ثمانينية كبير الشعراء (نقد)
نيسان ـ نشر في 2015/07/12 الساعة 00:00
أي طموح يمكن أن يصل إليه شاعر، أكبر من أن يسري شعره في وجدان محبيه حتى يحفظوه، وكأنه شعرهم.
هكذا وصل شعر أحمد عبد المعطي حجازي، يقول أحد تلامذته*: "عندما سافرت إلى العراق، كان معي شاعر مصري، التقى سيدة عراقية، واتفقا أن يلتقيا، واشترطت عليه أن يأتيها متسللاً في الظلام، وعندما تسلل ظلت تتحدث إليه على أنه زوجها الذي قتله صدام حسين.. ظلت تناديه باسم زوجها، وتحكي له كيف أن ابنتهما كبرت وصارت فتاة جميلة يطلب ودها كل أبناء العائلة، وشكت له من معاملة أهله، لكنها كانت صامدة، واستطاعت أن تصل بابنتها إلى شط الأمان، وبعد أن عاد صاحبي إلى غرفته في الفندق، فرد أوراقه ليكتب قصيدة عن هذه الحالة الغرائبية التي مر بها، وهي حالة لا شك تغري بالكتابة، وكتب صفحة وصفحتين حتى تذكر سطراً شعرياً للأستاذ حجازي يقول فيه: كانت تكلم غيري وتنظر في وجهه المستعار.. عندها مزق قصيدته، واكتفى بهذا المقطع، وظل يردده طوال الوقت وكأنه قصيدته هو".
من منا لم يردد شعر حجازي وهو يحب، وهو يتضايق من القاهرة، وهو بعيد عن أبويه، وهو يلتقي حبيبته في غير أوان اللقاء، فيقول لها: كان لابد أن نلتقي في صباي.. إذن لعشقتك عشق الجنون.
هذا هو الشاعر الأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي صاحب الثمانين ربيعاً الذي نحسده على شعره، ونتمنى لو أننا نحن الذين كتبناه.
فشعره يحمل قدراً كبيراً من المحبة، محبة الحياة، ومحبة الماء، ومحبة الخضرة والوجه الحسن، وكأن المتنبي عناه بقوله:
تعرف في عينيه حقائقه كأنه بالذكاء مكتحل
أشفق عند التقاء فكرته عليه منها أخاف يشتعل
وإذا كان الناس قد اعتادوا أن يعرفوا الزمان برجال هذا الزمان، فعرفوا زمن أبي العلاء المعري به، وعرفوا زمن المتنبي به، وزمن شوقي به، فها نحن نعرف زماننا هذا بالأستاذ حجازي، الذي نقول له: كل سنة وأنت في فرح وسعادة وحب وكل سنة وأنت كما أنت محب للناس وللحياة وللجمال.
والواقع بما هو عليه الآن، يفرض علينا الحاجة إلى أن نتحاب، فالحب جاذب جداً للأمان، والرضا، والإقبال على الحياة، أو على ما بقي منها.
يقول حجازي في قصيدته الصيد:
هو الربيع كان
واليوم أحد
وليس في المدينة التي خلت وفاح عطرها سواي
قلت: أصطاد القطا
كان القطا يتبعني من بلد إلى بلد
يحط في حلمي، ويشدو، فإذا قمت شرد
حملت قوسي وتوغلت بعيداً في النهار المرتعد
أبحث عن طيري
حتى اكتشفت احتراق الوقت في العشب ولا حريق ببيت يرتعد
كان القطا ينحل كاللؤلؤ في السماء ثم ينعقد
مقترباً مسترجعا صورته من البلد
مساقطاً كأنما علا يد
مرفرفاً على مسارب المياه كالزبد
وصاعداً إلى جسد
صوبت نحوه نهاري كله ولم أصد
عدوت بين الماء والغيمة
بين الحلم واليقظة
مسلوب الرشد
ومذ خرجت من بلادي لم أعد
وحسناً فعل حجازي وقد اختار طائر "القطا" من بين الطيور، ليجعله محور قصيدته، والقطا ـ كما في لسان العرب ـ نوع من الحمام، سريع الطيران، وإذا قصدت القطاة الماء اشتد طيرانها أكثر.
وسمي بذلك لثقل في مشيته، وتسمى واحدته " قطاة " وقيل سميت بذلك لأنها تصيح " قطا قطا " وهو اسم صوت للقطاة، سميت بالحروف التي تخرج من فيها.
ومما ينسب إلى زرقاء اليمامة، أنها رأت سرب قطا في السماء، فعرفت عدده من نظرة واحدة، فقالت : يا ليت ذا القطا لنا ***** ومثل نصفه ليـــ ه إلى قطاة أهلنـــ ـا ***** إذن لنا قطــــا مِيَـه وأحصي عدد السرب، فكان ستا وستين، وصدقت رؤية الزرقاء، وكانت مضرب المثل في حدة البصر، وأسماه النابغة في شعره حماما فقال مخاطبا الملك النعمان : واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرتْ *** إلى حمام سـراع واردي الثمد قالت ألا ليتما هذا الحمام لنـــ ـا *** إلى حمامتنــا أو نصــفه فقدي ويضرب بالقطا المثل في الهداية، فتقول العرب "أهدى من قطاة"، كما يضرب بها المثل بصدقها، فتقول العرب "أصدق من القطاة"، والعرب كذلك تشبه الأطفال الصغار بزغب القطا، بجامع الضعف بينها :
قال الشاعر حطان بن المعلى الطائي : أنزلني الدهر على حكمـــ ه *** من شاهق عــــالٍ إلــى خفضِ لولا بُنيّات كزغب القطـــ ـا *** رُددن من بعـضٍ إلـــ ى بعـضِ لكان لي مضطرب واســــع ***في الأرض ذات الطول والعرض وإنمـــ ـا أولادنــا أكبادنـــا *** تـمْـشـــ ـــ ــــي عـلـــى الأرض لو هبَّتِ الريحُ على بعضهـم ***لامتنعت عيني من الغمض
وفي قصيدة "الصيد" تصوير شعري بارع للحالة التي عاشها حجازي وتقلب فيها في باريس طيلة أوقات ابتلعت كثيراً من سنوات عمره، لم يعرف فيها معنى للاستقرار، بل انشغل بأصداء الحياة العاصفة التي اكتوى بنيرانها وتقلباتها، وبخاصة بعد أن ذاق مرارة انهيار الحلم القومي العربي 1967.
يقول حجازي:
أنا إله الجنس والخوف وآخر الذكور
أظنها التقوى وليس الخوف أو أني أرد الخوف بالذكرى
فأستحضر في الظلمة آبائي وأستعرض في المرآة أعضائي
وألقي رأسي المخمور في شقشقة الماء الطهور
تركت مخبئي لألقي نظرة على بلادي
ليس هذا عطشاً للجنس
إنني أؤدي واجباً مقدسا
وأنت لست غير رمز فاتبعيني
لم يعد من كل هذه البلاد غير حانة
ولم يبق من الدولة إلا رجل الشرطة
يستعرض في الضوء الأخير
ظله الطويل تارة وظله القصير.
هذه الإيقاعات التي تجسدها أجساد تعبد الجنس، وتستحضر في الظلمة أعضائها، ولا تفيق من الخمر إلا إذا مسها الماء الطهور، تنفّس عن نفسها مصورة غربتها وانكسارها وتضاؤلها بين الآخرين.
وفي هذا النص الذي بدأه حجازي بالجنس وأنهاه بإيحاء جنسي واضح، ينعي الرجولة، بمعناها القيمي وليس بمعناها الفحولي، في أوطاننا، وقد حل محلها استبداد وقسوة وغلظة لا تنتمي للرجولة بسبب.
ويقول في قصيدة أخرى:
أصدقائي نحن قد نغفو قليلاً
بينما الساعة في الميدان تمضي
ثم نصحو
فإذا الركب
يمر
وإذا نحن تغيرنا كثيرا
وتركنا الأقبية
وخرجنا نقطع الميدان في كل اتجاه
حيث تسري نشوة الدفء بأكتاف العراة
وعدونا نحضن الأطفال في كل طريق
ونناغي كل حلوة
كسكارى أخذتهم بعض نشوة
وبأنشودة نصر
وبلحن مشرق النبرة
عانقنا الحياة
وبلغنا عامنا التاسع عشر
وسوف يتوقف من قرأوا شعر أحمد عبد المعطي حجازي أو يعيدون قراءته الآن ـ بقصد إعادة اكتشافه ـ أنهم أمام شاعر عشق تكاليف الحياة، ولا شك أن الثمانين التي عاشها معتصماً بالحب، تضاعف هذا العشق وتضيف إلى الحياة حياة.
ولقد أحب حجازي ـ على مدى حله وترحاله وأسفاره وتنقلاته ـ مدناً وعواصم عديدة آوته من صعلكة وتمرد، واتسعت لنزقه الإنساني وجنونه الشعري معاً. لكن ما يصله بباريس، ويربطه بها من أواصر العشق والائتناس والدهشة الملازمة، يجعل لها مساحة ذات مذاق خاص في غور نفسه.
وإذا كان الموت هو نهاية كل حي، فإن حجازي قد استأنسه، باعتباره الوجه الآخر لعشق الحياة.
وقف من الموت موقفاً له مذاق جديد، فهو لم يصارع الموت كما صارعه "عنترة" وتحداه معتبراً إياه عدوا:
ولقد لقيت الموت يوم لقيته
متسربلاً والسيف لم يتسربل
ولم يعتقد أن الموت صدفة كما ظنه الشاعر القديم:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
متى ما شاء يوماً يقده لحتفه
ومن يك حتفه في حد المنية ينقضي
ولم يظن أن الموت انتقاء للأصفياء:
والموت قادم على كفه
جواهر يختار منها الحسان
لكن الموت عند حجازي جزء من الحياة، وهو الصفحة التي لا ترى الحياة بدونها.
وهو في ذلك لا يخفي تأثره بالشعراء الفرنسيين، وقد كانوا يغنون للموت باعتباره ملك خفي لطيف، يأتي فيطرق الباب فتهتز الستائر والمرايا، ويأخذ معه من يأخذ.
يقول حجازي في قصيدة مقتل صبي من ديوانه الأول:
الموت في الميدان طم
والصمت حط كالكفن
والعجلات
صفرت
توقفت
قالت: من؟
ولم يجب أحد
فليس يعرف اسمه هنا سواه
يا ولداه
وأقبلت ذبابة خضراء
ولولبت جناحها
على صبي مات
في المدينة
فما بكت عليه عين
وفي مرثية لاعب سيرك، يقول:
في العالم المملوء أخطاءا
مطالب وحدك ألا تخطىء
لأن جسمك النحيل
لو مرة أسرع أو أبطأ
هوى
وغطى الأرض أشلاء
في أي ليلة ترى
يقبع ذلك الخطأ؟
والعجيب أن يقع حادث بالقاهرة للاعب سيرك شهير بمثل ما تنبأ به حجازي بعد وقت غير طويل من نشر قصيدته!
وفي قصيدة هذا الزحام يقول:
رأيت نفسي أعبر الشارع عاري الجسد
أغض من طرفي خجلاً من عورتي
ثم أرده لأستجدي التفاتاً عابراً
نظرة إشفاق عليّ من أحد
فلم أجد
إذن
لو أنني، لا قدر الله أصبت بالجنون
وصرت أبكي عارياً بلا حياء
فلن يرد علي واحد أطراف الرداء
لو أنني لا قدر الله سجنت
ثم عدت جائعاً يمنعني من السؤال الكبرياء
فلن يرد بعض جوعي واحد
من هؤلاء
هذا الزحام
لا أحد
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
هو الشاعر السماح عبد الله، في احتفال بيت الشعر "بيت الست وسيلة"، بالشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، بمناسبة بلوغه الثمانين، مساء الأحد 7 يونيه 2015م.
نيسان ـ نشر في 2015/07/12 الساعة 00:00