بلدتنا وعيد الحب والهجرة الأولى
نيسان ـ نشر في 2022/02/15 الساعة 00:00
في بلدتنا الصغيرة لم نعرف أن هناك عيداً «للحب» لكن الناس كانوا يحبون بعضهم بلا مظاهر احتفالية وكان منسوب الكراهية أقل بينهم؛ فطبيعة الحياة وقسوتها تجعل الحب والكراهية من أدوات الرفاهية فهم مشغولون بمكابدة الحياة وقسوتها.
حتى مرحلة الثانوية العامة لم أكن أعرف ومعظم جيلي أن هناك يوماً مخصصاً يتبادل فيه الناس الورد الأحمر والهدايا والدببة الحمراء، ولعل الاشتباك الأول لي وزملائي مع الورد كهدية كان في ذلك اليوم الشتوي أواخر الثمانينيات عندما شاركت مدرستي في برنامج «رواد الغد» الذي كان يقدمه التلفزيون الأردني ومقدمته الاعلامية «بريهان قمق»، في ذلك اليوم خرجنا باكراً من المزار الكرك في أجواء شديدة المطر والبرودة وكان معظمنا يرتدي الزي الوطني والشماغ؛ المسابقة تتضمن مسابقة ثقافية بين مدرستين واحدة للذكور والثانية للإناث وكان نصيبنا مع مدرسة الاميرة عالية للإناث؛ يومها دخلت طالبات المدرسة العمانيات يحملن بوكيه ورد أذكر انه من أزهار سيبال الشهير، وتذكرت أنه كان علينا أن نحضر للتلفزيون شيئا من رائحة الكرك كالجميد مثلاً فهذا بالنسبة لنا أثمن وأعظم هدية.
لاحقاً ذهبت الى سورية للدراسة؛ وكان الانتقال من بلدة وادعه تخلد للنوم بعد مسلسل السهرة اليومي هذا اذا تأخرت وأوغلت في السهر؛ الى مدينة لا تنام هي حلب التي ارتبط اسمها بالفن والطرب وهي المدينة ذات تنوع التاريخي والحضاري والثقافي المذهل والجميل يعيش فيها الأرمني والسرياني والكردي والتركماني والبدوي والشركسي المسلم والمسيحي؛ بالإضافة لكونها مدينة القدود الحلبية وانجبت أساطين الفن كصباح فخري وشادي جميل وميادة حناوي وهي مدينة سيف الدولة الحمداني وسكنها المتنبي وكتب فيها اعظم قصائده مدحاً وهجاءً وفيها اطيب المأكولات التي لا ينافس الحلبية فيها احد.
في ذلك العام كان الشتاء قاسياً والكهرباء بالكاد أربع ساعات باليوم والمازوت» الديزل» مقطوع نهائياً؛ اذ كانت سورية محاصرة باعتبارها متهمة بدعم الإرهاب، سكنت في حي الجميلية وهو حي قديم وعريق بالقرب من ساحة سعد الله الجابري مع طالب يكبرني سناً يدرس الهندسة وكان من المفروض أن يدرس الفلسفة لاهتمامه بأدق تفاصيل التفاصيل والتزامه دينياً حد التصوف ومع زميل آخر كان يدرس الحقوق وكان مهذباً كزميلي الآخر لكنه يملك قدرة مذهلة على نسج وربط الحكايات ببراعة ودقة حتى تكاد تشعر وانت معه بأنك احد ابطال رواياته التي لا تنتهي؛ فليل الشتاء طويل ولا كهرباء ولا تدفئة وكان زميلي يتكفل بدور الراوي الذي لا ينضب صندوق حكاياته كصناديق الجدات وأنا مكتف بالاندهاشة.
أسفل العمارة يوجد متجر لبيع الورود والزهور وللوهلة الأولى تخيلت أنه يبيع الأشجار كتلك المحلات على طريق جرش والتي شاهدتها للمرة الأولى يوم حملتنا السيارة الدوج الأميركي من طلعة الشابسوغ الى سورية وكان السائق مهمته الأساسية التهريب بدأ من الليمون والباذنجان وانتهاءً ببسكويت «توتو».
في صبيحة 14/2 من ذلك العام وكان بارداً وممطراً كان الناس يتوافدون على متجر الورد ومعظمهم يرتدي «لفحات» حمراء يبتاعون الورد وانا مندهش فخطر ببالي انه عيد «للشيوعيين» لأن أحد محازبي جماعة الاخوان المسلمين في قريتنا أهداني كتاب عبد الله عزام «السرطان الأحمر» عن الشيوعية والتدخل السوفياتي.
ذهبت للجامعة وزاد الاندهاش أكثر… الطالبات والطلاب يضيفون للزي الجامعي قميص أو بلوزة حمراء… الورود الحمراء… ربطات العنق الحمراء الهدايا المغلفة بالأحمر فأدركت حينها أن الأحمر ليس فقط لون الدم بل الفرح أيضاً.
لو كنا نعلم حينها أن زماناً سيأتي على الناس يحتاجون فيه لفتوى حتى يحبوا بعضهم ولا يكرهوا حتى لا يقتلوا بعضا لأن الحب رجس من عمل الشيطان، لكنا ما فوتنا تلك الفرصة واختزنا الحب في خوابي العمر وادخرناه لزمن القحط والكراهية.
لا تستهويني الكتابة التبريرية عن شرعية فكرة الحب أو عدمها فتلك من اختصاص أهل الفتوى الذي نحتاجهم فيما هو أهم من اصدار فتوى تحلل أو تحرم «الفالنتاين»… لكنني أعتقد أننا أحوج ما نكون لعيد «الإيمان» بحق الإنسان في هذا الكون بأن يعيش كإنسان… بحق الإنسان أن يحلم ويتصرف دون الخوف من مصادرة الحلم على تواضع الأحلام في بلادنا.
الغد
حتى مرحلة الثانوية العامة لم أكن أعرف ومعظم جيلي أن هناك يوماً مخصصاً يتبادل فيه الناس الورد الأحمر والهدايا والدببة الحمراء، ولعل الاشتباك الأول لي وزملائي مع الورد كهدية كان في ذلك اليوم الشتوي أواخر الثمانينيات عندما شاركت مدرستي في برنامج «رواد الغد» الذي كان يقدمه التلفزيون الأردني ومقدمته الاعلامية «بريهان قمق»، في ذلك اليوم خرجنا باكراً من المزار الكرك في أجواء شديدة المطر والبرودة وكان معظمنا يرتدي الزي الوطني والشماغ؛ المسابقة تتضمن مسابقة ثقافية بين مدرستين واحدة للذكور والثانية للإناث وكان نصيبنا مع مدرسة الاميرة عالية للإناث؛ يومها دخلت طالبات المدرسة العمانيات يحملن بوكيه ورد أذكر انه من أزهار سيبال الشهير، وتذكرت أنه كان علينا أن نحضر للتلفزيون شيئا من رائحة الكرك كالجميد مثلاً فهذا بالنسبة لنا أثمن وأعظم هدية.
لاحقاً ذهبت الى سورية للدراسة؛ وكان الانتقال من بلدة وادعه تخلد للنوم بعد مسلسل السهرة اليومي هذا اذا تأخرت وأوغلت في السهر؛ الى مدينة لا تنام هي حلب التي ارتبط اسمها بالفن والطرب وهي المدينة ذات تنوع التاريخي والحضاري والثقافي المذهل والجميل يعيش فيها الأرمني والسرياني والكردي والتركماني والبدوي والشركسي المسلم والمسيحي؛ بالإضافة لكونها مدينة القدود الحلبية وانجبت أساطين الفن كصباح فخري وشادي جميل وميادة حناوي وهي مدينة سيف الدولة الحمداني وسكنها المتنبي وكتب فيها اعظم قصائده مدحاً وهجاءً وفيها اطيب المأكولات التي لا ينافس الحلبية فيها احد.
في ذلك العام كان الشتاء قاسياً والكهرباء بالكاد أربع ساعات باليوم والمازوت» الديزل» مقطوع نهائياً؛ اذ كانت سورية محاصرة باعتبارها متهمة بدعم الإرهاب، سكنت في حي الجميلية وهو حي قديم وعريق بالقرب من ساحة سعد الله الجابري مع طالب يكبرني سناً يدرس الهندسة وكان من المفروض أن يدرس الفلسفة لاهتمامه بأدق تفاصيل التفاصيل والتزامه دينياً حد التصوف ومع زميل آخر كان يدرس الحقوق وكان مهذباً كزميلي الآخر لكنه يملك قدرة مذهلة على نسج وربط الحكايات ببراعة ودقة حتى تكاد تشعر وانت معه بأنك احد ابطال رواياته التي لا تنتهي؛ فليل الشتاء طويل ولا كهرباء ولا تدفئة وكان زميلي يتكفل بدور الراوي الذي لا ينضب صندوق حكاياته كصناديق الجدات وأنا مكتف بالاندهاشة.
أسفل العمارة يوجد متجر لبيع الورود والزهور وللوهلة الأولى تخيلت أنه يبيع الأشجار كتلك المحلات على طريق جرش والتي شاهدتها للمرة الأولى يوم حملتنا السيارة الدوج الأميركي من طلعة الشابسوغ الى سورية وكان السائق مهمته الأساسية التهريب بدأ من الليمون والباذنجان وانتهاءً ببسكويت «توتو».
في صبيحة 14/2 من ذلك العام وكان بارداً وممطراً كان الناس يتوافدون على متجر الورد ومعظمهم يرتدي «لفحات» حمراء يبتاعون الورد وانا مندهش فخطر ببالي انه عيد «للشيوعيين» لأن أحد محازبي جماعة الاخوان المسلمين في قريتنا أهداني كتاب عبد الله عزام «السرطان الأحمر» عن الشيوعية والتدخل السوفياتي.
ذهبت للجامعة وزاد الاندهاش أكثر… الطالبات والطلاب يضيفون للزي الجامعي قميص أو بلوزة حمراء… الورود الحمراء… ربطات العنق الحمراء الهدايا المغلفة بالأحمر فأدركت حينها أن الأحمر ليس فقط لون الدم بل الفرح أيضاً.
لو كنا نعلم حينها أن زماناً سيأتي على الناس يحتاجون فيه لفتوى حتى يحبوا بعضهم ولا يكرهوا حتى لا يقتلوا بعضا لأن الحب رجس من عمل الشيطان، لكنا ما فوتنا تلك الفرصة واختزنا الحب في خوابي العمر وادخرناه لزمن القحط والكراهية.
لا تستهويني الكتابة التبريرية عن شرعية فكرة الحب أو عدمها فتلك من اختصاص أهل الفتوى الذي نحتاجهم فيما هو أهم من اصدار فتوى تحلل أو تحرم «الفالنتاين»… لكنني أعتقد أننا أحوج ما نكون لعيد «الإيمان» بحق الإنسان في هذا الكون بأن يعيش كإنسان… بحق الإنسان أن يحلم ويتصرف دون الخوف من مصادرة الحلم على تواضع الأحلام في بلادنا.
الغد
نيسان ـ نشر في 2022/02/15 الساعة 00:00