السياسة الروسية و العرب (1)

د.حسام العتوم
نيسان ـ نشر في 2022/01/09 الساعة 00:00
للعروج على السياسة الروسية وسط العرب، يتطلب الأمر تقسيم المنطقة العربية إدارياً إلى (الجزيرة والمنطقة الشامية وشمال أفريقيا)، وهو الذي من شأنه أن يسهل وضع كل منطقة تحت مجهر التحليل السياسي الموضوعي والمنصف للعلاقة الرابطة بين الاتحاد السوفيتي وروسيا المعاصرة من جهة وبين البلاد العربية الواسعة. وبالمناسبة، يحتل العرب المرتبة الثانية من حيث المساحة الجغرافية عالمياً بعد روسيا الاتحادية (أكثر من 17 مليون كم2 لروسيا مقابل حوالي 14 مليون كلم2 للعرب)، ويتفوق العرب على روسيا بعدد السكان ( 437 مليون نسمة للعرب مقابل 145 مليون نسمة لروسيا).
والعلاقات السوفيتية بقيادة روسيا الاتحادية بدأت مع العرب عام 1926، عبر المملكة العربية السعودية وبواسطة روسيا القيصرية وقتها في القرن العشرين.
ودخلت منطقة الجزيرة العربية مرحلة علاقات بطيئة ومعقدة مع الاتحاد السوفيتي لحزمة من الأسباب الإسترتيجية العميقة، من أهمها وفي صدارتها الفجوة الأيدولوجية الفكرية الدينية، ففي بلاد السوفيت وبعد نجاح ثورتهم البلشفية عام 1917، صعدت المؤسسة الاشتراكية - الشيوعية على شكل حزب، وسجل النجاح للاشتراكية فقط، وعرفت الجزيرة العربية بتشددها الديني الاسلامي السني - إن صح التعبير- وبحكم تمركز المقدسات الإسلامية الهامة فيها (المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة الى جانب المسجد الأقصى في القدس، ولمنافستها لإيران على زعامة العالم الإسلامي بقوة وقدسية موقعها الديني، وبسبب الأغلبية الدينية للسنة بالمقارنة مع الشيعة - (1,8 مليار مسلم تقريبا منهم حوالي 90% من السنّة، أي 1,5 مليار مقابل حوالي 10% شيعه أي حوالي 340 مليون)، وشكّلت الحرب الباردة بين السوفييت وحلف (وارسو) العسكري من جهة، والغرب الأمريكي وحلف (الناتو) من جهة أخرى، بعد قرار واشنطن عام 1945، في أعقاب الحرب العالمية الثانية (العظمى) الانفصال عن جبهة السوفييت المنتصرة، وبقوة على النازية الألمانية بقيادة (أودولف هتلر)، وتشكيل قطب أوحد غربي مواجِه، ومُصعد لسباق التسلح، بهدف السيطرة على أركان العالم كافة، وذهاب الولايات المتحدة الأمريكية إلى أبعد من ذلك، عبر التخطيط لقصف البلاد السوفيتية الناهضة بالسلاح النووي عام 1949، لولا تنبهها لامتلاك سلاح نووي مقابل رادع بعد نصرها الساحق، ورغم مساهمتها بقوة إلى جانب أمريكا وبريطانيا، في تشكيل مؤسسة الأمم المتحدة عام 1945 نهاية الحرب العالمية الثانية، لضبط إيقاع مسار العالم وأزماته المتجددة وفقا لأحكام القانون الدولي.
ومن الأسباب الأخرى التي شنّجت العلاقات بين الجزيرة والسوفييت في عمق التاريخ المعاصر، الحضور الوهابي إلى جانب المقاومة الأفغانية المسلمة، وبمساعدة أمريكا والتعاون المشترك بهدف التخلص من السوفييت من أفغانستان بعد دخولهم إلى هناك عام 1979 في أتون الحرب الباردة وتصاعد سعيرها، وهو الذي حصل فعلا عام 1989، وتناغم مع عمق العلاقات الأمريكية مع شبه جزيرة العرب منذ عام 1933. والمعروف بأن أمريكا لم ولن تقبل بأقل من منافسة السوفييت وروسيا المعاصرة على المكانة الاستراتيجية لشبه الجزيرة – سلة خير العرب - بحكم إمكاناتها الاقتصادية الضخمة البترولية والغازية والطاقة عموماً. فالسعودية لوحدها تشكل ثاني أكبر احتياط بترولي في العالم بعد فنزويلا (42) مليار متر مكعب، وتمتلك قطر ثالث احتياطي غاز في العالم (10%) من احتياطي العالم بعد روسيا وإيران منذ عام 1971.
وفي مجال المصادر المعدنية والمائية، وعلى الموقع الديني المتميز وعلى صعيد الحجيج لبيت الله والسياحة الدينية. والاهتمام الروسي بالجزيرة ينسحب على كل العرب بطبيعة الحال.
وفي التسعينيات، قلقت روسيا الاتحادية، ورغم مواصلة دول الجزيرة العربية علاقاتها الدبلوماسية معها، من ضلوع (الجزيرة) ومن زاوية أيدولوجية بحروب القفقاس المتتابعة، وهو الأمر الذي وضعت أمريكا عينها عليه، ورغبت وقتها باستثماره لصالحها ولإختراق روسيا من الداخل والوصول إلى عمقها وتمزيقها، وهو ما حذر منه الرئيس فلاديمير بوتين، عندما صرح في مؤتمره الصحفي والإعلامي والشعبي الأخير 2021، في موسكو من وسط قصر (الكرملين) الرئاسي؛ بأنه يصعب الانتصار على بلاده روسيا من الخارج، وقصد التعادل النووي العسكري مع أمريكا، وفي مجال القوة الصاروخية البالستية النووية، بينما من الممكن اختراق بلاده من الداخل – حسب قوله- بالتعاون مع أعداء الخارج، وقصد أمريكا وحلفها العسكري الغربي (الناتو) رغم وصفه أمريكا بالحليف الاستراتيجي وفي مجال الرقابة على الصناعات النووية العسكرية الروسية. وفي الجوار الروسي - والكلام هنا لي - أمثلة حية على قول بوتين هذا نلاحظها في (أوكرانيا و جورجيا و حاليا في كازاخستان).
واستمرت العلاقات الروسية مع جزيرة العرب في مد و جزر، ووضعت روسيا الاتحادية نصب أعينها أهمية الفصل بين المحاور السياسية والدينية الأيدولوجية رغم ما لديها من حضور ديمغرافي اسلامي يناهز العشرين مليون نسمة، وبين الاقتصاد الواجب استثماره لمصلحة الجانبين الروسي والعربي في شبه الجزيرة، ومن زاوية قيادتها لنظرية عالم الأقطاب المتعددة والأصل أن تكون متعاونه خاصة والجزيرة غنية بمصادرها الطبيعية مقابل وصول روسيا إلى مرحلة التطور التكنولوجي وتحديدا في مجال المفاعلات النووية السلمية التي زودتهم بها بكميات كبيرة في المملكلة العربية السعودية منها فقط 16 مفاعلا من نوع (فير)، وفي الأمارات عام 2012، وفي مجال السلاح التقليدي المتطور والنوعي. ومما سرع في تقريب روسيا من عرب الجزيرة حادثة 11 سمبتمبر في واشنطن و النيويورك عام 2011 التي اتهم الشرق الأوسط بأسبابها، والأشتباك السياسي واللوجستي والعسكري وسط الأزمة السورية الدموية التي اجتاحها التطرف، وحركات الجهاد، وحتى الإرهاب من 80 دولة عالمية وشرق أوسطية مع اندلاع الربيع العربي ومنه السوري عام 2011، بحجة الدفاع عن الشعب السوري المكلوم من (نظامه السياسي) وتحت مظلة الفوبيا الروسية، وتحويل الرهاب غير المبرر ضدها الى صبغة ممارستها، أي روسيا (للإرهاب) , وهو محض هراء و سراب وغياب لصورة الأعلام الموضوعي الدقيق.
والمعروف هو أن النظام السوي ومعه روسيا الاتحادية عانوا من الإرهاب والتطرف المجند على أراضيهما والمهاجر اليهما، تماما مثل الشعب السوري نفسه، الذين اتهموا بالتطاول على كرامته وأمنه الأنساني وحريته، رغم وجود ملاحظات قانونية وأخرى ذات علاقة بحقوق الإنسان سجلها ضد النظام السوري مرصد المعارضة السورية الذي كان صوته مسموعا طيلة الأزمة ذاتها، وكان لروسيا ولازال صولات سياسية وعسكرية وأمنية وعلى شكل مساعدات إنسانية وطبية وثقافية منذ عام 2015، وجهود ملاحظة وبالتعاون مع الأردن وأمريكا في موضوع فتح مناطق لخفض التصعيد في جنوب وشمال سوريا بهدف إعادة اللاجئ السوري الى عمق وطنه طوعا بعد تأمينه بالبنية التحتية اللازمة لذلك.
وبالمناسبة، فإن الاتحاد السوفيتي وروسيا المعاصرة لم تقتربا من شبه جزيرة العرب مرة واحدة، ففي الذي اقترب في السوفييت من العربية السعودية عام 1926, ومن اليمن عامي 1927 و1991، واقتربو من الكويت عام 1963، ومن الإمارات عام 1971، ومن البحرين عام 1991، ومن سلطنة عمان عام 1985، ومع قطر عام 1988 , وعلاقات مماثلة استراتيجية مع مجلس التعاون الخليجي الذي نطمح نحن العرب بتحويله مستقبلا الى مجلس للتعاون العربي الاقتصادي ليترجم قرارات الجامعة العربية الى واقع مفيد للدول العربية الفقيرة خاصة والمديونة للبنك الدولي .
والجزيرة العربية مؤهلة اليوم أكثر من غيرها من مناطق العرب الشامية وفي شمال أفريقيا لإعادة إحياء صيحة ونداء ملك العرب وشريفهم صوب الوحدة العربية الحقيقية بعد قيادته في التاريخ المعاصر لثورة عربية هاشمية مجيدة عام 1916 هدفت لبناء بلاد الشام والدولة العربية الواحدة، وهي التي أحبطت الصهيونية مشروعها وعبر الأستعمارين الإنجليزي والفرنسي ممثلان بـ ( سايكس – بيكو 1916 ) ووعد بلفور 1917.
كتب سليمان الموسى في مؤلفه (الحركة العربية – سيرة المرحلة الأولى للنهضة العربية الحديثة 1908 – 1924 ص694-695) بأن الملك حسين، وقصد شريف العرب ومفجر ثورتهم الكبرى دعا للوحدة، بعلم واحد، ونقد واحد، وجوازات سفر واحدة، ومصالح اقتصادية واحدة، وجيش واحد.
والملاحظ هنا بأن الزيارات الرئاسية بين روسيا الاتحادية و الجزيرة العربية نشطت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي منذ عام 1994، عندما زار رئيس وزراء روسيا جيرنوميردين الرياض، تبعها زيارة مماثلة رفيعة المستوى للرئيس فلاديمير بوتين عام 2007، قلّد خلالها قلادة الملك عبدالعزيز عالية الشأن، من قبل الملك عبدالله بن عبد العزيز خادم الحرمين الشريفين وقتها، وفي عام 2007، زار الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع السعودي موسكو، تبعه بندر بن سلطان أمين عام المجلس الوطني 2008، ومقرن بن عبد العزيز رئيس الاستخبارات 2009، والأمير محمد بن سلمان 2017، والملك سلمان بن عبد العزيز 2017، والرئيس بوتين مجددا عام 2019، محتفظا بتوقيت موسكو في الرياض وبتحدثه باللغة الروسية اعتدادا ببلاده العظمى التي قدم منها.
وزيارات مماثلة لكل من ملك البحرين لموسكو حمد بن سلمان ال خليفة عام 2016 وتقليد بوتين سيف الملك الذهبي، ولمحمد بن زايد ال نهيان ولي عهد أبوظبي لموسكو عام 2018، وزيارة للرئيس بوتين للأمارات عام 2019، وهدية لسيادته من قبل ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد وهي عبارة عن صقر أبيض، ومن عادة الرئيس بوتين أن يرد الهدية بمثلها وفوراً.
وعرفت السياسة الخارجية الروسية بوسطيتها واعتدالها، وكذلك الأمر في منطقة الخليج العربي ووسطه، وموقف وسطي روسي بين السعودية واليمن في حربهما، ودعوة للحوار، وأخرى للقوى الخارجية بضبط إيقاعهم وتدخلاتهم، ودور وسيطي روسي أخر مماثل عبر عنه وزير خارجيتها سيرجي لافروف، أثر اندلاع أزمة خليجية عاصفة بعد زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الأولى عام 2017 للعربية السعودية، وتوقيع صفقة اقتصادية مليارية كبيرة (350) مليار، ومنها شمل الجانب العسكري .
    نيسان ـ نشر في 2022/01/09 الساعة 00:00