أربع ساعات في الحافلة

د. سالم الأقطش
نيسان ـ نشر في 2020/05/16 الساعة 00:00
في الضحوة العالية وقفتُ في انتظار ملء الحافلة ، أغراني الكنترول وهو ينادي بصوته الأجش :" آخر راكب لعمان " ، وعندما صعدت الحافلة ما وجدت أحدا سواي ، حجزت مقعدا في السطة، ولأني أحب قهوة الشارع جلست على مقربة من الحافلة وأخذت أرشف الوقت على مهل ، وأتصفح وجوه المارة ، وجوه لفحها القهر والفقر ، ثلة من الشباب قد حلقوا رؤوسهم وارتدوا القبعات ، فتيات حزمن أمتعتهن في حقائب معدة لسفر قصير ، سائق الحافلة لا يفتأ يدوس على الوقود ليحث الناس على الركوب ، مضت الساعات تترى والحافلة ما تزال جوعى والظهيرة توشك على الحلول ، هنا تدخل السائق وأنقذ الموقف مقترحا زيادة الأجرة على الركاب بدلا من المقاعد الفارغة ، ووافق الناس على مضض ، أخذت الحافلة تبتلع الطريق رويدا رويدا ، وكلما ظننا أننا سنقلع نادى الكونترول على السائق ( بالله جيب معك هلبريزة ) وهو يقصد بذلك الراكب ، وأخيرا وبعد أن ملأ السائق جوف الحافلة وأخذ منا الرحل والراحلة أخذت الحافلة تسفك دم الطريق وتمخر عباب القفار والمفازات ، في المقعد المحاذي تجلس فتاة في العشرين من مشمشها كسا وجهها الحياء وعليها مسحة من جمال قروي غير مُعدٍ بعناية ، وخلفي يجلس فتية طمع كلٌ واحد منهم
بلفت انتباه الفتاة إليه فأخرجوا ما لديهم من غث وسمين ، ضحكت وحزنت في الآنين معا ، ضحكت لأحدهم يصف صديقه بالسمنة فيقول له :" شو مالك صاير زي كعكة الكرشلة لما بنحطها في الشاي بتفشفش " تذكرت لحظتها الجرجاني ونظرية النظم ، وآخر يقول لصاحبه : " يا زلمة كلهن لابسات حزق لزق " وهنا تذكرت قانون التتابع اللغوي ك( حيص بيص و عجر بجر ) ، وحزنت لأننا نحتاج أن نوقف عجلة الحضارة ونسير ألف عام حتى ندرك ما وصل إليه الآخر ، لم نكد نسير خمسين كيلو حتى أخذت الحافلة تتمهل آذانا بالتوقف عند أول استراحة ، همهمت ببعض الشتائم التي لم يكد يسمعها سوى الذي يقتسم معي المقعد فبادرني قائلا : " هذا السائق بطلعلوه وجبة غداء مع علبة بيبسي مع باكيت دخان من المطعم حتى يجذب زبون للمحل " لم يكن السائق المتكسّب ليضيع هذا العرض المغري كفاء راكب رغب في الوصول إلى بيته باكرا ، ركنت رأسي المثقل إلى المقعد في محاولة لاستدراج النوم ولكن هيهات هيهات ، أخذت الشمس تخطو نحو المغيب والشباب خارج الحافلة يدخنون بنهم وشراهة ويكأنهم يشحنون أنفسهم لسفر طويل ، اهتزت الحافلة وإذا بالسائق قد امتطى صهوة المقعد وراح يطالع نفسه في المرآة ويمسّد شاربيه العريضين مما علق بهما من بقايا الدهن ، ويمّمنا شطر عمان وفي القلب غصة ، أخذت أصوات الخضم والقضم تتعالى من ورائي ومن أمامي وكأني الوحيد الذي لا يملك زاد راحلة ولم يزداد كيل بعير ، الشباب غارقون في تناول الشيبس البسكويت ، راعني منظر ذلك الشاب وهو يمصمص في أصابعه بعدما انتهى من افتراس باكيت الشيبس ، ويلحس أطراف يده ويدخل السبابة في فمه ليخرج ما علق من أدران الشيبس بين أسنانه ومن ثم يعاود لعقها من جديد وهلم جرا ، واستنّ أقرانه بسنته ، ومشيناها خطى كتبت علينا ، وطويناها ليلة نابغية ، حتى إذا وصلنا محطتنا الأخيرة وتنفست الصعداء بعد كل هذا البلاء ، وتنسمت هواء عمان ورحت أبحث عمّن يقلني إلى بيتي ، وإذا بسائق تاكسي يتوقف بجانبي قائلا ؛" طالع يا شاب ؟ فقلت له بكل سرور : نعم . ورحت أحدث نفسي بصوت خفيض : يا قومي أليس فيكم رجل رشيد ؟ فتنبه إلي قائلا : شو بدك ؟ قلت له : بدي ضاحية الرشيد .
    نيسان ـ نشر في 2020/05/16 الساعة 00:00