في وداع الشاعر الجميل حسن عبد الله
نيسان ـ نشر في 2022/06/23 الساعة 00:00
" لم يحدث يوماً أن غرقت
في نهر أو بحر
والمرات الكثيرة التي حدث فيها ذلك
كانت هنا على اليابسة!"
الموت، يا له من مختلس كبير، متلصص لا يكف عن التربص، يروح ويجيء، يختفي من هنا ليطل من هناك، خفيف الحركة، كأنه يطير في الهواء، أو يسير بأقدام حافية، لا يحدث جلبة توقظنا من حلم الحياة، وفي لحظة، وكما خلسة المختلس، يقبض على ضحاياه منا، فرادى وجماعات، فيخبؤون وجههم في الأرض بداية، ثم يتوارون خلف غياب عميم، كأنهم شعروا بالملل، أو يئسوا من هروب غير ذي جدوى، فيستسلمون دفعة واحدة، من دون سابق مفاوضات أو انذار أو مراوغة.
سترثيك اللغة يا حسن، وستزداد الوحشة المعلقة في ليالي بيروت، ستبكيك في الجنوب الحجارة البخيلة، بدموع من ينابيع.. قد سبقك من سبق إلى تقمص الغياب على هيئة شهيد فكرة...كأنهم الأوراق تتساقط فجأة، محدثة حفيفها الأخير، من دون أن تعلم الأغصان، أوراق تراقص الهواء، تهوي الهوينى متأنية، متمرجحة، كأنها تختار نقطة ارتطامها الخفيف بالأرض.
"الماء يأتي راكباً تيناً وصفصافاً/ يقيم دقيقتين على سفوح العين/ ثم يعود في سرفيس بيروتَ – الخيامْ/- سلِّم على... سلِّم على.../ يا أيها الماء التحيةُ/ أيها الماء الهديةُ".
كأنك اليوم تشرع في رحلة العودة إلى الخيام، فتمتطي سرفيس بيروتَ – الخيامْ، يا من راقصت اللغة، ونصبت لها الأفخاخ، فتقافزت من بين يديك الكلمات كأنها عصافير لا تعرف الحزن، سوى عند اغتيال صديقك المقرّب حسن حمدان (مهدي عامل) عام 1987، فقلت للراحلين: "سلِّم على... سلِّم على..." اليوم جاء دورك لتحمل السلام، فسلِّم عليهم أجمل التسليم وأتمه.
أقسمت يوما أنك لن تتراجع عن تلك الدماء التي تقدمت في الأرض، فما بالك؟ هل تعبت رجلاك؟ كأنك كنت تتنبأ بهذه الواقعة الأليمة حين قلت: " رجلاي” خائرتان/ لدرجة أشعر معها/ بأنّني لم أعد قادراً/ حتّى/على مجرّد التقدّم بالعمر”. يا للهول! كم أنت جميل أيها التائه على ضفاف الألم، كم كان العمر شحيحا ولم يمهلك، يا حسن عد إلى كمائنك الأولى، وانصب فخاخك لتتصيد الدهشة، واسرج خيول اللغة، ليعتلي صهيلها فينا كل الأفكار الهيّنة، فأنت تشبه هذه الحجارة المتشبثة بالسفوح، المشرئبة برقابها إلى الريح.
كم كانوا محظوظين بتلك الرفقة، في أواخر السبعينيات من القرن الماضي. تخيلوا يا سادة؛ مدرسة يكون فيها حسن عبد الله أستاذا للغة العربية، ومهدي عامل أستاذا للتأريخ، بينما تُدير المدرسة يمنى العيد، أي طالبات ستخرّجُ تلك المدرسة الثانوية في صيدا، أي فخار سيتباهين به، أي عز، أي شوق، وأية أحلام؟
الآن نم قرير العين في نواحي الدردارة الجنوبية، فثمة نجم يحوم في تلك الأنحاء؛ عينه تحرسك، وثمة أمهات يطلقن العنان للزغاريد احتفاءًا بشهادة أبنائهن، كيف لا وقد أغدقت عليهن باللقب الرفيع؛ أجمل الأمهات؛ أولئك اللائي انتظرن الابناء ليعودوا محملين على نعوش المجد، من المؤكد أن نساء عجنّ الثلج خبزا لن يضيرهن انتظار آخر، ولا وداع آخير، ستشيعك كل هؤلاء الأمهات، وينشدن وسط كل هذا الدمار بعيون تسافر صوب أفق وراء الجدار الأخير.
“هناك شيء تمسك به الحياة/ وتخفيه وراء ظهرها/ ولن أتوقّف عن الكتابة/ حتّى أعرف/ ما هو”. ها قد تخففت يا حسون من أثقال الحياة، وتركتنا نتلفع بالحنين إلى جلسات المقهى البيروتي العابرة، وها أنا أعود إلى أطراف بلاد الشام، ولم يتسنَ لي أن أعود، لأُهديك حبات البن التي كنت تنوي دقها، على مهلٍ، في هاونك القديم.
في نهر أو بحر
والمرات الكثيرة التي حدث فيها ذلك
كانت هنا على اليابسة!"
الموت، يا له من مختلس كبير، متلصص لا يكف عن التربص، يروح ويجيء، يختفي من هنا ليطل من هناك، خفيف الحركة، كأنه يطير في الهواء، أو يسير بأقدام حافية، لا يحدث جلبة توقظنا من حلم الحياة، وفي لحظة، وكما خلسة المختلس، يقبض على ضحاياه منا، فرادى وجماعات، فيخبؤون وجههم في الأرض بداية، ثم يتوارون خلف غياب عميم، كأنهم شعروا بالملل، أو يئسوا من هروب غير ذي جدوى، فيستسلمون دفعة واحدة، من دون سابق مفاوضات أو انذار أو مراوغة.
سترثيك اللغة يا حسن، وستزداد الوحشة المعلقة في ليالي بيروت، ستبكيك في الجنوب الحجارة البخيلة، بدموع من ينابيع.. قد سبقك من سبق إلى تقمص الغياب على هيئة شهيد فكرة...كأنهم الأوراق تتساقط فجأة، محدثة حفيفها الأخير، من دون أن تعلم الأغصان، أوراق تراقص الهواء، تهوي الهوينى متأنية، متمرجحة، كأنها تختار نقطة ارتطامها الخفيف بالأرض.
"الماء يأتي راكباً تيناً وصفصافاً/ يقيم دقيقتين على سفوح العين/ ثم يعود في سرفيس بيروتَ – الخيامْ/- سلِّم على... سلِّم على.../ يا أيها الماء التحيةُ/ أيها الماء الهديةُ".
كأنك اليوم تشرع في رحلة العودة إلى الخيام، فتمتطي سرفيس بيروتَ – الخيامْ، يا من راقصت اللغة، ونصبت لها الأفخاخ، فتقافزت من بين يديك الكلمات كأنها عصافير لا تعرف الحزن، سوى عند اغتيال صديقك المقرّب حسن حمدان (مهدي عامل) عام 1987، فقلت للراحلين: "سلِّم على... سلِّم على..." اليوم جاء دورك لتحمل السلام، فسلِّم عليهم أجمل التسليم وأتمه.
أقسمت يوما أنك لن تتراجع عن تلك الدماء التي تقدمت في الأرض، فما بالك؟ هل تعبت رجلاك؟ كأنك كنت تتنبأ بهذه الواقعة الأليمة حين قلت: " رجلاي” خائرتان/ لدرجة أشعر معها/ بأنّني لم أعد قادراً/ حتّى/على مجرّد التقدّم بالعمر”. يا للهول! كم أنت جميل أيها التائه على ضفاف الألم، كم كان العمر شحيحا ولم يمهلك، يا حسن عد إلى كمائنك الأولى، وانصب فخاخك لتتصيد الدهشة، واسرج خيول اللغة، ليعتلي صهيلها فينا كل الأفكار الهيّنة، فأنت تشبه هذه الحجارة المتشبثة بالسفوح، المشرئبة برقابها إلى الريح.
كم كانوا محظوظين بتلك الرفقة، في أواخر السبعينيات من القرن الماضي. تخيلوا يا سادة؛ مدرسة يكون فيها حسن عبد الله أستاذا للغة العربية، ومهدي عامل أستاذا للتأريخ، بينما تُدير المدرسة يمنى العيد، أي طالبات ستخرّجُ تلك المدرسة الثانوية في صيدا، أي فخار سيتباهين به، أي عز، أي شوق، وأية أحلام؟
الآن نم قرير العين في نواحي الدردارة الجنوبية، فثمة نجم يحوم في تلك الأنحاء؛ عينه تحرسك، وثمة أمهات يطلقن العنان للزغاريد احتفاءًا بشهادة أبنائهن، كيف لا وقد أغدقت عليهن باللقب الرفيع؛ أجمل الأمهات؛ أولئك اللائي انتظرن الابناء ليعودوا محملين على نعوش المجد، من المؤكد أن نساء عجنّ الثلج خبزا لن يضيرهن انتظار آخر، ولا وداع آخير، ستشيعك كل هؤلاء الأمهات، وينشدن وسط كل هذا الدمار بعيون تسافر صوب أفق وراء الجدار الأخير.
“هناك شيء تمسك به الحياة/ وتخفيه وراء ظهرها/ ولن أتوقّف عن الكتابة/ حتّى أعرف/ ما هو”. ها قد تخففت يا حسون من أثقال الحياة، وتركتنا نتلفع بالحنين إلى جلسات المقهى البيروتي العابرة، وها أنا أعود إلى أطراف بلاد الشام، ولم يتسنَ لي أن أعود، لأُهديك حبات البن التي كنت تنوي دقها، على مهلٍ، في هاونك القديم.
نيسان ـ نشر في 2022/06/23 الساعة 00:00