شعوب الخيام
نيسان ـ نشر في 2020/05/15 الساعة 00:00
بعد نكبة فلسطين في العام 1948، صار مصطلح (شعب الخيام) ملتصقاً بمن عانوا من أبشع ترانسفير عرفه التاريخ الإنساني: انتزاع شعب من أرضه وإلصاق مكونات بشرية استيطانية مكانه.
دار الزمان دورته، وإذا بأمة العرب تفرخ بدل شعب خيام واحد شعوب خيام تتصدر مشهد النزوح الكوني والهجرة واللجوء والشتات وقائمة مصطلحات تحمل المعنى نفسه تقريباً، بات السوري يعرفها والعراقي واللبناني والليبي واليمني والمصري، ناهيكم عن مغادرة شباب من بلاد العرب الأخرى بلادهم من مشارقها وخليجها الثائرِ إلى مغاربها ومحيطها الهادرِ.
وإذ لا يصح مقارنة اللجوء السوري متلاطم الأمواج بباقي لجوءات أهلنا في باقي بلادنا، إلا أن مقدمات تلك المآلات واحدة؛ أنظمة حكم مدججة بعقائد شمولية بائدة، مسكونة بفكرة العمر الطويل والحكم الأبدي والقبضة الحديدية، ترى بظلمها لرعيتها وسيلة وحيدة لضبط (القطيع)، وبتكريس وجودها بوصفه الخيار الوحيد الصالح لكل زمان ومكان، معادلاً لثوابت الإيمان وأركان العقيدة وأسباب البقاء!
وقد صرنا شعوب خيام من مطلع الشمس حتى احتدام العتمات، فلعل السؤال عن أسباب انكفائنا كأمةٍ وأحلامٍ وتمسكٍ بالماضي وتفاخرٍ بالفتح والدعوة والرسالة، وتباهينا بذات مجد غابر مضى ويبدو أنه لن يعود، هو سؤال مشروع بالمعنى الحرفي للمفردة. لماذا جرى لبلادنا ما جرى؟ ولماذا انكتب على شعوبنا ما انكتب؟ ما هي الحيثيات الحقيقية التي أوصلتنا إلى هنا؟ لا أطرح تلك الأسئلة هنا لأبد تفنيدها بنداً وراء الآخر، واضعاً أجوبة جاهزة، لعلها، في رأسي، مدّعياً أنني أملك الأجوبة، وكل ما عليكم أن تأخذوا بها، فإذا بنا غداً أو بعد غد، عدنا أمّةً معافاةً آمنةً تبني في مساقط رؤوسها ومرابع لهوها، ازدهارها المنشود، وتحقق ذاتها التي تعبت من الانتظار.
لا آتي بجديد إن مررت معكم على بعض هذه الأسباب وموجبات هذا الانحدار: اتكالنا على غيرنا، فمرّة يمطروننا صباح مساء أن المعسكر الشرقي هو خيارنا الوحيد، فيما بعض أنظمتنا مرهونة كي تضمن بقاءها للرأسمالية. بعضنا وضع كل عنبه في سلة إيران، آخرون رأوا الفرج لن يكون إلا من هناك حيث تتأهب تركيا لنصرتنا ومعاودة مجد السلاطين. هذا يفتح (عالبحري) مع إسرائيل متوسلاً رضاها، منتظراً شهادة حسن سلوك منها، وذاك يلهث وراء بركات الملالي، وحفنة محزنة من متقاعدي اليسار ما يزالون يرون في تضاريس اللص بوتين ملامح الرفيق لينين، وبلد عربي معترف به في الأمم المتحدة لم يجد من ينجده من أمراض جنرال متقاعد إلا (خالتنا) تركيا، وكلنا يقين راسخ أن لا قوة دفع ذاتي بين أيدينا، وأننا لا شيء بدون أولئك أو هؤلاء أو هؤلاء.
ذات جلسة صفاء مع أمي تغمدها الله بواسع رحمته، قالت لي إن مندوب الأمم المتحدة المرسل لمعاينة حجم مأساة الشعب الفلسطيني، زار واحداً من تلك المخيمات التي أعدها لهم العالم على عجل، فإذا به يدهش أن امرأة هناك بدأت تعد (عجين) الخبز، وأخرى تكنس أمام الخيمة، وثالثة تنشر غسيل أولادها على حبال مدت بسرعة البرق، ورابعة تحمّمهم عراة بحماسة مفرطة، وأولاد يلعبون، ونساء يشربن الشاي، ورجال يجعلون من المآل المفجع ممكناً، فإذا به يعلن في تقريره أننا شعب لن يموت. لا أعرف المصادر التي اعتمدتها أمي رحمها الله لتوثيق قصتها، ولكن للقصة، على وجه العموم، زاوية نظر أخرى، أننا من الشعوب التي لا ترى في الخيام طامة كبرى، وكريزمات تكيّفنا مخيفة، وكل ما أخشاه أن ينسحب هذا التكيّف والاستعداد الفطري لإقامة طويلة في خيام الشتات التي لا تقي من برد، ولا تستر كل أشكال انهدار الكرامة، على باقي شعوبنا، وأن يكتفي الذين لم يأت عليهم الدور بعد بالشماتة والتشفي بمن سبقهم، ويظل كأس العار يدور، ونظل في موقعنا الذي ارتضيناه في ذيل الوجود قيمة وتأثيراً ورغبة جارفة عارمة نحو تغيير واقعنا وفرض أنفسنا بوصفنا جزءاً فاعلاً من موزاييك هذا الكوكب الذي لا ينفك يركلنا ويركلنا وحتى صرخة الآه ضاعت في حناجرنا.
دار الزمان دورته، وإذا بأمة العرب تفرخ بدل شعب خيام واحد شعوب خيام تتصدر مشهد النزوح الكوني والهجرة واللجوء والشتات وقائمة مصطلحات تحمل المعنى نفسه تقريباً، بات السوري يعرفها والعراقي واللبناني والليبي واليمني والمصري، ناهيكم عن مغادرة شباب من بلاد العرب الأخرى بلادهم من مشارقها وخليجها الثائرِ إلى مغاربها ومحيطها الهادرِ.
وإذ لا يصح مقارنة اللجوء السوري متلاطم الأمواج بباقي لجوءات أهلنا في باقي بلادنا، إلا أن مقدمات تلك المآلات واحدة؛ أنظمة حكم مدججة بعقائد شمولية بائدة، مسكونة بفكرة العمر الطويل والحكم الأبدي والقبضة الحديدية، ترى بظلمها لرعيتها وسيلة وحيدة لضبط (القطيع)، وبتكريس وجودها بوصفه الخيار الوحيد الصالح لكل زمان ومكان، معادلاً لثوابت الإيمان وأركان العقيدة وأسباب البقاء!
وقد صرنا شعوب خيام من مطلع الشمس حتى احتدام العتمات، فلعل السؤال عن أسباب انكفائنا كأمةٍ وأحلامٍ وتمسكٍ بالماضي وتفاخرٍ بالفتح والدعوة والرسالة، وتباهينا بذات مجد غابر مضى ويبدو أنه لن يعود، هو سؤال مشروع بالمعنى الحرفي للمفردة. لماذا جرى لبلادنا ما جرى؟ ولماذا انكتب على شعوبنا ما انكتب؟ ما هي الحيثيات الحقيقية التي أوصلتنا إلى هنا؟ لا أطرح تلك الأسئلة هنا لأبد تفنيدها بنداً وراء الآخر، واضعاً أجوبة جاهزة، لعلها، في رأسي، مدّعياً أنني أملك الأجوبة، وكل ما عليكم أن تأخذوا بها، فإذا بنا غداً أو بعد غد، عدنا أمّةً معافاةً آمنةً تبني في مساقط رؤوسها ومرابع لهوها، ازدهارها المنشود، وتحقق ذاتها التي تعبت من الانتظار.
لا آتي بجديد إن مررت معكم على بعض هذه الأسباب وموجبات هذا الانحدار: اتكالنا على غيرنا، فمرّة يمطروننا صباح مساء أن المعسكر الشرقي هو خيارنا الوحيد، فيما بعض أنظمتنا مرهونة كي تضمن بقاءها للرأسمالية. بعضنا وضع كل عنبه في سلة إيران، آخرون رأوا الفرج لن يكون إلا من هناك حيث تتأهب تركيا لنصرتنا ومعاودة مجد السلاطين. هذا يفتح (عالبحري) مع إسرائيل متوسلاً رضاها، منتظراً شهادة حسن سلوك منها، وذاك يلهث وراء بركات الملالي، وحفنة محزنة من متقاعدي اليسار ما يزالون يرون في تضاريس اللص بوتين ملامح الرفيق لينين، وبلد عربي معترف به في الأمم المتحدة لم يجد من ينجده من أمراض جنرال متقاعد إلا (خالتنا) تركيا، وكلنا يقين راسخ أن لا قوة دفع ذاتي بين أيدينا، وأننا لا شيء بدون أولئك أو هؤلاء أو هؤلاء.
ذات جلسة صفاء مع أمي تغمدها الله بواسع رحمته، قالت لي إن مندوب الأمم المتحدة المرسل لمعاينة حجم مأساة الشعب الفلسطيني، زار واحداً من تلك المخيمات التي أعدها لهم العالم على عجل، فإذا به يدهش أن امرأة هناك بدأت تعد (عجين) الخبز، وأخرى تكنس أمام الخيمة، وثالثة تنشر غسيل أولادها على حبال مدت بسرعة البرق، ورابعة تحمّمهم عراة بحماسة مفرطة، وأولاد يلعبون، ونساء يشربن الشاي، ورجال يجعلون من المآل المفجع ممكناً، فإذا به يعلن في تقريره أننا شعب لن يموت. لا أعرف المصادر التي اعتمدتها أمي رحمها الله لتوثيق قصتها، ولكن للقصة، على وجه العموم، زاوية نظر أخرى، أننا من الشعوب التي لا ترى في الخيام طامة كبرى، وكريزمات تكيّفنا مخيفة، وكل ما أخشاه أن ينسحب هذا التكيّف والاستعداد الفطري لإقامة طويلة في خيام الشتات التي لا تقي من برد، ولا تستر كل أشكال انهدار الكرامة، على باقي شعوبنا، وأن يكتفي الذين لم يأت عليهم الدور بعد بالشماتة والتشفي بمن سبقهم، ويظل كأس العار يدور، ونظل في موقعنا الذي ارتضيناه في ذيل الوجود قيمة وتأثيراً ورغبة جارفة عارمة نحو تغيير واقعنا وفرض أنفسنا بوصفنا جزءاً فاعلاً من موزاييك هذا الكوكب الذي لا ينفك يركلنا ويركلنا وحتى صرخة الآه ضاعت في حناجرنا.
نيسان ـ نشر في 2020/05/15 الساعة 00:00