رحلت ولم يبلى ثوبها الكنعاني..

محمد المحيسن
نيسان ـ نشر في 2020/03/09 الساعة 00:00
لا زلتُ أتذكر تلك العيون التي يتغير لونها بلون الوردة المطرزة على ثوبها ألفلاحي..
عندما تلقاها تشعر بتلك اللهفة التي تعيدك إلى ما قبل الضياع، وإلى أيام الحارة العتيقة في أزقة المخيم، وصولا إلى السنوات القليلة التي كان فيها الفرح مباحا قبل أن يسرقه المحتل.
تلقاك دائما بلهفة المشتاق، وبنظرة حانية تتوزع بانتظام وبلا تردد في تفاصيلك، ولكن تلك النظرة الفاحصة تجبرك على الغوص في التجاعيد التي رسمت على وجهها عوارض المشقة وعلامات الحزن والتعب لازمها سنيين طويلة لم تتوقف.
وبما أن لعين المرأة بريقا يخترق حجب الخيال بأشعته تارة، ويتلقى إيحاءات الخلود المنتظرة تارة أخرى، فإن لعمتي التي رحلت بالأمس حكاية تغزل بأنامل من نور ويقين ثوب العودة.. وتُحيي فيك ذكريات بلدتنا العتيقة.
فقد تذبل الأوطان ولا يبعثها من مرقدها سوى امرأة احترفت الأمومة كما احترفت التطريز الذي كان صنعتها ومصدر رزقها المتواضع، فصنعت منه ثوبا أزليا باقٍ لن تمحيه سنوات اللوعة الطويلة.
لعيونها الجميلة قصة عميقة تحكي لوعة الهجرة، وذكريات البلد وسنيين العذاب ، ولكنها رغم ذلك تحمل من الأنفة والعزة والشموخ ما يجعلك هائم في ذلك الجمال الذي لم ينكسر ولم يتوارى خلف طرحتها البيضاء .
ترجلت أخيرا بعد أن قاومت كل رموز القهر الإنساني، فهي من ذلك الجيل الذي عاش كل الهزائم وسنوات الانتصارات المزيفة، لتشكل مصدرا وإلهاما وصندوقا حزينا للذكريات.
فقد عاشت التجربة بكل مرارتها وحزنها، ولكن صبرها لم ينكسر، ولم يذبل ، فقد كان صمتها يروي الكثير من الحكايات ، عن زيتون الجليل وعنب الخليل، برتقال يافا ،بحر غزة وأسوار عكا المنيعة، ورائحة الصبر في عراق المنشية.
رحلت عن الدنيا ولم يبلى ثوبها الكنعاني المطرز ..
    نيسان ـ نشر في 2020/03/09 الساعة 00:00