أضحية
نيسان ـ نشر في 2015/08/15 الساعة 00:00
يخلع (خلاعة ) ملابسه ، يرتدي بدلة رقص ، تتدلى خيوط سميكة على ردفيه ، يزين صدره بورقتي شجر. يتكهرب جسده ، تتسع الدائرة الذي هو بؤرتها . يتمايل كالأفعوان ، يغني ، تصفق الأيادي ، تهرب البنات خجلاً ، تزغرد الحريم ، تتلصص عيونهن إلى اللحم المُفتضح والنتوءات المترجرجة في ميوعه . جوقة العُمال يهللون ، يتراقصون ، يرتلون ، تنهال " النقطة "، كلما هم بمُغادرة المزاد تتكاثر أوراق النقد يجر والده "سيد" الضرير ، يعودان إلى غرفتهما المُتصدرة مدخل البيت المُتهدل ، يتربع وسطها سرير كبير، يجاوره دولاب من الخشب المتخربش، يقعي " وابور جاز " وعدة الشاي أقصى يسار الغرفة . يفرد لفة الكباب وسلاطة الطماطم والطحينة وأرغفة الخبز المقببة ، يتناولان الطعام في صمت ، لا يقطعه سوى احتكاك الأسنان ، وازدراد اللقيمات ، وكأن الحديث يعطلهما عن الأكل ، يُعد (خلاعة ) جمال الشاي الغامق، يدلقه في جوفه الثلجي ، يمسح وجهه بالفوطة المُبتلة . يدع والده وحيداً يناطح اليقظة ، يمرق من الزٌقاق كالبُراق الوامض حتى لا يُلبي نداء الجالسات أمام بيوتهن ، يتنزه .. يفترس وجوه المُتهاديات .يعترضه " جمال " ، يسوقه إلى رملة بولاق ، البيوت هشة ، بناءات الطوب اللبن تقاوم السقوط ، الحواري والأزقة طافحة بالطين اللزج, والمياه المُتخمرة .
يلجان بيت أم سمية، الناطور يعزف صفيراً مُتقطعاً تأميناً ، يطحنان برشام " أبو صليبة " ، يخلطانه " بالبيور " ، يستنشقان المزيج ، تفوح النكات العارية . تشاركهما الصهباء العبث .. تشتم :
- ملعون أبو أهله .
يستنشق (خلاعة ) خط البودرة مُتمهلاً .. يعلق :
- ابن مدارس .
يسحب (جمال ) تذكرة بودرة ثانية .. يثأثأ :
- ثعلب .
تلتقط " أم سمية " الخيط الذي كاد أن ينقطع :
- أكلته وصرفت عليه وطار .
ثقلت دماغ (خلاعة )، انتصب بساقين مُتباعدتين وكأنهما يعانيان موسى الحلاق القاطع لجلده الرقيق، زاغت عيناه بحثاً عن المرفأ ، هطل ريقه بلا إنقطاع . تفحمت أغشية أنفه المُفرطحة ، انبثقت من أذنيه أسياخ حديدية مُنصهرة ، تنافرت خلاياه المُجهدة . يسحبه (جمال ) كالحمل الفالت من مقصلة الذبح يصلان – أخيراً – إلى قضبان السكك الحديدية. ينهار(خلاعة ) متأبطاً الأرض ، يجف حلقومه ، يأبى المثول لتوسلات(جمال )، ارتمي على السياج المُبطن بالبراز والجيف ، تتفتت أعضائه على القضبان ، هجم عليه شبح الطاووس :
– عبقري وفنان .
- بل أضحوكة .
- للوجود ضريبة تُدفع مُقدماً .
- تطييب خاطر .
- لترض بالانتكاس "
يفرش الشبح مُرتعباً .. تنبح كلاب .. تموء قطط ... فاق (جمال) المهدود حيله على نعيق القطار ، يعوي . يرعش الأجساد ، يئد الصمت ، صرخ :
- خلاعة..خلاعة......
يشده الطاووس المُرتجف، يتسمر بدنه مُلتصقاً بالقضبان ، تضوي الإفاقة ، يكبله القطار ، يتراشق. يتناثر ، تتطاير رأسه ، في الصُبح يلبس سيد بدلة الرقص، يبدلها بجبة الشيخ المُقرطمة ، يتريش بالطاووس البُختري ، يمسك صليب الراهب ، أطفال الدكاكين يحملون أقفاص البلح والجوافة فوق الأكتاف المُتدثرة أوراق مقواة ، تُلهب ظهورهم السياط. تزجرهم العمامات البيضاء ، يلتفون حول " سيد "
نيسان ـ نشر في 2015/08/15 الساعة 00:00