الواقعي والافتراضي في الحرب الجديدة

علي سفر
نيسان ـ نشر في 2022/03/19 الساعة 00:00
أوغلت الدعاية عن تشكيل تقني لعالم افتراضي معزّز تحت عنوان "ميتافيرس" في خلق الوهم حول إمكانية أن يعيش البشر في حيوات أخرى مختلفة عما يعيشونه بشكل واقعي. لا بل إن حماس صاحب موقع فيسبوك، مارك زوكربرغ، فاض على الكوكب كله عندما قام بتغيير اسم شركته (تضم تطبيقات فيسبوك وإنستغرام وواتساب) فصار اسمها منصة ميتا (أو ميتا بلاتفورمز).
شعور المرء بأنه سيتمكّن من التحرّر، وإن ذهنياً وليس جسدياً، من مشكلات واقعه، ومن ضغوطه، وتحكّم المال والسياسة، بكل مفردات عيشه، أمرٌ يرفع الأدرينالين في الجسم، وهذا يحفّز الإنسان على أن يتفاءل بوجود نوع من الخلاص المؤقت، فلا ينتظر، بحسب التفسير الديني للحياة، أن يرحل إلى العالم الآخر ليعيش جحيمه أو جنته، بل بات بإمكانه أن يختار العالم الذي يريده وهو على قيد الحياة.
يريد صُناع "ميتافيرس" إقناع البشر بأنهم يمتلكون خيارات من نوع ما لتحسين ظروفهم، ولكن من خلال التقنية، ليس أي تقنية، بل التي يصنعونها، لكن الأمر الذي يغيب عن أذهان المرحّبين بالقصة أن وضع كل البيض في سلة زوكربرغ (أو غيره) سينفي وجود خيارات سوى ما يقدّمه هو، أو منافسوه، ما يعني أن ما يهرُب منه البشر من تحكّم القلة بحيواتهم ومصائرهم، سيُعاد هناك في العوالم الوردية، وفي شاشات الحواسيب، وأسلاك نقل المعلومات العابرة للقارّات.
طالما أنّ البشر ما زالوا رهائن بيد أنظمة تسلطية، فإن الحرية التي يمنحهم إياها العالم الافتراضي السعيد لن تكون سوى وهم جديد
نتحدّث هنا عن الرجع العميق للفكرة البرّاقة، ولا ننسى أن أولى التشابهات بين العالمين، الواقعي والافتراضي المعزّز الجديد، جاءت من شكوى تحرّش جنسي قدمتها سيدة، ادّعت تعرّضها له في الفضاء الذي ظنّته آمناً، الأمر الذي جعل شركة ميتا تستنفر قدراتها من أجل حماية المستخدمين من عبث الآخرين المهجوسين بالجنس، حتى صنعت لهم الفقاعة الآمنة التي تحميهم. ولكن مشكلات البشر بمجموعهم لا تبدأ وتنتهي بقضايا المتحرّشين أو المتنمّرين وغيرهم، والتي يتحدّث المبتكرون عن قدراتهم في السيطرة عليها، بل تأتي من الجهة التي لا يمكنهم، ولا يمكن لغيرهم، أن يتحكّموا بها، العالم الواقعي ذاته.
نعيش الآن حرباً جديدة في شمال الكوكب، أي في "العالم المتحضّر"، وليس في الأقاليم البائسة التي أدمنت الحروب والصراعات، كما تحدّث المراسلون لقنواتهم التلفزيونية، وصل عدد الهاربين منها إلى ما يزيد عن مليوني لاجئ حتى تاريخ كتابة هذه السطور، اضطر بعضهم للمشي 50 كيلومتراً كي يصلوا إلى حدود بلدهم مع بولندا!
وبعد أن أقنع التقنيون القادة في أوروبا بأن الحروب المقبلة ستكون إلكترونية، يحوز العالم السيبراني حصةً كبيرة منها، صُدم الجميع حينما وجدوا أن الحروب ما زالت تندلع بقرار من ديكتاتور نزق، وتقوم على وجود طائرات متقدّمة القدرات، ودبابات عالية التصفيح، وقادرة على المناورات السريعة، وإمكانات بشرية مدرّبة، وغير ذلك.
وبدا أن ما جرى تصنيعه ذهنياً عن حجم القوة التدميرية الروسية سيوقع الهزيمة بالأوكرانيين الذين أعادوا إنتاج الصدمة، ولكن على طريقتهم، حينما صمدوا في وجه القوة الغاشمة، وما زالوا يقاومون، ويطالبون الحلفاء الأوروبيين بتزويدهم بالأسلحة الفتاكة، لمواجهة تفرّد جيوش بوتين بهم.
هنا يسأل المرء أولئك الذين يريدون منا أن نغمض عيوننا عما يجري، لنذهب بصحبتهم، وعبر النظارات الخاصة، إلى العوالم الأخرى التي يصنعونها، ويغروننا بالسكن فيها، بعد أن جعلونا سنوات طويلة من المقيمين في "فيسبوك" وغيره، بماذا وكيف سنواجه الواقع الذي لا بد سيعكس صراعاته في أي عالم يوازيه؟
يحتاج البشر من أجل أن يخوضوا مغامراتٍ افتراضيةً ممتعةً أن ينظفوا حياتهم الواقعية من كل المساوئ التي يعيشونها
ألم تصبح مواقع التواصل الاجتماعي ساحات حروب وثورات وقمع وإرهاب؟ وانتهى بها الحال إلى أن تصبح من أهم أسباب الاكتئاب وحوادث الانتحار، وخصوصا لدى الفئات الشابة التي تشكل وعيها ضمن هذه الفضاءات. ماذا سيفعل المهزومون عسكرياً، وأولئك الذين فشلت ثوراتهم وانتهى بهم الحال نازحين ولاجئين في العالم الافتراضي؟ هل سيقلبون النتائج، ليصبحوا رابحين؟ وما الفائدة، طالما أنهم يعيشون واقعاً مراً، بعيداً عما خسروه من أوطان وحيوات حقيقية، وأحلام عملوا من أجلها، قبل أن يحوّلها الديكتاتوريون وداعموهم وحلفاؤهم إلى مجرد ماضٍ، لم يعد بإمكانهم استعادته؟
يدرك هؤلاء المجبولون من الأذى الصلب والعقول المهووسة بالسيطرة أن الناس لا تريد حروباً، فيستغلون هذا، ويجعلون منه ضَعفاً، يسمح لتصرفاتهم أن تحدُث، والسكوت عنها، وكأنها تجري في كوكب آخر. وبينما يستغرق الآخرون بمحاولات الفهم والنقاشات، يتمدّد الشر، وينتهك كل الشرائع والتفاهمات والمقرّرات الأممية التي تمنع الحروب، منذ معاهدة صلح وستفاليا العام 1648 وحتى هيئة الأمم المتحدة في 1945، وإذ يتكرّس الظلم واقع حال، سيجد طامحون آخرون للسيطرة أن بالإمكان فعل الشيء نفسه، طالما أن الإفلات من العقاب بات ممكناً دائماً.
يحتاج البشر من أجل أن يخوضوا مغامراتٍ افتراضيةً ممتعة أن ينظفوا حياتهم الواقعية من كل المساوئ التي يعيشونها، وطالما أنهم ما زالوا رهائن بيد أنظمة تسلطية، فإن الحرية التي يمنحهم إياها العالم الافتراضي السعيد لن تكون سوى وهم جديد، يكرّر مصائب سابقة. ألم تحمل العقائد والأديان شيئاً يشبه هذا، ثم صارت على يد النخبة ذاتها عناوين متعدّدة للخراب ذاته؟
    نيسان ـ نشر في 2022/03/19 الساعة 00:00