إيران من الداخل..صراع الإرادات

إحسان الفقيه
نيسان ـ نشر في 2015/10/12 الساعة 00:00
عندما تستمع إلى "مرضية أفخم" المتحدثة باسم وزارة الخارجية الإيرانية، وهي تصُبّ في آذان المتابعين عباراتها القوية الواثقة حول القضايا المُثارة إقليميا ودوليا، وتطالع في الوقت نفسه حجابها الذي يُغطي جسدها، ويخفي حدود وجهها، حتما يتسلل إليك انطباع بأن هذه السيدة الرمز، تُعبّر عن حالة التدين العامة في الجمهورية الإيرانية. ربما كان ذات الانطباع الذي خلَّفه مشهد السفر إلى إيران لدى الكاتب المصري فهمي هويدي في الثمانينيات، عندما أعلنت مضيفة الطائرة أن الرحلة في طريقها إلى طهران لا تقدم الخمور، وأن على السيدات مراعاة تقاليد الدين الإسلامي لدى نزولهن من الطائرة، وهو ما سرده في كتابه "إيران من الداخل". *تلك هي الفكرة السائدة لدى شعوب الأمة، أن المجتمع الإيراني بعد الثورة هو مجتمع متدين، ثار على أوضاع الفساد في حقبة الشاه، وقضى على مظاهر البغي والفجور وبيوت الدعارة، والتزم ببركة ثورة الفُقهاء الملالي بتعاليم الإسلام. ولكن هذا الانطباع قد يُنسف من جذوره عند كل من انخرط في المجتمع الإيراني أو احتكّ به عن قرب، ليكتشف أن التديّن في إيران قشري صوري يطلي هيكل المجتمع ولا يمسّ مضمونه وجوهره، فهو أشبه بالملابس الرسمية التي يرتديها الناس في الحفلات الجامعة. حقائق ربما تصدمك: أظهر تقرير المخدرات العالمي الصادر عن الأمم المتحدة 2005م، أن إيران توجد بها أعلى نسبة مدمنين في العالم، وأن 2.5% من السكان الذين تزيد أعمارهم عن 15 سنة مدمنون على نوع من المخدرات. يقول د. غازي التوبة في ورقة بحثية بكتاب "المشروع الإيراني في المنطقة العربية والإسلامية" الصادر عن مركز "أمية": "يقدر الباحثون أن عدد المدمنين في إيران 2.5 مليون مدمن، ولو اعتبرنا أن عدد أفراد الأسرة بمعدل وسطي هو خمسة أشخاص، فمعنى ذلك أن هناك 12.5 مليون شخص مشغولون ومعطلون مرتبطون بهذا المدمن ومشاكله". *ونقل عن موقع بي بي سي أون لاين بتاريخ 7/7/2000م، أن برقيات عبر موقع ويكيليكس، أفادت أن الإيرانيين من أكبر مهربي المخدرات في العالم، وأن وزير خارجية أذربيجان قد أكد أن سلطات بلاده عندما تُرحِّل مهربين إيرانيين إلى بلدهم يتم الإفراج عنهم بسرعة. *وفقا لراديو أوروبا الحرة في أغسطس 2002م، فإن عدد بائعات الهوى في إيران يزيد عن 300 ألف امرأة، والعدد في تزايد مستمر. وهذا الرقم بالطبع لا يدخل فيه الزنا المُقنّن والمُشرعن لدى طائفة الشيعة والمسمى بزواج المتعة. كما أكدت الدراسات أن الدعارة انتشرت بين المتزوجات بعد أن كانت محصورة في فئة غير المتزوجات، وأن سن الدعارة انخفض إلى سن 15 عاما (بعضها يشير إلى انخفاضه إلى عشر سنوات) بعد أن كان فوق الثلاثين خلال العشرين سنة الأولى من ثورة الخميني *ذكر تقرير كتبه (محمد علي زام) رئيس الشؤون الثقافية والفنية بطهران عام 2000، أن 75% من الإيرانيين إجمالا، و 86% من الشباب خاصة، لا يؤدون الصلاة. وأفاد التقرير أن هناك مليوني مدمن في العاصمة وحدها، وأن الدعارة بين تلميذات المدارس ارتفع إلى 63.5%، وأن حالات الانتحار 10.9%. *وفي مقدمته الطويلة الجليلة للطبعة الثانية من كتاب "المشروع الإيراني"، نقل الدكتور عبد الله النفيسي عن "جميلة كاديفار" عضو مجلس (البرلمان) او عضو مجلس الشورى الإيراني قولها: إن مبعث قلقنا الرئيس يكمن في انتشار هذا الداء (المخدرات والدعارة) بهذه الصورة في المدارس، وهو يُعدّ أحد مظاهر الفشل الكبير للثورة ونظامها. ويقول مسؤولون حكوميون أن هذه الشبكات تُصدِّر فتيات إيرانيات للعمل في الدعارة في دول خليجية وأوروبية منهن فتيات قاصرات. *تلك نبذة مختصرة عن المجتمع الإيراني من داخله، لندرك دون عناء أن هذا المجتمع ليس متدينا على الصورة التي تشتهر عنه، والتي رسمتها البروتوكولات الإيرانية والظهور الإعلامي للساسة والطقوس والشعارات الشيعية. وهي تبرز مدى فشل الثورة الخمينية في المسار الاجتماعي، وأن إيران دولة توجه جهودها وتحشد وتعبئ الشعب من أجل معارك إقليمية تحت شعارات دينية، في الوقت الذي يعاني فيه المجتمع من الداخل من الخواء الروحي والانحراف السلوكي والأخلاقي. صراع بين إرادتين: يرى المفكر الإسلامي عبد الله النفيسي إزاء هذه الازدواجية أو التناقض في إيران، أن الثورة حقنت الشعب بشحنة دينية فوق طاقته وطبيعته، تحمّلها الإيرانيون إبّان الحرب مع العراق لتبرير المواجهة، إلا أن الإيرانيين اكتشفوا بعد الحرب أن الملالي قد ألبسوهم لباسا غريبا على طبيعتهم، فبدأ الباطن يزاحم الظاهر، وبدأ الشعب يظهر على طبيعته التي تنافي التقيد الديني. ويقول النفيسي: "ولأن النظام يستند في مقولته وجدله وفكره بل وثورته على نظرية الولي الفقيه كما ينص الدستور الإيراني، راح يفرض على عموم الناس والمجتمع هذه الشحنة الدينية الضاغطة، وحدث في إيران صراع إرادات: إرادة الدولة والنظام الذي يستقوي بولاية الفقيه، وما يستتبعها من واجبات والتزامات بروتوكولية، وإرادة مجتمع لم يعتد في أي مرحلة من تاريخه على التدين وأهله في أي صيغة من الصيغ". كهنوت الملالي: قطعا الكلام السابق لا يعني عدم صلاحية الدين لأن يكون مهيمنا على واقع المجتمعات على اختلافها، فالإسلام في نسخته الأولى التي كان عليه صدر هذه الأمة، جاء ليكون الدستور الإلهي الذي يصلح لحياة الأفراد والجماعات والأمم، وفيه كل ما ينفعهم ويرّقيهم، فلا ينبغي تحميل تجربة الثورة الإيرانية وفشلها في المسار الاجتماعي الديني على الإسلام. *النظام الإسلامي حرر البشرية من العبودية لغير الله، والتي كانت إحدى صورها على سبيل المثال في المسيحية: طبقة رجال الدين الذين يدّعون الحق الإلهي والنيابة عن الله في حكم البشر، والذين انطلقوا من هذا الادعاء إلى احتكار فهم الدين وبيع أراضي الجنة لمن يدفع أكثر. فإلى حد بعيد، يشبه فقهاء وملالي إيران، رجال الدين المسيحي في الحكم الثيوقراطي الكنسي في أوروبا، والذي ثار عليه الأوروبيون لمصادمته للفطرة وعدم احتوائها، ووقوفه باستبداد أمام عجلة التطور والتقدم. *يقول د. غازي التوبة: "المذهب الشيعي يشترط على كل شيعي أن يرتبط بمرجعية شيعية معاصرة له، وأن يلزم اتِّباعه، وأن يدفع له خُمس أمواله، وأن يتبعه في عباداته، وأن يستفتيه في حال طلب الفتوى، وأن يمنحه ولاءه، وبهذا أصبحت طبقة الملالي في المذهب الشيعي إلى حد ما تقابل طبقة رجال الدين في الكنيسة المسيحية، وهي سبب رئيس في انتشار الفساد والرذيلة في المجتمع الإيراني". *وهذا حق، لأن ذلك الارتباط المتعسف يولّد الكبت لدى الأتباع، ويقتل فيهم مسألة المواجهة الذاتية للخطأ، لتعويلهم على الملالي في كل شيء، ومن ناحية أخرى تدفع وقائع الفساد المُتفشي في طبقة رجال الدين - والذي أزكم الأنوف –تدفع الجماهير إلى الانحلال الأخلاقي وارتكاب الجرائم. أما النموذج الإسلامي السُنّي الذي هو أصل المنهج الرباني المُنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم، فيأخذ العلماء فيه مكانة معتدلة، فوظيفتهم التبليغ والبيان ودعوة الناس إلى الحق، ودحض الشبهات والرد على الافتراءات المثارة حول الإسلام، وهو ما تقبله النفس البشرية، بخلاف السلطة الكهنوتية لفقهاء الشيعة. *المشروع الإيراني ليس غايته الدين (أي نشر التشيع)، إنما هو مشروع قومي فارسي يجمع الناس على التشيّع كفكرة مركزية، ولم تقدم الثورة للإيرانيين سوى إثارة الأحقاد ضد العرب السُنّة، واستدعاء الحقبة الكربلائية في كل مشهد معاصر، ولولا شعارات البحث عن ثارات الحسين، لما امتد هذا المنهج إلى اليوم.
    نيسان ـ نشر في 2015/10/12 الساعة 00:00