مشروع إسرائيل المنسي لتفتيت العالم العربي
نيسان ـ نشر في 2015/07/28 الساعة 00:00
القلق على المصير العربي في محله تماما، لكننا نخطئ كثيرا إذا حصرنا التحديات في النفوذ الإيراني ومخاطر الإرهاب، وتجاهلنا دور إسرائيل في مخطط التفتيت الذي تنفذه منذ نصف قرن.
(1)
هذا القلق أصبح يشكل قاسما مشتركا بين أغلب تعليقات وتحليلات الكتاب العرب في الآونة الأخيرة.
من حديث عن الحدود التي يعاد رسمها بالدم، إلى تحذير من أن المستقبل في المنطقة يراد له أن يصنع على أيدي غير العرب، مرورا بمحاولة رصد الأسباب الكامنة وراء تعدد الهزائم العربية ودور الدولة والقبيلة في ذلك.
وليس ذلك مستغربا، لأن مختلف الشواهد تدل على أن ثمة خرائط جديدة ترسم للمنطقة في ضوء الانهيارات التي حدثت لبعض الأنظمة والتصدعات التي عانت منها أنظمة أخرى، والتوترات التي أطلت برأسها في فضاءات أنظمة ثالثة. وحين تم الاتفاق بين واشنطن ومعها الدول الكبرى وبين طهران، فإن الجميع أدركوا أن أوان الدخول في حقبة جديدة قد حل، وأن الحديث عن المستقبل ومخاوفه لم يعد ثرثرة مثقفين أو توجسات سياسيين، ولكنه صار ضرورة ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد، لأن قطار التغيير انطلق وبات من العسير وقف اندفاعه.
استوقفتني في هذا الصدد مقالة لوزير خارجية مصر الأسبق السفير نبيل فهمي نشرتها جريدة الأهرام في 22/ 7 تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد والاتفاق النووي الإيراني والعرب"، إذ استهلها بالإشارة إلى اتصال أجراه معه في عام 2004 (حين كان سفيرا لمصر في واشنطن) مستشار الأمن القومي الأمريكي، واقترح عليه أن تشارك مصر في اجتماع قمة حول إنشاء شرق أوسط جديد يشمل الدول العربية ويمتد حتى باكستان وأفغانستان (وهو ما اعتذر عنه آنذاك) وفي ربيع عام 2015 حدثه مسؤول إيراني مقرب من أصحاب القرار عن أنهم في طهران لهم نظرة أخرى للشرق الأوسط الجديد مختلفة عما يرونه في مصر، فليس صحيحا في رأيهم أن المنطقة جوهرها عربي، لأن مرجعية المواطن العادي لم تعد القومية العربية، فضلا عن أن العالم العربي منقسم على نفسه والثقل السياسي والأمني والاقتصادي فيه ليس بين أيدٍ عربية. وحين وضع الأمران جنبا إلى جنب خلص إلى أن التفكيرين الأمريكي والإيراني ينطلقان من رؤية لمستقبل المنطقة بأيدٍ غير عربية. ثم تساءل عما إذا كانت تلك مؤامرة كبرى أم أنه مجرد توافق مصالح بين أيدٍ غير عربية؟ ــ وهو يجيب عن السؤال، فإنه طرح أفكارا عدة، محورها كيف يستعيد العالم العربي زمام المبادرة، كي يصبح فاعلا وليس مفعولا به.
(2)
ملاحظتي الأساسية على مقالة السفير نبيل فهمي أنها وقفت عند استعراض الموقفين الأمريكي والإيراني، لكنها لم تشر إلى التفكير الإسرائيلي الأخطر في الموضوع، ذلك أن الأمريكيين والإيرانيين إذا كانوا قد طرحوا أفكارا عن بُعد وكانت لهم تطلعات تتعلق بنفوذ كل منهما، فإن مشروع الإسرائيليين الموجودين في قلب المنطقة تم اختبار أفكاره، ونفذ بعضها على أرض الواقع، والبعض الآخر جارٍ تنفيذه في صمت وبعيدا عن الأعين.
من وجهة النظر الإسرائيلية، فالمنطقة العربية لا تشكل وحدة ثقافية وحضارية واحدة، كما يعتقد العرب.
وإنما هي خليط متنوع من الثقافات والتعدد اللغوي والديني والإثني، وقد اعتادت إسرائيل تصوير المنطقة على أنها فسيفساء تضم بين ظهرانيها شبكة معقدة من أشكال التعدد، ما بين عرب وفرس وأتراك وأرمن وإسرائيليين وأكراد وبهائيين ودروز ويهود وبروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس وعلويين وصابئة وشيعة وسنة وموارنة وشركس وآشوريين... إلخ.
بالتالي فإن المنطقة ما هي إلا مجموعة من الأقليات التي لا يوجد تاريخ يجمعها. ومن ثم يصبح التاريخ الحقيقي هو تاريخ كل أقلية على حدة، والغاية من ذلك التحليل تتمثل في تحقيق هدفين، الأول رفض مفهوم القومية العربية ومقاومة فكرة الوحدة العربية. ذلك أن التصور الإسرائيلي يعتبر أن القومية العربية فكرة يحيط بها الغموض، إن لم تكن غير ذات موضوع على الإطلاق.
وقد برز في هذا المجال اتجاهان، أحدهما يتحدث عن "خرافة" الوحدة العربية. وأصحاب هذا الرأي يتحدثون عن أمة واحدة، لكنهم يتصرفون كدول متنافرة. ورغم أن ما يجمع بين هذه البلاد هو اللغة والدين، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنهم أمة واحدة ــ فثمة شعوب تتحدث اللغة الإنجليزية أو الإسبانية دون أن يجعل ذلك منها أمة واحدة. الاتجاه الثاني يعترف بوجود القومية العربية بمعنى وجود مجموعة روابط ثقافية وعاطفية وتاريخية بين العرب، لكن أصحاب ذلك الاتجاه يفصلون بين الاعتراف بتلك الروابط وبين السعي لتحقيق الوحدة العربية التي يعتبرون أنها مستحيلة.
الهدف الثاني من الترويج لفكرة تعدد الأقليات والهويات في العالم العربي هو تبرير شرعية الوجود الإسرائيلي. ذلك أن المنطقة وفق ذلك التصور تضم خليطا من القوميات والشعوب واللغات. وتصور قيام وحدة بينها هو ضرب من الوهم والخيال، والنتيجة المنطقية المترتبة على ذلك تعني أن تكون لكل قومية في المنطقة كيانها الخاص، وبذلك تكتسب إسرائيل شرعيتها باعتبارها إحدى الدول القومية التي تعيش على أرضها.
هذا التوجه في التفكير الإسرائيلي دفعها إلى تبني استراتيجية تشجيع مناطق الأقليات في المنطقة، وطرحها بين حين وآخر لفكرة إقامة دويلات درزية أو مارونية على حدود إسرائيل لتكون بمثابة مناطق أمن تكسب إسرائيل الاطمئنان وتشكل حاجزا ماديا ومعنويا يفصل بينها وبين الدول العربية.
وهو ما من شأنه أن يشجع الأقليات الأخرى على أن تسير على ذلك الدرب، ويحفز الأكراد في العراق والأفريكان في جنوب السودان وموريتانيا على الاستقلال.
كتابات أبا أبيان السياسي الصهيوني ووزير خارجية إسرائيل التي نشرت تحت عنوان "صوت إسرائيل" تعد أفضل تعبير عن الفكرة، ذلك أنه اعترض على الافتراض القائل بأن الشرق الأوسط يمثل وحدة ثقافية، وأن على إسرائيل أن تتكامل مع تلك الوحدة.
وذكر أن العرب عاشوا دائما في فرقة عن بعضهم، وأن فترات الوحدة القسرية كانت تتم بقوة السلاح، من ثَمَّ فإن التجزئة السياسية لم يحدثها الاستعمار. وأن الروابط الثقافية والذات التي جمعت البلاد العربية لا يمكن أن تضع الأساس للوحدة السياسية والتنظيمية.
الفقرات السابقة كلها ليست لي، ولكنها اقتباس مطول منقول حرفيا عن كتاب صادر في تل أبيب عام 2003 عن مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا. وكتاب العميد المتقاعد موشي فرجي، وعنوانه هو "إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان".
(3)
هذه الأفكار تم اختبارها في ثلاث تجارب فيما هو معلن حتى الآن على الأقل، هي:
* أقامت إسرائيل علاقات وثيقة مع قيادات الموارنة في لبنان، مستثمرة في ذلك علاقات التوتر التاريخية بينهم وبين المسلمين السنة، وثمة دراسات متعددة أرخت لتلك العلاقة الإسرائيلية واللبنانية. منها دراسات الأستاذ صقر أبو فخر عن الدور الذي قام به الإكليروس الماروني في التواصل مع الإسرائيليين، وكتاب كريستين شولز عن الدبلوماسية الإسرائيلية السرية في لبنان. وفي كتاب الآن مينارج عن أسرار حرب لبنان نص رسالة بعث بها إلى مناحيم بيجين رئيس وزراء إسرائيل كميل شمعون رئيس حزب الوطنيين الأحرار شكا فيها من أن الفرنسيين حين أقاموا لبنان الكبير ضموا إلى الموارنة الأراضي المأهولة بالمسلمين، "وكان هؤلاء سببا في جميع العلل والشرور". ودعا إلى تجنب الإسرائيليين بأراضٍ مأهولة بالمسلمين حتى لا يعانون مما عانت منه لبنان.
الشاهد أن تواصل الإسرائيليين مع بعض شرائح الموارنة دفع الأخيرين إلى إقامة دولة لبنان الحر وحكومتها في عام 1979. وشكل هؤلاء ما سمي بجيش لبنان الجنوبي، الذي قاده سعد حداد ومن بعده انطوان لحد. وكان للأحزاب المارونية الثلاثة التي شكلت الجبهة اللبنانية دورها في الترحيب بالاجتياح الإسرائيلي في لبنان عام 1982، إلا أن مشروع دولة الموارنة فشل وانهار بعد انسحاب الإسرائيليين من لبنان.
* التجربة الإسرائيلية الثانية كانت مع المتمردين في جنوب السودان وقد فصل كتاب العميد موشيه فرجي في تتبع تلك العلاقة التي بدأ الإسرائيليون في نسجها في عام 1958، واستهدفت دعم التمرد الجنوبي وإضعاف السودان للضغط على مصر واختزان القارة الإفريقية، وشمل ذلك الدعم كل المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية، حيث وفرت إسرائيل الخبرات والسلاح والأموال وكل ما احتاجته حركة التمرد لكل متحدي حكومة الخرطوم وتثبت أقدامها على الأرض، الأمر الذي انتهى بانفصال الجنوب وإعلان استقلاله في عام 2011.
* التجربة الثالثة مع الأكراد في شمال العراق. ذلك أن زعماء الأكراد في نضالهم ضد نظام صدام حسين وضد شاه إيران قبل الثورة، كانوا يتلمسون الدعم من أي مصدر، الأمر الذي سارعت إسرائيل إلى تلبيته، فقدموا لأكراد العراق الكثير من المساعدات التي لم تعلن تفاصيلها، لكنها انتهت بأن أصبح لإسرائيل حضور استخباراتي قوي في شمال العراق. وهذا الموقع له أهميته الإستراتيجية المهمة، لأنه أتاح للإسرائيليين إمكانية الاقتراب مما يحدث في العراق وسوريا وإيران وتركيا. ولم يعد سرا أن كردستان قطعت شوطا بعيدا في سعيها للاستقلال، الذي أصبح الآن مطلبا معلنا من جانب المثقفين والسياسيين والأكراد. وبالتالي فلم يعد السؤال المطروح الآن هو هل يعلنون استقلالهم أم لا، ولكنه متى يتم ذلك.
(4)
نبالغ كثيرا إذا قلنا إن إسرائيل فعلت من جانبها كل ذلك، لأن الأصح والأصوب أنها أسهمت في صنعة مستفيدة من ظروف داخلية مواتية في كل قُطْر. وهو ما يدعونا إلى القول بأن عملية تفتيت العالم العربي والإفادة من تنوع كياناته وتعدد الأقليات فيه تنطلق من استراتيجية إسرائيلية واضحة المعالم منذ خمسينيات القرن الماضي. وللأسف فإن الدور الإسرائيلي في الخرائط الجديدة التي ترسم للمنطقة لم يأخذ حقه من الانتباه والدراسة. ذلك أننا نرى تركيزا شديدا على طموحات الإيرانيين ومخططات جماعة داعش الإرهابية، كما نلمس تجاهلا وسكوتا على مساعي الإسرائيليين الذين أصبحوا يعتبرون أنفسهم جزءا من معسكر الحرب ضد الإرهاب (قدموا إلى الأردن 16 طائرة هليكوبتر لهذا الغرض)، في حين يمارسون في فلسطين كل ما يمكن تخيله من مظاهر الإرهاب والقمع.
لست أدعو إلى تجاهل الدور الإيراني ولا الكف عن مقاومة الإرهابيين، لكنني أتنمى الانتباه إلى ثلاثة أمور. الأول توفير رؤية عربية واضحة للتحديات التي توجه الأمة من حيث أولوياتها وطبيعتها. الثاني أن تظل على وعي كاف بالمخططات الإسرائيلية التي تلح ما برحت تسعى إلى تفكيك العالم العربي وتفتيته. أما الأمر الثالث والأهم فهو أن مخططات التفتيت التي ترسم تراهن على الشروخ والتشققات الحاصلة في كل قُطْر عربي، ولذلك فإن الوعي بتلك المخططات ينبغي أن يستصحب اهتماما بحصانات الداخل، ذلك أن مخططات التفتيت لا يتحقق لها النجاح إلا في حال هشاشة المجتمعات وقابليتها للتفتيت.
الشرق
نيسان ـ نشر في 2015/07/28 الساعة 00:00