رسالة موت حميدة صابر

فهمي هويدي
نيسان ـ نشر في 2015/08/08 الساعة 00:00
بعد الذى جرى للسيدة حميدة صابر عطوة يحق لنا أن نطرح السؤال التالى: كم مواطنا مصريا ينبغى أن يموت لكى تنتبه الحكومة إلى خطورة تدهور الخدمات الصحية وتوليها ماتستحقه من أولوية واهتمام؟ أما قصة السيدة فقد نشرتها أغلب الصحف المصرية، وأغلب الظن أنها ستنسى بعد أيام قليلة. وللتذكرة فهى أم فقيرة فى السابعة والخمسين من عمرها، داهمتها أزمة فى التنفس فذهب بها ابنها مرزوق عبدالمنعم الحافظ (٢٦ سنة) إلى طبيب محلى، ما أن رآها حتى طلب نقلها إلى مستشفى بنى سويف العام لإدخالها إلى غرفة العناية المركزة. لكن المستشفى لم يكن جاهزا لاستقبالها بسبب خضوعه للتطوير، كما قيل، فتم تحويلها إلى مستشفى ناصر المركزى الذى رفض أطباؤه استقبالها بحجة عدم وجود مكان لها. لم يجد ابنها مرزوق حلا فقرر الذهاب بأمه العاجزة عن التنفس إلى قسم شرطة ناصر لكى يحرر محضرا ضد الطبيب ومدير المستشفى الذى رفض استقبالها وتقديم الإسعافات الأولية اللازمة لها. لكن القدر لم يمهله لأنه ما أن وصل إلى مقر قسم الشرطة حتى سقطت الأم على الأرض وفارقت الحياة. أحدث النشر صداه فى دوائر عدة، فقرأنا عن تحقيقات أجرتها جهات عدة لتحديد المسئولية عن الوفاة. لكن ذلك كله لن يغير مما جرى شيئا، فضلا عن أنه يجدد التنبيه إلى مدى التدهور الذى يعانى منه القطاع الصحى، الذى يدفع الفقراء ثمنه من حقهم فى الحياة. حالة حميدة صابر ليست الأولى من نوعها. فقصص الفقراء الذين لا يملكون ثمن الدواء ولا مكان لهم فى المستشفيات العمومية والذين يطردون من المستشفيات لعجزهم عن الوفاء بتكلفة الإقامة، هذه القصص متداولة طول الوقت على مواقع التواصل الاجتماعى. صحيح أن المادة ١٨ من الدستور تتحدث بنصوص صريحة عن حق كل مواطن فى الرعاية الصحية وواجب الدولة ومسئوليتها عن النهوض بذلك المرفق. كما تحدثت عن التزامها بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى لا تقل عن ٣٪ من الناتج القومى للخدمات الصحية (ما بين ٧٥ و٨٠ مليار جنيه)، لكن واقع الحال لا علاقة له بالكلام المكتوب على الورق. ذلك أن نصيب العلاج فى الواقع العملى لم يتجاوز ١.٧٪ من الدخل القومى (فى الولايات المتحدة ١٧٪ وفى انجلترا ٩٪). سألت نقيب الأطباء الدكتور خيرى عبدالدايم فى الموضوع فأثار فى رده النقاط التالية: * إن تدهور الخدمات الطبية فى المستشفيات الحكومية حقيقة لا يجادل فيها أحد، والذين يلجأون إلى تلك المستشفيات وأغلبيتهم الساحقة من الفقراء هم ضحايا ذلك التدهور. والسبب الرئيسى فى ذلك يرجع إلى ضعف الاعتمادات المخصصة للرعاية الصحية فى الموازنة العامة، وهو ما يؤثر على الإمكانيات التى تتوافر للمستشفيات والظروف التى يعيش فى ظلها الأطباء. فحين يخصص للعلاج ٥.٥٠٪ من الميزانية بينما تطالب النقابة بنحو ١٥٪، فلا يستغرب أن تتدهور الخدمات، خصوصا أن الأسعار زادت من العام الماضى إلى الحالى بنسبة ١٥٪ إلى جانب أن سكان مصر يزيدون بمعدل ٢ مليون شخص كل عام. * إن ثمة قصورا شديدا فى أسرَّة الطوارئ ومستلزمات غرف الإنعاش، كما أن هناك قصورا هائلا فى الحضانات، وهو ما يضع المستشفيات فى موقف حرج للغاية، حيث تضطر إما إلى الامتناع عن استقبال بعض الحالات الطارئة وكذلك استقبال المواليد الجدد. * إنه من بين ١٥ ألف وحدة صحية محدودة الإمكانيات، هناك ٥٠٠ وحدة لا يوجد بها أطباء. وهذه الوحدات الأخيرة تتوزع على المناطق النائية. التى يسكنها فقراء المصريين. وهؤلاء لا توجه إليهم أية رعاية طبية. وفى عيادات الأسنان فإن الكرسى الواحد يفترض أن يستخدمه طبيب واحد، إلا أن الكرسى عندنا يستخدمه ٣٠ طبيبا. * طبقا للقانون فإن جميع المستشفيات العامة والخاصة ملزمة باستقبال حالات الطوارئ وتقديم الإسعافات اللازمة لها بالمجان خلال الثمانى والأربعين ساعة الأولى للمرض أو الوجع. وبعد القيام بما يلزم يفترض أن ترسل المستشفيات فواتير العلاج به إلى وزارة الصحة التى تتولى تسديد قيمتها. ولكن بسبب نقص الموارد أو بسبب الروتين أو للسببين معا فإن الوزارة تتسلم الفواتير ولا تقوم بالسداد. وإزاء امتناع الوزارة عن السداد فإن المستشفيات الخاصة على الأقل توقفت عن استقبال حالات الطوارئ والمستشفيات العامة تقاعست عن ذلك. وتكون النتيجة أن غير القادرين لا يجدون سبيلا للعلاج، ولذلك فإن وفاتهم بسبب ذلك تصبح نتيجة طبيعية ومفهومة. هذه المعلومات اتفقت مع ما قاله الدكتور حمدى السيد النقيب السابق الذى أضاف أن كلفة السرير فى المستشفيات الخاصة تتجاوز ألف جنيه فى اليوم. وحين تتحملها أى مستشفى فى حالات الطوارئ ثم تمتنع وزارة الصحة عن سداد فواتير العلاج فإن امتناعها عن استقبال مرضى الطوارئ غير القادرين ـ رغم أنه موقف غير إنسانى ـ ينبغى أن يكون متوقعا. وفى رأيه أن قدرة الدولة على الوفاةء بالتزاماتها معلقة على زيادة مواردها المالية، وذلك شرط لن يتحقق إلا إذا استقر الأمن فى البلاد. الخلاصة أن الصورة أكثر تعقيدا مما نظن وأن أمل الفقراء فى أن تشملهم رعاية الدولة الصحية يتعذر تحقيقه فى الأجل المنظور، أساسا بسبب ضعف الموارد المالية التى خصصت لذلك القطاع. مع ذلك فلدى ملاحظتان أخيرتان هما: * إن المشكلة لا تكمن فقط فى شح الموارد، ولكن ينبغى الاعتراف بأن هناك مشكلة أيضا فى عدالة توزيع ما هو متوافر من تلك الموارد. لأن ما ينفق على مؤسسات وقطاعات الأمن يعطى انطباعا بأن الشح حاصل فى قطاعات دون أخرى. ولو أن بعضه وجه إلى الخدمات التى تقدم للناس لكان ذلك أحكم وأعدل. * إن إسهام المجتمع المدنى فى ذلك القطاع مطلوب بشدة. ولابد أن يذكر أن الجمعية الشرعية بذلت جهدا رائدا فى هذا المجال، ليته يصبح مثلا تحتذيه منظمات أهلية أخرى. كى لا تتكرر مأساة حميدة صابر مرة أخرى. ذلك أن موتها على باب قسم الشرطة سيظل عارا فى جبيننا جميعا. الشروق
    نيسان ـ نشر في 2015/08/08 الساعة 00:00