قرن على تأسيس أول حكومة أردنية
نيسان ـ نشر في 2021/04/11 الساعة 00:00
بعد انهيار الحكومة العربية في دمشق بزعامة الملك فيصل على إثر معركة ميسلون في 24 تموز 1920، نشأ فراغ سياسي وإداري في شرقي الأردن، مما دفع بريطانيا وفرنسا للعمل على ملء هذا الفراغ، لا سيما وأنّ المنطقة أصبحت قاعدة خلفية لإعادة تنظيم الثوار السوريين وانطلاقهم لمقاومة الفرنسيين.
أمّا بريطانيا فقد اعتبرت شرقي الأردن حلقة وصل استراتيجية لضمان مصالحها في العراق وفلسطين ومصر. وبهدف الوصول إلى حالة من الاستقرار شجعت بريطانيا على إقامة حكومات محلية بمساعدة ضباط سياسيين بريطانيين (تموز 1920 – آذار 1921)، لكن تلك الترتيبات لم تنجح وانهارت بعد مضي ثمانية أشهر، نظرا للظروف الموضوعية القائمة آنذاك، حيث كانت البلاد تعيش حالة من الانقسام المناطقي والعشائري، والفراغ الإداري، وغياب القيادة الموحدة، بعد أن عاشت في ظل الأحداث لأكثر من أربعة قرون من الحكم العثماني، ما عكس نفسه على الواقع الاقتصادي والاجتماعي.
تزامن ذلك مع تقدم الأمير عبد الله بن الحسين من مكة إلى معان، وقد تمكن من حشد بعض المثقفين العرب وزعماء شرقي الأردن وعدد من الضباط والمتطوعين بهدف تحرير سوريا من الاحتلال الفرنسي.
ومع وصول الأمير عبد الله إلى عمان في 2 آذار 1921، انعقد في القاهرة مؤتمر لرسم معالم السياسة البريطانية في الشرق الأوسط، وبناء على دعوة بريطانية ذهب الأمير عبد الله إلى القدس على رأس وفد من الزعماء السوريين، حيث عقد سلسلة لقاءات مع تشرشل (28 – 30 آذار 1921).
في هذه المفوضات عرض عبد الله إنشاء دولة مؤلفة من فلسطين وشرقي الأردن برئاسة أمير عربي، غير أنّ تشرشل رفض هذا الاقتراح، كما رفض اقتراحا آخر للأمير لإنشاء دولة مؤلفة من العراق وشرقي الأردن. فتم الاتفاق على أن يتولى عبد الله إدارة إمارة شرقي الأردن، وأن تعترف بريطانيا باستقلالها الذاتي بمساعدة مستشارين بريطانيين.
حاول الأمير عبد الله التوفيق بين التزاماته بموجب اتفاق القدس، وبين طروحاته التحريرية التي حشد من خلالها الاستقلاليين السوريين وعددا من الشخصيات السياسية والعسكرية العربية. فجاء تأسيس الإمارة على أساس الالتقاء في منتصف الطريق بين الطموحات التحررية العربية الوحدوية، وبين مصالح القوى الكبرى التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى.
استطاع الأمير عبد الله تأسيس دولة عربية كانت مهددة بامتداد المشروع الصهيوني إليها، وكان أقطاب الحركة الصهيونية يعملون على ضم شرقي الأردن إلى فلسطين، بحيث يتم توسيع إطار وعد بلفور ليشملها.
مثلت الإمارة نقطة انطلاق لمحاولة تحقيق مشروع سوريا الكبرى الذي ظل على رأس أجندة الدولة الأردنية مدة ثلاثين عاما، وحتى اغتيال صاحب المشروع الملك عبد الله بن الحسين في تموز 1951.
الحكومة الأولى
على إثر انتهاء الحكم العربي في دمشق، بعد احتلال فرنسا لدمشق، اتخذ عدد من القيادات العربية من شرقي الأردن مركزا لهم. وبعد وصول الأمير عبد الله بن الحسين إلى عمان، عمل على استقطاب رجالات العرب ولا سيما أعضاء حزب الاستقلال، أمثال عادل أرسلان، وشكري القوتلي، ونبيه العظمة، وأمين الحسيني، وإحسان الجابري، وأحمد مريود، ورشيد طليع وآخرين.
كلف الأمير عبد الله رشيد طليع(1877 – 1926) بتشكيل أول حكومة مركزية في تاريخ البلاد، بصفته رئيس حزب الاستقلال، والأكثر أهلية وكفاءة ليؤلف الحكومة الأولى آنذاك. وافق طليع على تشكيل الحكومة، بشرط أن تكون حكومة دستورية ذات مجلس نيابي، وأن يبقى حرا بالعمل في جبل حوران فوافق الأمير.
يرجع نسب طليع إلى عشائر بني معروف الدرزية. أكمل تعليمه الجامعي في الجامعة العثمانية باستانبول، وشغل عدة وظائف من أبرزها وظيفة قام مقام في عدد من المناطق في لبنان. انتخب نائبا عن الدروز في مجلس المبعوثان العثماني، ثم عمل متصرفا في حوران وطرابلس واللاذقية. وبعد انتهاء الحكم التركي عين مديرا للداخلية في أول حكومة عربية سنة 1918، ثم واليا على حلب وشمال سوريا في نيسان 1920. وفي دمشق أصبح عضوا في "حزب الاستقلال" والذي يعتبر امتدادا للجمعية العربية "الفتاة" السرية. فكان له دور كبير في مجرى الحركة العربية في بلاد الشام والعراق. وبعد احتلال الفرنسيين حكم عليه بالإعدام غيابيا، فتوارى عن الأنظار إلى أن دعاه الأمير عبد الله لتولي الحكومة الأولى.
كان رشيد من أصحاب الخبرة والعلم وصلابة الرأي والموقف. والتف الأردنيون حول جماعة الاستقلاليين السوريين الذين لجأوا إلى الأردن، وكانّ من الممكن أن يصبح حزب الاستقلال هو حزب جميع الأردنيين، لولا تدخل بريطانيا وضغطها، وخشيتها من تصاعد الحركة الوطنية، فسعت إلى إبعادهم فيما بعد.
تشكلت الحكومة في 11 نيسان 1921، على النحو التالي:
• رشيد طليع: رئيس مجلس المشاورين ومشاور الداخلية
• الأمير شارك بن زيد: نائب العشائر
• أحمد مريود، معاون نائب العشائر
• أمين التميمي: مشاور الداخلية
• مظهر رسلان: مشاور العدلية والصحة والمعارف.
• علي خلقي الشرايري، مشاور الأمن والانضباط.
• محمد الخضر الشنقيطي قاضي القضاة
• حسن الحكيم: مشاور المالية
وهكذا تشكل أول جهاز إداري مركزي منظم في الإمارة الناشئة لأول مرة في تاريخها كدولة قطرية. كان علي خلقي الوحيد من أبناء شرقي الأردن الذي دخل في تشكيلة الحكومة الأولى. كان الطابع الوطني العروبي واضحا في تركيبة الحكومة واعتبرها البعض حكومة سورية في المنفى، بعد أن أعاد أعضاء حزب الاستقلال تشكيل حزبهم في عمان، ولم يخفوا عدائهم لفرنسا.
تعكس هذه التركيبة الاعتبارات التي كانت تدور في ذهن الأمير والمحيطين به، والذين كانونا ينظرون إلى شرقي الأردن بمثابة جزء من الدولة العربية التي قامت الثورة العربية من أجل إنشائها، ولذلك كان عبد الله يعتبر إدارته لشرقي الأردن نيابة عن والده الملك حسين حتى سنة 1923.
تشكلت الحكومة الأردنية الأولى من عناصر قومية – استقلالية من خارج شرقي الأردن، فقد ضمت حجازيين هما الأمير شاكر بن زيد، ومحمد خضر الشنقيطي، وفلسطيني واحد هو أمين التميمي، وأربعة سوريين هم : رشيد طليع وأحمد مريود ومظهر رسلان وحسن الحكيم.
استأثر حزب الاستقلال بأكثر من نصف مقاعد هذه الحكومة، مما يدل على نفوذهم، وحاجة الأمير عبد الله لهم باعتبارهم سندا قويا له. ولم يقتصر هذا الأمر على تركيبة الحكومة، بل تجاوزها إلى معظم المؤسسات وهياكل الإدارة العامة للإمارة، فكان رئيس الديوان الأميري عوني عبد الهادي، يعاونه عادل أرسلان وعزت دروزة، ومتصرف البلقاء رشيد المدفعي، ومتصرف اربد أمين التميمي، وقائم مقام عمان ثم متصرف اربد نبيه العظمة، وغالب الشعلان وحامد الوادي مرافقان عسكريان للأمير، وعارف الحسن قائد عام الدرك، وآخرين كثر.
أخذ رشيد يشجع الأمير عبد الله على إجراء انتخابات لمجلس نيابي يمثل الأمة، ثم بدأ ينشئ الدوائر المختلفة، على أساس الاقتصاد في النفقات، بحيث لم يزد أكبر مرتب عن أربعين جنيها مصريا. ولم يحدث من الوظائف إلا ما كان ضروريا لمصلحة البلاد، مراعيا قلة الواردات، وتجنب إرهاق الأهالي بالضرائب، والاستغناء عن طلب المعونة المالية من الحكومة البريطانية، والاحتفاظ بقسم من الواردات يرصد لتشكيل قوة عسكرية وطنية، تقوم في المستقبل مقام القوة التي وعد تشرشل في مؤتمر القدس بالإنفاق عليها.
باشرت الحكومة عملها بوضع الأنظمة الإدارية لتسيير دفة الحكم في البلاد وبناء السلطة المركزية. واتخذت قرارا بإلغاء الحكومات المحلية وتوحيد البلاد، وأن تتألف الإمارة من ثلاثة ألوية هي السلط والكرك وعجلون. وأن يحكم كل لواء متصرف مسؤول مباشرة أمام مشاور (وزير) الداخلية.
وفي حزيران 1921 قامت بريطانيا بتنفيذ مشروع إنشاء خط مواصلات بين العراق والأردن الذي عرف بخط حيفا بغداد. كما عملت على تأسيس أول دائرة للبرق والبريد والهاتف، وكانت البداية مقسم للهاتف يحتوي 40 رقما.
كانت الحكومة تعاني من العجز في إيراداتها المالية بسب قلة وارداتها التي اقتصرت على الضرائب والرسوم، والمعونة البريطانية، وحصة الإمارة من إيرادات جمارك فلسطين.
وعلى المستوى الخارجي كانت علاقات الإمارة بفلسطين وطيدة، وكان المعتمد البريطاني في عمان يتلقى تعليماته من المندوب السامي في فلسطين، كما كان كثير من موظفي شرقي الأردن معارون من حكومة فلسطين.
في حين اتسمت العلاقات مع سلطات الانتداب الفرنسي بالعدائية، بعد أن اعتمد الأمير عبد الله على السوريين وخاصة أعضاء حزب الاستقلال، وكانت فرنسا تنظر إليهم كثوار جعلوا من شرقي الأردن قاعدة لهم للعمليات ضد الاستعمار الفرنسي. كما اتسمت العلاقات بنجد بالعدائية والعنف انعكاسا للعلاقات النجدية الحجازية، بعد استيلاء عبد العزيز آل سعود على إمارة حائل في مطلع سنة 1921.
لم تتمكن الحكومة من جمع الضرائب من الأهالي، الذين امتنعوا عن دفعها كشكل من أشكال الاحتجاج على عدم إشراكهم في الحكم من جهة، وعدم قدرتهم على دفعها من جهة أخرى. كما لم تتمكن الحكومة من إيجاد حالة من الاستقرار الأمني والسياسي في مختلف مقاطعات شرقي الأردن، فقد قامت بعد حوالي شهرين من تشكيل الحكومة عدة انتفاضات واحتجاجات، جاء بعضها كحركة كليب الشريدة في الكورة بسبب رفض دفع الضرائب كسبب مباشر، وكرد فعل على قرار الحكومة إنهاء عهد الحكومات المحلية، وهو ما عنى إنهاء نفوذ الزعامات المحلية التي تمتعت بنفوذ وامتيازات تاريخية في مناطقها.
شكل هذا الحدث أول حالة صدام بين تشكيل اجتماعي قبلي تقليدي، وبين تشكيل سياسي حداثي جديد، تمثل في سلطة مركزية مستجدة لم تعتد عليها تاريخيا البنى الاجتماعية القائمة آنذاك. خاصة وأنّ معظم كوادر هذه السلطة جاءت من خارج وسطها الاجتماعي. وكان السبب هو ذاته طيلة المرحلة التركية، أي جباية الضرائب.
قامت بريطانيا باستثمار أحداث الكورة بإدخال قوات عسكرية وطائرات في منطقة ماركا، وسياسيا من خلال تركيز بريطانيا على إيجاد معارضة محلية لما أطلقت عليه "حكم السوريين".
وعلى هذه الخلفية بدأت تنشط بعض التنظيمات السياسية كالحزب الوطني الأردني والذي قادته زعامات أردنية كبيرة، مطالبين الأمير عبد الله بوضع حد لتصرفات رشيد طليع ومن معه. وما لبثت طموحات هذا التيار الأردني أن توضحت وصار على رأس أهدافه القضاء على السيطرة السورية في البلاد، وإحلال حكومة دستورية بزعامة الأمير، وأنّ كل وظيفة مهما كانت كبيرة أم صغيرة يجب أن يشغلها أردنيون، وبضرورة وجود مجلس منتخب. وهكذا شكل هذا الحدث منعطفا مهما في حياة البلاد السياسية، إذ بدأت الخلافات تظهر ما بين الأمير عبد الله والاستقلاليين حول سياسة إمارة شرقي الأردن وإدارتها.
تنازع الحكومة اتجاهان سياسيان، الأول ويمثله حزب الاستقلال وامتداده الحكومي، والثاني الإدارة البريطانية صاحبة النفوذ المالي. وقد ظهر التناقض جليا بين رؤية الحكم – الحكومة الداعم للعمل المقاوم للاحتلال الفرنسي، ورؤية الانتداب البريطاني المناهضة لذلك، مما دفع الحكومة البريطانية للتضييق المالي على الأمير وحكومته، والذي وصل أوجه سنة 1924.
لم تمض أربعة أشهر على عمل أول حكومة حتى أخذت تتعثر في إنجاز مهماتها، خاصة بعد عدم وفاء سلطات الانتداب في فلسطين بدفع حصة شرقي الأردن من واردات الجمارك. وتحت ضغط الأحوال المالية، وعجز الموازنة عن الوفاء بالتزاماتها، تقدم علي خلقي مشاور الأمن، وحسن الحكيم مشاور المالية باستقالتيهما.
قدمت الحكومة استقالتها بتاريخ 23 حزيران 1921، وقد تضمن كتاب الاستقالة الأسباب التي أدت إليها، ومنها عدم وفاء بريطانيا بوعدها بالمساعدة على تشكيل قوة قادرة على تأمين الأمن الداخلي، ومساعدة الحكومة في تحصيل الضرائب وعدم دفع حصة شرقي الأردن من واردات الجمارك، مما جعل الحكومة تضطر للتشديد في تحصيل الضرائب، وما نجم عن ذلك من أحداث.
ويمكن القول أنّ تعثر الحكومة الأولى كان متعمدا من قبل حكومة الانتداب في فلسطين، بهدف السيطرة على عناصر حزب الاستقلال الذين سيطروا على غالبية مقاعد الحكومة الأولى، إضافة إلى الوظائف الكبرى التي استحدثتها، وتأثيرهم الكبير في تسيير دفة الحكم، واتخاذهم سياسة معادية للاحتلال الفرنسي.
أمّا بريطانيا فقد اعتبرت شرقي الأردن حلقة وصل استراتيجية لضمان مصالحها في العراق وفلسطين ومصر. وبهدف الوصول إلى حالة من الاستقرار شجعت بريطانيا على إقامة حكومات محلية بمساعدة ضباط سياسيين بريطانيين (تموز 1920 – آذار 1921)، لكن تلك الترتيبات لم تنجح وانهارت بعد مضي ثمانية أشهر، نظرا للظروف الموضوعية القائمة آنذاك، حيث كانت البلاد تعيش حالة من الانقسام المناطقي والعشائري، والفراغ الإداري، وغياب القيادة الموحدة، بعد أن عاشت في ظل الأحداث لأكثر من أربعة قرون من الحكم العثماني، ما عكس نفسه على الواقع الاقتصادي والاجتماعي.
تزامن ذلك مع تقدم الأمير عبد الله بن الحسين من مكة إلى معان، وقد تمكن من حشد بعض المثقفين العرب وزعماء شرقي الأردن وعدد من الضباط والمتطوعين بهدف تحرير سوريا من الاحتلال الفرنسي.
ومع وصول الأمير عبد الله إلى عمان في 2 آذار 1921، انعقد في القاهرة مؤتمر لرسم معالم السياسة البريطانية في الشرق الأوسط، وبناء على دعوة بريطانية ذهب الأمير عبد الله إلى القدس على رأس وفد من الزعماء السوريين، حيث عقد سلسلة لقاءات مع تشرشل (28 – 30 آذار 1921).
في هذه المفوضات عرض عبد الله إنشاء دولة مؤلفة من فلسطين وشرقي الأردن برئاسة أمير عربي، غير أنّ تشرشل رفض هذا الاقتراح، كما رفض اقتراحا آخر للأمير لإنشاء دولة مؤلفة من العراق وشرقي الأردن. فتم الاتفاق على أن يتولى عبد الله إدارة إمارة شرقي الأردن، وأن تعترف بريطانيا باستقلالها الذاتي بمساعدة مستشارين بريطانيين.
حاول الأمير عبد الله التوفيق بين التزاماته بموجب اتفاق القدس، وبين طروحاته التحريرية التي حشد من خلالها الاستقلاليين السوريين وعددا من الشخصيات السياسية والعسكرية العربية. فجاء تأسيس الإمارة على أساس الالتقاء في منتصف الطريق بين الطموحات التحررية العربية الوحدوية، وبين مصالح القوى الكبرى التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى.
استطاع الأمير عبد الله تأسيس دولة عربية كانت مهددة بامتداد المشروع الصهيوني إليها، وكان أقطاب الحركة الصهيونية يعملون على ضم شرقي الأردن إلى فلسطين، بحيث يتم توسيع إطار وعد بلفور ليشملها.
مثلت الإمارة نقطة انطلاق لمحاولة تحقيق مشروع سوريا الكبرى الذي ظل على رأس أجندة الدولة الأردنية مدة ثلاثين عاما، وحتى اغتيال صاحب المشروع الملك عبد الله بن الحسين في تموز 1951.
الحكومة الأولى
على إثر انتهاء الحكم العربي في دمشق، بعد احتلال فرنسا لدمشق، اتخذ عدد من القيادات العربية من شرقي الأردن مركزا لهم. وبعد وصول الأمير عبد الله بن الحسين إلى عمان، عمل على استقطاب رجالات العرب ولا سيما أعضاء حزب الاستقلال، أمثال عادل أرسلان، وشكري القوتلي، ونبيه العظمة، وأمين الحسيني، وإحسان الجابري، وأحمد مريود، ورشيد طليع وآخرين.
كلف الأمير عبد الله رشيد طليع(1877 – 1926) بتشكيل أول حكومة مركزية في تاريخ البلاد، بصفته رئيس حزب الاستقلال، والأكثر أهلية وكفاءة ليؤلف الحكومة الأولى آنذاك. وافق طليع على تشكيل الحكومة، بشرط أن تكون حكومة دستورية ذات مجلس نيابي، وأن يبقى حرا بالعمل في جبل حوران فوافق الأمير.
يرجع نسب طليع إلى عشائر بني معروف الدرزية. أكمل تعليمه الجامعي في الجامعة العثمانية باستانبول، وشغل عدة وظائف من أبرزها وظيفة قام مقام في عدد من المناطق في لبنان. انتخب نائبا عن الدروز في مجلس المبعوثان العثماني، ثم عمل متصرفا في حوران وطرابلس واللاذقية. وبعد انتهاء الحكم التركي عين مديرا للداخلية في أول حكومة عربية سنة 1918، ثم واليا على حلب وشمال سوريا في نيسان 1920. وفي دمشق أصبح عضوا في "حزب الاستقلال" والذي يعتبر امتدادا للجمعية العربية "الفتاة" السرية. فكان له دور كبير في مجرى الحركة العربية في بلاد الشام والعراق. وبعد احتلال الفرنسيين حكم عليه بالإعدام غيابيا، فتوارى عن الأنظار إلى أن دعاه الأمير عبد الله لتولي الحكومة الأولى.
كان رشيد من أصحاب الخبرة والعلم وصلابة الرأي والموقف. والتف الأردنيون حول جماعة الاستقلاليين السوريين الذين لجأوا إلى الأردن، وكانّ من الممكن أن يصبح حزب الاستقلال هو حزب جميع الأردنيين، لولا تدخل بريطانيا وضغطها، وخشيتها من تصاعد الحركة الوطنية، فسعت إلى إبعادهم فيما بعد.
تشكلت الحكومة في 11 نيسان 1921، على النحو التالي:
• رشيد طليع: رئيس مجلس المشاورين ومشاور الداخلية
• الأمير شارك بن زيد: نائب العشائر
• أحمد مريود، معاون نائب العشائر
• أمين التميمي: مشاور الداخلية
• مظهر رسلان: مشاور العدلية والصحة والمعارف.
• علي خلقي الشرايري، مشاور الأمن والانضباط.
• محمد الخضر الشنقيطي قاضي القضاة
• حسن الحكيم: مشاور المالية
وهكذا تشكل أول جهاز إداري مركزي منظم في الإمارة الناشئة لأول مرة في تاريخها كدولة قطرية. كان علي خلقي الوحيد من أبناء شرقي الأردن الذي دخل في تشكيلة الحكومة الأولى. كان الطابع الوطني العروبي واضحا في تركيبة الحكومة واعتبرها البعض حكومة سورية في المنفى، بعد أن أعاد أعضاء حزب الاستقلال تشكيل حزبهم في عمان، ولم يخفوا عدائهم لفرنسا.
تعكس هذه التركيبة الاعتبارات التي كانت تدور في ذهن الأمير والمحيطين به، والذين كانونا ينظرون إلى شرقي الأردن بمثابة جزء من الدولة العربية التي قامت الثورة العربية من أجل إنشائها، ولذلك كان عبد الله يعتبر إدارته لشرقي الأردن نيابة عن والده الملك حسين حتى سنة 1923.
تشكلت الحكومة الأردنية الأولى من عناصر قومية – استقلالية من خارج شرقي الأردن، فقد ضمت حجازيين هما الأمير شاكر بن زيد، ومحمد خضر الشنقيطي، وفلسطيني واحد هو أمين التميمي، وأربعة سوريين هم : رشيد طليع وأحمد مريود ومظهر رسلان وحسن الحكيم.
استأثر حزب الاستقلال بأكثر من نصف مقاعد هذه الحكومة، مما يدل على نفوذهم، وحاجة الأمير عبد الله لهم باعتبارهم سندا قويا له. ولم يقتصر هذا الأمر على تركيبة الحكومة، بل تجاوزها إلى معظم المؤسسات وهياكل الإدارة العامة للإمارة، فكان رئيس الديوان الأميري عوني عبد الهادي، يعاونه عادل أرسلان وعزت دروزة، ومتصرف البلقاء رشيد المدفعي، ومتصرف اربد أمين التميمي، وقائم مقام عمان ثم متصرف اربد نبيه العظمة، وغالب الشعلان وحامد الوادي مرافقان عسكريان للأمير، وعارف الحسن قائد عام الدرك، وآخرين كثر.
أخذ رشيد يشجع الأمير عبد الله على إجراء انتخابات لمجلس نيابي يمثل الأمة، ثم بدأ ينشئ الدوائر المختلفة، على أساس الاقتصاد في النفقات، بحيث لم يزد أكبر مرتب عن أربعين جنيها مصريا. ولم يحدث من الوظائف إلا ما كان ضروريا لمصلحة البلاد، مراعيا قلة الواردات، وتجنب إرهاق الأهالي بالضرائب، والاستغناء عن طلب المعونة المالية من الحكومة البريطانية، والاحتفاظ بقسم من الواردات يرصد لتشكيل قوة عسكرية وطنية، تقوم في المستقبل مقام القوة التي وعد تشرشل في مؤتمر القدس بالإنفاق عليها.
باشرت الحكومة عملها بوضع الأنظمة الإدارية لتسيير دفة الحكم في البلاد وبناء السلطة المركزية. واتخذت قرارا بإلغاء الحكومات المحلية وتوحيد البلاد، وأن تتألف الإمارة من ثلاثة ألوية هي السلط والكرك وعجلون. وأن يحكم كل لواء متصرف مسؤول مباشرة أمام مشاور (وزير) الداخلية.
وفي حزيران 1921 قامت بريطانيا بتنفيذ مشروع إنشاء خط مواصلات بين العراق والأردن الذي عرف بخط حيفا بغداد. كما عملت على تأسيس أول دائرة للبرق والبريد والهاتف، وكانت البداية مقسم للهاتف يحتوي 40 رقما.
كانت الحكومة تعاني من العجز في إيراداتها المالية بسب قلة وارداتها التي اقتصرت على الضرائب والرسوم، والمعونة البريطانية، وحصة الإمارة من إيرادات جمارك فلسطين.
وعلى المستوى الخارجي كانت علاقات الإمارة بفلسطين وطيدة، وكان المعتمد البريطاني في عمان يتلقى تعليماته من المندوب السامي في فلسطين، كما كان كثير من موظفي شرقي الأردن معارون من حكومة فلسطين.
في حين اتسمت العلاقات مع سلطات الانتداب الفرنسي بالعدائية، بعد أن اعتمد الأمير عبد الله على السوريين وخاصة أعضاء حزب الاستقلال، وكانت فرنسا تنظر إليهم كثوار جعلوا من شرقي الأردن قاعدة لهم للعمليات ضد الاستعمار الفرنسي. كما اتسمت العلاقات بنجد بالعدائية والعنف انعكاسا للعلاقات النجدية الحجازية، بعد استيلاء عبد العزيز آل سعود على إمارة حائل في مطلع سنة 1921.
لم تتمكن الحكومة من جمع الضرائب من الأهالي، الذين امتنعوا عن دفعها كشكل من أشكال الاحتجاج على عدم إشراكهم في الحكم من جهة، وعدم قدرتهم على دفعها من جهة أخرى. كما لم تتمكن الحكومة من إيجاد حالة من الاستقرار الأمني والسياسي في مختلف مقاطعات شرقي الأردن، فقد قامت بعد حوالي شهرين من تشكيل الحكومة عدة انتفاضات واحتجاجات، جاء بعضها كحركة كليب الشريدة في الكورة بسبب رفض دفع الضرائب كسبب مباشر، وكرد فعل على قرار الحكومة إنهاء عهد الحكومات المحلية، وهو ما عنى إنهاء نفوذ الزعامات المحلية التي تمتعت بنفوذ وامتيازات تاريخية في مناطقها.
شكل هذا الحدث أول حالة صدام بين تشكيل اجتماعي قبلي تقليدي، وبين تشكيل سياسي حداثي جديد، تمثل في سلطة مركزية مستجدة لم تعتد عليها تاريخيا البنى الاجتماعية القائمة آنذاك. خاصة وأنّ معظم كوادر هذه السلطة جاءت من خارج وسطها الاجتماعي. وكان السبب هو ذاته طيلة المرحلة التركية، أي جباية الضرائب.
قامت بريطانيا باستثمار أحداث الكورة بإدخال قوات عسكرية وطائرات في منطقة ماركا، وسياسيا من خلال تركيز بريطانيا على إيجاد معارضة محلية لما أطلقت عليه "حكم السوريين".
وعلى هذه الخلفية بدأت تنشط بعض التنظيمات السياسية كالحزب الوطني الأردني والذي قادته زعامات أردنية كبيرة، مطالبين الأمير عبد الله بوضع حد لتصرفات رشيد طليع ومن معه. وما لبثت طموحات هذا التيار الأردني أن توضحت وصار على رأس أهدافه القضاء على السيطرة السورية في البلاد، وإحلال حكومة دستورية بزعامة الأمير، وأنّ كل وظيفة مهما كانت كبيرة أم صغيرة يجب أن يشغلها أردنيون، وبضرورة وجود مجلس منتخب. وهكذا شكل هذا الحدث منعطفا مهما في حياة البلاد السياسية، إذ بدأت الخلافات تظهر ما بين الأمير عبد الله والاستقلاليين حول سياسة إمارة شرقي الأردن وإدارتها.
تنازع الحكومة اتجاهان سياسيان، الأول ويمثله حزب الاستقلال وامتداده الحكومي، والثاني الإدارة البريطانية صاحبة النفوذ المالي. وقد ظهر التناقض جليا بين رؤية الحكم – الحكومة الداعم للعمل المقاوم للاحتلال الفرنسي، ورؤية الانتداب البريطاني المناهضة لذلك، مما دفع الحكومة البريطانية للتضييق المالي على الأمير وحكومته، والذي وصل أوجه سنة 1924.
لم تمض أربعة أشهر على عمل أول حكومة حتى أخذت تتعثر في إنجاز مهماتها، خاصة بعد عدم وفاء سلطات الانتداب في فلسطين بدفع حصة شرقي الأردن من واردات الجمارك. وتحت ضغط الأحوال المالية، وعجز الموازنة عن الوفاء بالتزاماتها، تقدم علي خلقي مشاور الأمن، وحسن الحكيم مشاور المالية باستقالتيهما.
قدمت الحكومة استقالتها بتاريخ 23 حزيران 1921، وقد تضمن كتاب الاستقالة الأسباب التي أدت إليها، ومنها عدم وفاء بريطانيا بوعدها بالمساعدة على تشكيل قوة قادرة على تأمين الأمن الداخلي، ومساعدة الحكومة في تحصيل الضرائب وعدم دفع حصة شرقي الأردن من واردات الجمارك، مما جعل الحكومة تضطر للتشديد في تحصيل الضرائب، وما نجم عن ذلك من أحداث.
ويمكن القول أنّ تعثر الحكومة الأولى كان متعمدا من قبل حكومة الانتداب في فلسطين، بهدف السيطرة على عناصر حزب الاستقلال الذين سيطروا على غالبية مقاعد الحكومة الأولى، إضافة إلى الوظائف الكبرى التي استحدثتها، وتأثيرهم الكبير في تسيير دفة الحكم، واتخاذهم سياسة معادية للاحتلال الفرنسي.
نيسان ـ نشر في 2021/04/11 الساعة 00:00