق وانهاك الجيش فى سوريا.
الخلاصة ان تنظيم داعش عندما جاء إلى مصر فإنه اختار العنوان الغلط، حيث أخطأ الحساب ولم يفرق بين مناخ وبيئة الدولة الفاشلة وبين حصانات الدولة المتماسكة التى لها مشكلاتها حقا ولكنها لاتزال تحتفظ بقوامها وحصاناتها النسبية التى نسجتها عوامل التاريخ والجغرافيا والتركيبة السكانية.
أضف إلى ما سبق أن مشروع داعش ذاته بلا مستقبل. ذلك انه مشروع همجى ليس ضد التاريخ فحسب، وإنما ضد الجغرافيا أيضا. ذلك ان النموذج الذى يقدمه التنظيم يتبنى أتعس ما فى الماضى ويسعى إلى هدم الحاضر والانتقام منه، بما لا يدع الفرصة للتفاؤل بالمستقبل. إن شئت فقل انه مشروع انقلابى بامتياز. مخاصم للقيم الحضارية فى الإسلام وفى العالم المعاصر. ولأنه عابر للحدود وغير معترف بالخرائط المستقرة القائمة، فإن خصومته شملت الجغرافيا أيضا. وانقلابه صار مستهدف الخرائط وليس منظومة القيم وحدها.
على صعيد آخر فإن المشروع نتاج بيئة سياسية واجتماعية لها سماتها الاستثنائية. حتى أزعم أنه استنسخ وحشية النظام البعثى فى العراق وسوريا واستثمر المرارات الطائفية والفوضى السياسية ضاربة الأطناب فى بلاد الشام، ومن رحم هذه البيئة خرج الدواعش علينا شاهرين سيوفهم. (٤)
فى بلاد الشام أصبح السؤال حول الاختيار بين النظام أو التنظيم واردا. بمعنى أيهما أسوأ النظام السياسى القائم أم تنظيم الدولة الإسلامية الذى فرض نفسه على الساحة. والسوريون محقون فى ذلك لأن بشاعة الاثنين تستدعى تلك الحيرة. وأهل السنة فى العراق معذورون أيضا لأن معاناتهم من متطرفى الشيعة تدفعهم إلى محاولة الاحتماء بالتنظيم الذى قد يبدو أقل سوءا.
فى الوقت الراهن لا محل لطرح السؤال فى مصر، وإذا كانت ظروف سيناء قد شكلت حاضنة نسبية لأفكار التنظيم ومشروعه، إلا أن ذلك يظل وضعا استثنائيا لا مجال لتعميمه على بقية أنحاء البلاد. صحيح ان محيط البشر الذى يضم ٩٠ مليون نسمة لن يخلو من أناس يبدون الاستعداد للالتحاق بالتنظيم لسبب أو آخر. لكن هناك فرقا بين حدوث ذلك الاستثناء وبين تحوله إلى ظاهرة اجتماعية. وهو ما لا ينبغى أن يستبعد الاهتمام بتحصين المجتمع على النحو الذى يحول دون استفحال الاستثناء وتحوله إلى ظاهرة. وذلك ملف يبدو أنه لا يحظى بالاهتمام الذى يستحقه. والجهد المبذول فيه محصور فى الإجراءات الأمنية وحسابات القوة العسكرية دون غيرها. لست أدعو إلى غض الطرف عن ذلك الجانب بطبيعة الحال، وإنما دعوتى تنصب على الاكتفاء بما يبذل على هذين الصعيدين من جهد لا أريد التقليل من أهميته. والحاصل فى سيناء بوجه أخص لنا فيه عبرة ينبغى ألا تغيب عن الأذهان. ذلك ان الإجراءات الأمنية والعسكرية المتبعة لم تحل دون ازدهار التنطيم هناك وتحول المجتمع أو بعض قطاعاته على الأقل إلى بيئة حاضنة لأفكاره.
وإذا كان التعويل على الاكتفاء بالحل الأمنى والحسم العسكرى خطأ وقعنا فيه، فثمة خطأ آخر لا يقل جسامة تورطنا فيه، تمثل فى السعى غير المباشر لتوحيد قوى مناهضة النظام فى مصر. ومن المفارقات فى هذا الصدد انه حين ينفرد تنظيم داعش بنهجه ويخاصم أو يحارب كل من عداه كما الحاصل فى سوريا وفى غزة مثلا، فإن خطابنا السياسى والأمنى يصر على ان يضع جميع المنتسبين إلى الإسلام السياسى فى سلة واحدة ويعتبرهم جزءا من المؤامرة. فى تجاهل مدهش وغير مفهوم للتمايزات الحاصلة بينهم. كأنما يدعوهم إلى التحالف فيما بينهم وتعزيز صفوفهم لتحدى النظام ومواجهته.
إذ أدرك أن ملف الإخوان لايزال مفتوحا، أذكر بأننى سبق أن دعوت أكثر من مرة إلى ما أسميته تفكيك الإرهاب، من خلال ملاحظة الفروق والتمايزات بين مكوناته والإفادة منها فى إدارة الصراع. لكى لا يصطف الجميع فى جبهة واحدة. ولكن العقل الأمنى لم يستوعب الفكرة ولم يقبلها. دعوت أيضا إلى تعزيز حصانات المجتمع لكى يستعيد تماسكه وعافيته ويوفر بيئة عصية على اختراقات الإرهاب والعنف والتكفير. وهو الجهد الذى يتطلب عقلا سياسيا واعيا يدير الصراع ويجيد استخدام أوراقه، إلا أن ذلك بدوره لم يحدث للأسف. وما حدث كان على العكس تماما، لأن الرد تمثل فى إعداد قانون جديد للإرهاب، الذى أزعم أنه بمثابة هدية قدمها العقل الأمنى لتنظيم دولة داعش. وفى ذلك كلام كثير أرجئه إلى حديث آخر متابعات
أتحدث عما جرى فى سيناء يوم أول يوليو الحالى، حين شكل أنصار جماعة داعش جيشا صغيرا ضم عدة مئات من المتطرفين، وزودوهم بأسلحة ثقيلة ومدافع مضادة للطائرات، ثم دفعوهم إلى مهاجمة نحو ١٥ كمينا ونقطة ارتكاز لتمكينهم من الاستيلاء على مدينة الشيخ زويد وإعلانها «إمارة إسلامية» فى شمال سيناء. ورغم ان المحاولة انتهت بفشل ذريع، فإنها كانت بمثابة إعلان عن وجود قاعدة للجماعة فى سيناء، لها حاضنتها الاجتماعية ولها حجمها المعتبر وتسليمها المثير للانتباه. ولها طموحاتها التى لم تعد خافية على أحد.
لا يختلف خبراء الشأن السيناوى حول ان التيار التكفيرى له حضور تقليدى منذ عدة سنوات فى محيط شباب القبائل ضمن تيارات أخرى متعددة، سلفية وغير سلفية، إلا أن محاولة الاستيلاء على مدينة الشيخ زويد كانت أول إعلان صريح بعد التحاق المجموعة بتنظيم دولة داعش، عن انتقالها من التبشير بالفكرة إلى محاولة إقامة كيان أو إمارة على أرض سيناء ترفع راية الجماعة. غير ان الصورة تظل منقوصة إذا لم نشر إلى ما جرى فى دمياط يوم ١٢ نوفمبر عام ٢٠١٤، حين استولى أحد ضباط البحرية بمعونة خمسة من عناصر التنظيم على لنش بحرى وخرجوا به إلى المياه الإقليمية وأعلنوا أنه أصبح تابعا لدولة الخلافة الإسلامية، فيما أسمته مواقع الجماعة «غزوة بحرية». وهى المغامرة التى انتهت بتدمير اللنش والقضاء على مختطفيه، بعدما لاحقته وقصفته طائرتان من طراز اف ١٦. وكان خبير الشئون السيناوية الباحث إسماعيل الاسكندرانى هو من نشر تفاصيل القصة على موقع «المدن» فى ١٤ نوفمبر، بعد الحادث بيومين.
عملية دمياط كانت أول إشارة إلى مستوى طموح عناصر داعش وتطلعاتهم فى مصر، وقد كشفت المعلومات التى نشرت فى وقت لاحق عن ان التنظيم استقطب بعض الضباط المفصولين من الخدمة. وهو ما تناقلته بعض المواقع وثيقة الصلة بالأجهزة الأمنية المصرية يوم ٦ فبراير من العام الحالى. وأشير فى هذا الصدد إلى أسماء بذاتها نسبت إليها أدوار فى التخطيط وتنفيذ بعض العمليات الإرهابية الكبيرة مثل تفجير مقرى مديرية الأمن فى الدقهلية والقاهرة ومحاولة اغتيال وزير الداخلية السابق. ذلك غير الهجوم على مواقع الجيش والشرطة فى سيناء الذى أوقع عشرات الضحايا، انتهاء باغتيال النائب العام المستشار هشام بركات. (٢)
ثمة ثغرات غامضة فى سجل وخلفيات تنظيم داعش أشرت إلى بعضها فى كتابات سابقة. بعضها يتعلق بتفسير تحولات عناوينها بدءا من جماعة التوحيد والجهاد وانتهاء بداعش ومرورا بأنصار بيت المقدس. البعض الآخر يخص دوافع نقل انشطتها من استهداف إسرائيل فى سيناء ومدِّها إلى أنحاء مصر، مع تركيزها على رجال الجيش والشرطة والقضاء. ثم ان هناك ثغرة أخرى فى السجل تتعلق بجنسيات المنخرطين فيها ومصادر تمويلها وتسجيلها والجهات الداعمة لها. ورغم شح المعلومات المتوفرة على تلك الأصعدة إلا أن هناك أمورا متفقا عليها بخصوصها، منها ما يلى: إن داعش تمثل الآن أقوى مجموعة إرهابية على أرض مصر، ورغم محدودية أعضائها إلا أنها تتمتع بقدرات وكفاءات عسكرية متميزة نظرا لانخراط بعض العسكريين السابقين فى عضويتها، إضافة إلى مستوى تسليحها الذى لا يتوفر لأية مجموعة أخرى فى الساحة المصرية. ثم ان هذه المجموعة حين كانت تحمل اسم أنصار بيت المقدس قامت بأخطر وأكبر العمليات الإرهابية التى تمت خلال السنتين الماضيتين. وهو ما أعلنته فى بياناتها وسجلته فى الأشرطة التى قامت ببثها. (قضية أنصار بيت المقدس التى تنظرها محكمة جنايات القاهرة حاليا متهم فيها ٢١٣ شخصا نسب إليهم ارتكاب ٥٤ جريمة). الأمر الثالث أن المجموعة استوطنت سيناء واعتبرتها قاعدة لانطلاقها مستفيدة من البيئة الحاضنة والجغرافيا المواتية. وتشير معلومات التقارير الأمنية إلى انهم انشأوا فى وقت لاحق أربعة فروع لهم فى منطقة الدلتا.
هناك ملاحظتان مهمتان على أنشطة التنظيم فى مصر، الأولى ان ثمة فرقا كبيرا فى طبيعة الأهداف ومستوى الأداء بين العمليات الإرهابية التى قام بها أنصار بيت المقدس وبين العمليات الأخرى التى شهدتها مصر. الأمر الذى يسوغ لنا ان نقول إن الأولين متخصصون ومحترفون فى حين ان الآخرين مجرد هواة. والقنابل البدائية التى يفجرونها فى الأماكن العامة أو يفشلون فى تفجيرها خير دليل على ذلك. فى حين أن اتقان ونجاح عملية اغتيال النائب العام مثلا شاهد على المستوى الاحترافى الذى توفر لأنصار بيت المقدس.
الملاحظة الثانية ان العمليات الإرهابية التى قام بها التنظيم فى مصر نسب أغلبها إن لم يكن كلها للإخوان تأثرا بمقتضيات وحسابات الصراع السياسى، الأمر الذى صرف الأنظار عن تنامى قدرات التنظيم فى سيناء. وهو ما بدا منه ان التعبئة السياسية باتت مقدمة على استحقاقات المواجهة الأمنية. ولا استبعد ان يكون ذلك بين ما شجع تنظيم أنصار بيت المقدس على محاولة إقامة إمارة فى سيناء تابعة لمشروع الدولة الإسلامية الذى تسوقه داعش، وشاء ربك أن يصبح ذلك خطأهم القاتل، الذى ورطهم فى شر أعمالهم. (٣)
سواء كان ذلك ناتجا عن الغرور أو سوء التقدير، فالشاهد ان تنظيم داعش أساء التقدير كثيرا حين تطلع لأن يكون له موطئ قدم على أرض مصر، وأغلب الظن أن النجاحات النسبية التى حققها فى العراق وسوريا كانت العامل الأهم الذى أغرى قياداته بأن يجربوا حظهم فى مصر، مستفيدين من «الجيب» الذى توفر لهم فى سيناء. إلا أن النشوة انستهم أن مصر وضعها مختلف عن العراق وسوريا. فالدولة لاتزال متماسكة ومجتمعها يضم بحرا من البشر ناهز تسعين مليون نسمة، وهؤلاء لا يعانون من مشكلات طائفية أو قبلية أو عرقية على النحو الحاصل فى العراق وسوريا وليبيا حيث صراعاتهم وتجاذباتهم سياسية بالدرجة الأولى. ثم ان فى البلد قوات مسلحة لها قدرتها النظامية وكفاءتها القتالية، بما لا يقارن بتشتت وتدهور كفاءة الجيش العراقى، أو تمزق وانهاك الجيش فى سوريا.
الخلاصة ان تنظيم داعش عندما جاء إلى مصر فإنه اختار العنوان الغلط، حيث أخطأ الحساب ولم يفرق بين مناخ وبيئة الدولة الفاشلة وبين حصانات الدولة المتماسكة التى لها مشكلاتها حقا ولكنها لاتزال تحتفظ بقوامها وحصاناتها النسبية التى نسجتها عوامل التاريخ والجغرافيا والتركيبة السكانية.
أضف إلى ما سبق أن مشروع داعش ذاته بلا مستقبل. ذلك انه مشروع همجى ليس ضد التاريخ فحسب، وإنما ضد الجغرافيا أيضا. ذلك ان النموذج الذى يقدمه التنظيم يتبنى أتعس ما فى الماضى ويسعى إلى هدم الحاضر والانتقام منه، بما لا يدع الفرصة للتفاؤل بالمستقبل. إن شئت فقل انه مشروع انقلابى بامتياز. مخاصم للقيم الحضارية فى الإسلام وفى العالم المعاصر. ولأنه عابر للحدود وغير معترف بالخرائط المستقرة القائمة، فإن خصومته شملت الجغرافيا أيضا. وانقلابه صار مستهدف الخرائط وليس منظومة القيم وحدها.
على صعيد آخر فإن المشروع نتاج بيئة سياسية واجتماعية لها سماتها الاستثنائية. حتى أزعم أنه استنسخ وحشية النظام البعثى فى العراق وسوريا واستثمر المرارات الطائفية والفوضى السياسية ضاربة الأطناب فى بلاد الشام، ومن رحم هذه البيئة خرج الدواعش علينا شاهرين سيوفهم. (٤)
فى بلاد الشام أصبح السؤال حول الاختيار بين النظام أو التنظيم واردا. بمعنى أيهما أسوأ النظام السياسى القائم أم تنظيم الدولة الإسلامية الذى فرض نفسه على الساحة. والسوريون محقون فى ذلك لأن بشاعة الاثنين تستدعى تلك الحيرة. وأهل السنة فى العراق معذورون أيضا لأن معاناتهم من متطرفى الشيعة تدفعهم إلى محاولة الاحتماء بالتنظيم الذى قد يبدو أقل سوءا.
فى الوقت الراهن لا محل لطرح السؤال فى مصر، وإذا كانت ظروف سيناء قد شكلت حاضنة نسبية لأفكار التنظيم ومشروعه، إلا أن ذلك يظل وضعا استثنائيا لا مجال لتعميمه على بقية أنحاء البلاد. صحيح ان محيط البشر الذى يضم ٩٠ مليون نسمة لن يخلو من أناس يبدون الاستعداد للالتحاق بالتنظيم لسبب أو آخر. لكن هناك فرقا بين حدوث ذلك الاستثناء وبين تحوله إلى ظاهرة اجتماعية. وهو ما لا ينبغى أن يستبعد الاهتمام بتحصين المجتمع على النحو الذى يحول دون استفحال الاستثناء وتحوله إلى ظاهرة. وذلك ملف يبدو أنه لا يحظى بالاهتمام الذى يستحقه. والجهد المبذول فيه محصور فى الإجراءات الأمنية وحسابات القوة العسكرية دون غيرها. لست أدعو إلى غض الطرف عن ذلك الجانب بطبيعة الحال، وإنما دعوتى تنصب على الاكتفاء بما يبذل على هذين الصعيدين من جهد لا أريد التقليل من أهميته. والحاصل فى سيناء بوجه أخص لنا فيه عبرة ينبغى ألا تغيب عن الأذهان. ذلك ان الإجراءات الأمنية والعسكرية المتبعة لم تحل دون ازدهار التنطيم هناك وتحول المجتمع أو بعض قطاعاته على الأقل إلى بيئة حاضنة لأفكاره.
وإذا كان التعويل على الاكتفاء بالحل الأمنى والحسم العسكرى خطأ وقعنا فيه، فثمة خطأ آخر لا يقل جسامة تورطنا فيه، تمثل فى السعى غير المباشر لتوحيد قوى مناهضة النظام فى مصر. ومن المفارقات فى هذا الصدد انه حين ينفرد تنظيم داعش بنهجه ويخاصم أو يحارب كل من عداه كما الحاصل فى سوريا وفى غزة مثلا، فإن خطابنا السياسى والأمنى يصر على ان يضع جميع المنتسبين إلى الإسلام السياسى فى سلة واحدة ويعتبرهم جزءا من المؤامرة. فى تجاهل مدهش وغير مفهوم للتمايزات الحاصلة بينهم. كأنما يدعوهم إلى التحالف فيما بينهم وتعزيز صفوفهم لتحدى النظام ومواجهته.
إذ أدرك أن ملف الإخوان لايزال مفتوحا، أذكر بأننى سبق أن دعوت أكثر من مرة إلى ما أسميته تفكيك الإرهاب، من خلال ملاحظة الفروق والتمايزات بين مكوناته والإفادة منها فى إدارة الصراع. لكى لا يصطف الجميع فى جبهة واحدة. ولكن العقل الأمنى لم يستوعب الفكرة ولم يقبلها. دعوت أيضا إلى تعزيز حصانات المجتمع لكى يستعيد تماسكه وعافيته ويوفر بيئة عصية على اختراقات الإرهاب والعنف والتكفير. وهو الجهد الذى يتطلب عقلا سياسيا واعيا يدير الصراع ويجيد استخدام أوراقه، إلا أن ذلك بدوره لم يحدث للأسف. وما حدث كان على العكس تماما، لأن الرد تمثل فى إعداد قانون جديد للإرهاب، الذى أزعم أنه بمثابة هدية قدمها العقل الأمنى لتنظيم دولة داعش. وفى ذلك كلام كثير أرجئه إلى حديث آخر متابعات
نيسان ـ نشر في 2015/07/07 الساعة 00:00