كاهنة النسيان

آمنة بدرالدين الحلبي
نيسان ـ نشر في 2022/06/22 الساعة 00:00
رنّقَتْ شمسُ الأصيلِ للمغيب، وأرختْ ظلالها على حديقة القصر، حتى الأشجار اتشحتْ بلونٍ وردي... وبدأ الليلُ يزحفُ رويدًا رويدًا مرخيًا سدوله على جنباتِ القصرِ.
ها هو القمر ينسج نوره من بقايا ضوء الشمس ...
لحظاتٌ موقوتة.. بل دقائقٌ فاصلة ..
إبداعٌ جميلٌ يلاحقُ بصري، أما بصيرتي فتحملني من مكانٍ إلى آخر في هذا القصر الكبير .
السكينةُ سادتْ على الطبيعة، بعد أن حضنَتْ الأغصان أزهارها، وأغمضَتْ عينيها، واستسلمت لكينونةِ الحب والمحبة. عدا الطيور استأمنَتْ في أعشاشها بين ثنايا الأغصان لتمارس عشقها الأبدي.
كل شيء في القصرِ مرسومٌ بدقةٍ هندسيةٍ لا متناهية، منقوشٌ بسجادة مخملية رائعة الجمال، لكنه عالم في درجة الصفر اللامئوية لا يعرفُ لغةَ المشاعر، ولا يتقنُ شفيفَ الحب.
لم أحرّكْ ساكنًا، بل بقيتُ تحتَ أشجارِ النخيل التي كادت تعانقُ الأرضَ أجمل من أي اتحاد جسدي، عشت هذا الحلم بهدوئه اللامتناهي بعيدةٌ عن أعينِ البشر، معطية لروحي حريتها المطلقة كي تسبحَ في بحرِ الفضاءِ الواسع ـ رائعةٌ هي الأحلام .. جميلةٌ.. والأجمل انعتاق الروح من الجسدِ في تلك اللحظات ـ كل ما في القصر يدورُ بصمتٍ شرس، ويلفًّ في محرقِ الحياةِ المذهلة، بالرغم من وضوح الأشياء دون الحاجة إلى أسئلة.
هنيه ..برهةٌ.. وتتجه البصيرة لصوتٍ يخترقُ جنباتِ القصر، ويسيطر على مسامعي حفيفٌ يقطعُ حبلَ التأمل في لاهوتٍ عميق.
إحساسٌ هزَّ مشاعري، هل هو وهم؟ أم حقيقة؟
أجابني القمر بنوره الفاجر الذي تسلل من بين الطلول، وهو يزحف على وجه ملائكي، يا إلهي!!! لاحقتُ النور لأرى حورية الليل بأبهى الحلل، عيناها تبرقُ جمالا، وتُسكر العاشق، لا يعلم سرها إلا من خبرَ جمالها، وحزنًا يتدفقُ بابتسامة لا تفارق وجنتيها، تتربع تحت شجرة وارفة في هذا القصر الواسع الأرجاء لا تحرك ساكنًا.
استرقيتُ السمعَ لينقل إليّ الأثير صوتًا رقيقًا تقطعه زفراتٍ مغمسةٍ بالألم الدفين.
يبدو أن الأمور بلغت ذروتها من التعقيد، وشدني فضولٌ غريب محاولة أن أؤنسُ وحدتها تحت جنحِ الليل، ربما تسمح لروحي اختراق مكنونات قلبها، وإعادة الفرح إلى عينيها والبسمة إلى شفتيها الورديتين.
ياه... ما أقسى هذا العالم!!! رفيقتها الدمعة، يسلوها الأمل، والضحكة تملأ عينيها الحزينتين. امتدتْ يدي باللاشعور مسحت دموعها برقةٍ وحنان، أحسستُ للحظةٍ أن ثلوج العالم لا تطفئ النار المتأججة في قلبها. واستدارت برقتها نحوي قائلة: منقذتي من عشق سكن في خلايا جسدي كما يسكن الفرح أحداق الأطفال، وتملّك حواسي، وامتدت ياسمينته إلى روحي التي أصبحت منخورة بالوجع بعدما قال لي: أخاف عليك الاحتراق فابتعدي!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
قلت لها: هل كان يحبكِ؟؟
قالت: لن أنسى عبارته الأولى يوم احتضنني بحروفه واخترقتني همسًا وأغنية.
أتذكرين أبجديته أم أصبحتِ كاهنة النسيان؟؟؟؟؟؟
قالت: وهل ينسى العاشق روحه يا سيدتي ؟؟؟
قال: عيناك خمر لم يكتشفوا سره بعد!!!.
وبما أجبتِ؟
قالت: خمرٌ معتق في خابية شامية.
هل تابع حديث الجوى؟
قالت: حتى امتد لسان الصباح وهو يقول سأحاول أن أغور في قاع عينيك لعلي أكتشف جزء من روعتها ... وصمتتْ حورية الليل بعد ذلك وـ لم تنبس ببنت شفة ـ حاولتُ ان أشدّ انتباهها، أن أشحذَ ذاكرتها.
همستْ بقلبها لأن الألم كان يطوقها كهالةٍ غريبة، محاولة استحضار لحظات عشقها اللامحدود لتظل وردة يقطر الفرح من عينيها مهما امتدت سنوات العمر بها، بالرغم من أن الموت تسلل إلى روحها ليصادقها فطردته.
رفعت الصوت وقلت لها: (الأرواح جنود مجندة) أعطِ تنبيها لروحه!!!
انتفضت متألمة وقالت: حاولت كي لا يضيع حبي بين حدائق النسيان في هذا القصر الكبير بسبب المجاعة الروحية، وبين عالم البشر المخيف وفقدان المحبة، حتى صوت الأيام حاولت أن تنتزع صورته من ذاكرتي، وتحفر أخاديد من الكره.
هل أدمنت الكره يا حورية الليل؟
قالت: من يدمن المحبة في طريق السالكين لا مكان للكره في قلبه.. ما زلت أحبه، صورته تجري بخلايا الدم، مطبوعة بقبلة الفم.
تنفست الصعداء أمام حبها، أمام عشقها، أمام ضحكة عينيها رغم الألم، في عالم يدفعها إلى حتفها في المقابر، لأنه لا يجيد العزف على سمفونية المحبة، ولا يفهم لغة الحب.
عالم مقنع بأقنعة غريبة الأشكال والألوان، ويخفي عيوبه بين بريقها، عالم يحرك قلب حورية الليل بين أنامله القاسية كدمية من الورق ويدعها غارقة في بحر من الأحزان، مفترشة الأرض وملتحفة السماء، علها تجد من سكينة الليل خير صديق مؤنس يطفئ النار المتأججة في قلبها العامر بالمحبة لحبيبٍ أعلنَ عليها الحرب.
وقطعت علي حبل التفكير بسؤال قائلة: ماذا أفعل؟
قلت لها: حاولي يا حورية الليل أن تعودي إلى روح المحبة، فسكينة الليل لن تدوم طويلاً.
ها هو لسان الصباح يمتد من حديث الأرواح لتقف آرتيمس عن الكلام المباح.
    نيسان ـ نشر في 2022/06/22 الساعة 00:00