قدريّةُ قتل الذات

منذ لحظة ولادتنا نشرع بقتل أنفسنا؛ نصرخ في تلك اللحظة حتى نكاد نموت. وحين ننجو من الموت صراخاً، نجرب الموت اختناقاً ببلع شيء لا يتسع له بلعومنا الصغير جداً. نعبث في سنوات الطفولة الأولى بأشياء القتل جميعها: أسلاك الكهرباء وكل أنواع الكهرباء القاتلة. نُسقط أنفسنا بأيِّ تجمّعِ ماءٍ كفيلٍ بإغراقنا. نعشق، على وجه العموم، السقوط بمختلف أشكاله ومزالقه ومخاطره: السقوط من سطح البيت، من أي مرتفع. غياب رغبة الانتباه تجعلنا لا نفكر بالمسافة بيننا وبين أي سيارة عابرة، وفي حالات كثيرة ننجح بانتزاع الموت دهساً. فضول الاكتشاف في سنواتنا الأولى بمعظمه قاتل أو يكاد. بعضنا ينحرف نحو شلل الزعرنة وهذه لها ألف باب موت وباب: الموت بجرعة زائدة. في مشاجرة عنيفة. بحادث سير بسبب السرعة القاتلة. في مطاردة مرعبة. بعضنا ينجرف نحو خيار التديّن، فإذا به ينحو نحو وجهات موت لا تشبه من اختاروا الانحراف، ولكن النتيجة واحدة، فكل ما نفعله بتعدد خياراتنا، أننا ننوّع من أسباب موتنا: الموت انتحاراً بعد أن يقنعنا أحدهم أن تحزيم أجسادنا بكمية مناسبة من المتفجرات، كفيلة لحظة إطلاق العنان لها، تأمين ميتةٍ هنيةٍ جنّاتيةٍ لنا. الموت بأخطاء استخدام سلاح (الحق) في هذه المرحلة الحساسة من أعمارنا. بعضنا لا يملك عمق أن يذهب للملذات، ولا أن يذهب للجنّات، فيختار الانغماس في الطعام، فإذا به يموت بدانة.. سمنة مفرطة.. أو يموت بسبب تآكل أجزائه المهملة التي لم يستعملها ولم يكرمها. هؤلاء السلبيون يموتون في أحايين كثيرة بسبب افتقاد الأجهزة لحوافز تأديتها وظائفها. اختاروا السلبية واختاروا معها أنواع ما تفضي إليه من أسباب موت. نتوزع مهن الكوكب واختصاصات العمل فيه، ولكل منها تفاصيل موت كثيرة: (طوبرجي) سقط عن (سقالة) الطوبار. سائق تاكسي مات في حادث سير. فني كهرباء سقط عن عامود كهرباء. صياد ابتلعه الموج أو الحوت الكبير. مستثمر أصيب بجلطةِ فقدانِ مناقصةٍ كبرى كفيلة بستر ديونه المستترة. صيرفي يعلن عن مؤتمر صحفي، ثم يضع المسدس في فمه على مرأى وكالات الأنباء الرعناء، ويطلق النار في حلق وجوده. أما من اختاروا الأحلام فهؤلاء حطب عظيم لأسباب موت عظيمة: عاشق ينتحر لأن أهل حبيبته زوجوها لابن عمها. شاعر يرفض الواقع فينتحر. روائي يقع في مطب التقمص فيبدأ تخيل نفسه واحداً من أبطال رواياته وينتحر (آرنست همنغواي مثلاً). ملايين ينحدرون لأدنى مراتب (الشو) فيرتكبون مقدمات وحماقات نفوقهم على الهواء مباشرة. رافض لكل ذلك يواصل حرق السجائر داخل صدره إلى أن ترفض رئتيه تلك المواصلة معلنة استسلامها للهلاك. حريص على الحياة يعرض جسده لرتابة الغذاء والسوائل فيفنى وهو يعتقد أنه فعل كل شيء كي يعمّر. سحّيج يموت كارهاً لنفسه رافضاً عناوين وجوده. جاسوس يموت في قلب التناقضات. يقتل الطاغية مزيداً من أبناء شعبه كلما تناهى إليه أن الناس بدأو يتململون من كل هذا الظلم. يقتلهم مبعداً عن نفسه شبح موته هو بثورة شعبية عارمة، وكلما أمعن في قتل شعبه، كلما اقتربت لحظة موته. مغامر يقرر أن يموت فوق حبل على ارتفاع ألف قدم فوق اليابسة. ممثل يقرر أن يموت من خلال العبث بالسلاح الذي حمّله المخرج له كي يؤدي مشهداً في تراجيديا الحياة. رسام يتسبب باحتراق سرديّته ويموت. كومبارس يموت دون أن يلتفت لموته أحد. بردان يموت بعد احتراق المدفأة. كوّى يموت بالتليّف. نجارٌ يموت بفأرة الخشب. مؤرخٌ يموت بسبب تداخل الحِقب. ساحرٌ يموت في بلاد العجب. عامل إطفاء يموت من فرط الشجاعة. متشككٌ يموت في ظل غياب القناعة. طبيب يموت متفانياً بالاختلاط مع الوباء. متسابقُ رالي يموت بسبب الهيجان. نحيلٌ يموت وهو يبحث عن حنان. حنان نفسها تموت رغم أن اسمها أوهمها أنها ابنة حياة، لكنها تمادت في اختبار الممكنات، فماتت وهي تهدهد الجِهات.