لماذا تونس ليست مصر؟
نيسان ـ نشر في 2015/10/13 الساعة 00:00
فوز المجتمع المدني في تونس بجائزة نوبل للسلام يثير عديدا من الأسئلة حول أزمة المجتمع المدني في مصرغرد النص عبر تويتر وكونه حاضرا وغائبا طول الوقت.
(١)
منذ قامت الثورة في عام ٢٠١١ ألف الناس في مصر والوطن العربي صور السياسيين التونسيين الذين تصدروا واجهات العمل العام في الرئاسة والحكومة والأحزاب والمجلس التشريعي. وابتداء من يوم السبت الماضي انضافت إلى الذاكرة البصرية صور آخرين لم نسمع بهم من قبل، فنشرت جريدة "الأهرام" حوارا مع وجه غير مألوف للقارئ المصري كان مندوب الجريدة قد أجرى معه حوارا في العام الماضي، عرفنا أن اسمه حسين العباسي، وأنه كان معلما سابقا في إحدى المدارس التونسية لكنه انتخب رئيسا لاتحاد الشغل (المقابل لاتحاد العمال عندنا). ونشرت صحيفة "الحياة" اللندنية على صفحتها الأولى صورة لم نرها من قبل لسيدة عرفنا أن اسمها وداد بوشماري ظهرت ضاحكة وهى تلوح بقبضة يدها بعد إعلان خبر الجائزة. وفهمنا أنها رئيسة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة الذى كان ضمن الرباعية الفائزة. تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صور اثنين آخرين رأيناهما لأول مرة، أحدهما عبد الستار بن موسى رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وبشير الصيد رئيس نقابة المحامين. وحين انضاف الأربعة إلى قائمة نجوم المرحلة، فإن ذلك أثار الاهتمام بالتعرف على الجهات التي يمثلونها، ليس فقط بدافع الفضول، ولكن أيضا لأننا انتبهنا إلى إن لدينا منظمات مماثلة ولكننا لا نلمس لها أثرا فلا نعرف ماذا تفعل، فضلا عن أننا نجهل أسماء وصور القائمين عليها. أستثني من ذلك المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي عينته الحكومة وله دوره المشهود في تجميل المؤسسة الأمنية، أستثني أيضا بعض المنظمات الحقوقية المستقلة التي لا نقرأ عنها إلا أخبارا بعضها ينتقد الانتهاكات والبعض الآخر يتعلق بالتحقيقات التي تجرى مع أعضائها. (٢)
أكثر ما أثار انتباهي حين تتبعت خلفيات المنظمات التونسية الأربع عدة أمور، أولها أن اثنين منها تشكلتا قبل استقلال تونس في عام ١٩٥٦. فاتحاد الشغل تشكل في عام ١٩٤٦، واتحاد الصناعة والتجارة تأسس في عام ١٩٤٧. أما نقابة المحامين فقد تأسست بعد الاستقلال (في عام ١٩٥٨) ورابطة حقوق الإنسان تم تأسيسها عام ١٩٧٧. وفى تفسير ذلك قال الكاتب والناشط التونسي صلاح الدين الجورشي إن المنظمتين الأولتين تشكلتا في مرحلة الصراع ضد الاستعمار الفرنسي. فالأولى كانت وعاء جمع العمال والثانية اجتمع فيها التجار وأصحاب الأعمال. أما المنظمتان الأخيرتان فقد برزتا في طور الدفاع عن الحقوق واستخلاصها من السلطة الوطنية. من الملاحظات الأخرى الجديرة بالذكر أن المنظمات الأربع ظلت أغلب الوقت وعاء اجتمعت فيه مختلف القوى السياسية رغم التقلبات التي طرأت على قياداتها، إلى جانب أنها حافظت على استقلالها عن السلطة وأصرت على ذلك، حتى إن اتحاد الشغل رفض هيمنة الحزب الدستوري عام ١٩٧٨ واصطدم بالسلطة في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، ولهذا السبب أمر الرئيس بنزول الجيش ومواجهة المتظاهرين في مواجهة أسفرت عن مقتل ١٧٨ شخصا، في واقعة ما زالت حاضرة بقوة في الذاكرة الجمعية التونسية. مما ساعد على قوة تلك المنظمات أن نظامي الرئيسين بورقيبة وبن علي كان تركيزهما أكبر على مواجهة تحدي الأحزاب السياسية واعتبرا أن معركتهما الأكبر ضد حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة حاليا) إلى جانب المناضلين الوطنيين. وكثيرا ما سعى إلى احتواء منظمات المجتمع المدني التي استمدت قوتها من شعبيتها من ناحية، والدعم الأوروبي من ناحية ثانية. ذلك أن أغلب تلك المنظمات احتفظت بعلاقات وثيقة مع نظيراتها الأوروبيات لأسباب جغرافية مفهومة، الأمر الذي جعل السلطات المحلية تتردد كثيرا في محاولة الإطاحة بها. ثورة ٢٠١١ اعتبرت أن منظمات المجتمع المدني شريكة فيها. إذ كان أول رئيس منتخب بعد الثورة -الدكتور منصف المرزوقي- ناشطا حقوقيا بارزا ورئيسا سابقا للمجلس الوطني للحريات.
كما استحدث منصب الوزير المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وعين له الدكتور كمال جندوبي الذي يعد بدوره من نشطاء حقوق الإنسان وكان عضوا في الشبكة الأوروبية المتوسطة لحقوق الإنسان منذ عام ٢٠٠٣. ولم يكن مستغربا والأمر كذلك أن يصدر بعد الثورة قانونا يطلق حرية العمل لكافة منظمات المجتمع المدني. الدور الوفاقي الذي قامت به منظمات المجتمع المدني برز بشدة حين حدث الاستقطاب السياسي في تونس أسوة بما حدث في مصر، إذ انقسم الفاعلون السياسيون إلى معسكرين. أحدهما تمثل في معسكر الترويكا التي تحكم (حركة النهضة، والمؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي). المعسكر المقابل ضم أحزاب المعارضة التي كانت خليطا من الليبراليين واليساريين والقوميين (١١ حزبا مثلت في البرلمان). التهب الموقف بعد اغتيال اثنين من المعارضين (شكري بلعيد ومحمد البراهمي) فانتهزت المعارضة الفرصة وسعت إلى استثمار صدمة الشارع التونسي من خلال الدعوة إلى التظاهر والاعتصام. ونادى بعض الغلاة الذين انخرطوا فيما سمي الجبهة الشعبية بقيادة حزب العمال الشيوعي باستدعاء الجيش للتدخل بحجة حسم الصراع وحماية الثورة. في الوقت ذاته لوحت الترويكا باعتقال الداعين إلى الانقلاب على الشرعية. وبدا في الأفق أن الموقف على وشك الانفجار وأن دائرة العنف مرشحة للاتساع. وفى حين كانت اتصالات السياسيين مستمرة لإنقاذ الموقف، تحركت منظمات المجتمع المدني الرئيسية لكي تستخدم رصيدها التاريخي وثقلها الاجتماعي لإنجاز الدستور والبحث عن مخرج من الأزمة، من خلال اقتراحات المطالب والبدائل على أطراف المعادلة السياسية. وفيما علمت فإن القلق لم يكن داخليا فقط، ولكنه كان خارجيا أيضا. ذلك أن السفراء الغربيين أعربوا عن مخاوفهم من أن ينتكس الوضع في تونس، وأن تلقى تجربة التحول الديمقراطي المصير المحزن الذي منيت به في أقطار أخرى. وقيل لي إن جميع السفراء الأوروبيين ذهبوا بصحبة السفير الأميركي في تونس إلى مقر الاتحاد التونسي للشغل للإعراب عن دعمهم وتأييدهم لإنجاح المسار الديمقراطي. النتيجة أن جهد الرباعية وتجاوب أحزاب الأغلبية السياسية وتشجيع العواصم الغربية، ذلك كله أسهم في تغليب الوفاق وامتصاص عوامل الانفجار واستمرار مسيرة الثورة. لذلك استحقت الرباعية جائزة نوبل علما بأن الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي كان أحد الذين رشحوا المنظمات الأربع لنيل جائزة السلام. ولأن "الشيخين" السبسي زعيم حزب النداء وراشد الغنوشي زعيم حركة النهضة لعبا الدور الأكبر بين السياسيين في تحقيق الوفاق المنشود فإن مجموعة الأزمات الدولية منحتهما جائزة السلام للعام الحالي، التي تعد قريبة من نوبل. ولكن وهج الخبر الأول حجب خبر جائزة الشيخين فلم ينل حظه من الذيوع والانتشار. (٣)
شاءت المقادير أن يتزامن إرسال الرئيس التونسي خطاب ترشيح الرباعية لجائزة نوبل، مع صدور تعليمات في مصر بمنع عدد من العاملين بمنظمات المجتمع المدني من السفر إلى الخارج. التعليمات جاءت بناء على قرار أصدره قاضى التحقيق في قضية التمويل الأجنبي المفتوحة في مصر منذ عام ٢٠١١، ولم يغلق حتى الوقت الراهن، لذلك أصدرت ١٩ منظمة حقوقية مستقلة بيانا في يناير الماضي أدان حظر سفر النشطاء بناء على إجراءات غير معروفة ودون معرفة الاتهامات الموجهة إليهم. كما انتقد البيان الإجراءات التعسفية التي اتخذت بحق بعض المنظمات الأهلية، التي كان منها اقتحام مقراتها واستدعاء العاملين فيها للتحقيق وإصدار أحكام بسجن بعضهم مدة خمس سنوات مع إيقاف التنفيذ. هذا الإجراء مجرد نموذج واحد لسيل التضييقات القانونية والأمنية التي لاحقت المنظمات الحقوقية المستقلة بعد قيام الثورة في عام ٢٠١١. وقد بدأت التضييقات بحملة تشهير روجت للادعاء بأن الثورة كانت مؤامرة أسهم الخارج في تدبيرها من خلال تلك المنظمات. وهو ما فتح الباب لتشكيل لجنة لتقصي حقائق التمويل الأجنبي للمنظمات الأهلية، وأدى إلى إحالة ٣٥ منظمة حقوقية إلى التحقيق في شهر مارس/آذار عام ٢٠١١. واستمرت الحملة من خلال التعديل الذى أدخل على قانون العقوبات بإضافة المادة ٧٨ التي سميت قانون "الأشياء الأخرى" وهى التي فتحت الباب واسعا لمعاقبة نشطاء المنظمات الحقوقية بالسجن المؤبد وغرامة نصف مليون جنيه إذا ما تلقوا أي عون يمكن أن يؤدى إلى الإضرار بالمصلحة الوطنية، وهو التعبير الفضفاض الذي يمكن أن يشمل أي انتقاد لانتهاكات حقوق الإنسان. القوانين التي صدرت بعد ذلك كرست التصنيف وكبلت المنظمات الحقوقية بمختلف القيود. وكان ذلك أوضح ما يكون في قانوني الكيانات الإرهابية ومكافحة الإرهاب. بل إن تحقيقا قضائيا أجري مع بعض النشطاء والباحثين لانهم ناقشوا مشروعا لإصلاح التشريعات لمنع التعذيب في مصر، وهو التحقيق الذي تعرض له الناشط نجاد البرعي -مدير المجموعة الدولية للمحامين- مع اثنين من القضاة وكانت نتيجة تلك التصنيفات أن قلصت بعض المنظمات الحقوقية من أنشطتها. كما نقل مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان مقره الرئيسي من القاهرة إلى تونس.
(٤)
في السياق الذي نحن بصدده فإن الفرق الجوهري بين تونس ومصر أنهم هناك تعاملوا مع المنظمات الحقوقية باعتبارها شريكة في الثورة. أما في مصر فقد اتهمت تلك المنظمات أنها تآمرت في عملية إطلاق الثورة، وهذا الأمر يعني أنهم في تونس تعاملوا مع المنظمات الحقوقية من منظور معاكس تماما للوضع في مصر، لذلك كان طبيعيا أن ينتعش الشريك هناك، وأن يخبو دوره وينكمش نظيره في مصر. هذا رأى اثنين من النشطاء هما الأستاذان نجاد البرعي -مدير المجموعة الدولية للمحامين- ومحمد زارع -مدير مكتب مركز دراسات حقوق الإنسان بالقاهرة- يضيف الأستاذ جمال عيد -مدير الشبكة العربية لحقوق الإنسان- أن السلطة في مصر ليست ضد المنظمات الأهلية بالمطلق، ولكنها تقبل وتشجع أنشطتها في مجالات الخدمات والأعمال الخيرية فقط، ومشكلتها الحقيقية مع المنظمات الحقوقية. ورغم أن المنظمات الأخيرة في الظروف العادية تقف في نقطة وسط بين السلطة والمجتمع، فإنها في ظل الأوضاع غير الديمقراطية تفرض عليها مسؤولياتها أن تقف في صف المعارضة. وهو يلخص رأيه في أن مشكلة المنظمات الحقوقية تكمن في أنه لا توجد إرادة سياسية للإصلاح. وغياب تلك الإرادة هو المصدر الحقيقي لأزمة المجتمع المدني في مصر، الأمر الذي يعني أن الأزمة جزء من مشكلة أكبر تعاني منها مصر، لا توحي الدلائل بإمكانية حلها في الأجل المنظور. الجزيرة
منذ قامت الثورة في عام ٢٠١١ ألف الناس في مصر والوطن العربي صور السياسيين التونسيين الذين تصدروا واجهات العمل العام في الرئاسة والحكومة والأحزاب والمجلس التشريعي. وابتداء من يوم السبت الماضي انضافت إلى الذاكرة البصرية صور آخرين لم نسمع بهم من قبل، فنشرت جريدة "الأهرام" حوارا مع وجه غير مألوف للقارئ المصري كان مندوب الجريدة قد أجرى معه حوارا في العام الماضي، عرفنا أن اسمه حسين العباسي، وأنه كان معلما سابقا في إحدى المدارس التونسية لكنه انتخب رئيسا لاتحاد الشغل (المقابل لاتحاد العمال عندنا). ونشرت صحيفة "الحياة" اللندنية على صفحتها الأولى صورة لم نرها من قبل لسيدة عرفنا أن اسمها وداد بوشماري ظهرت ضاحكة وهى تلوح بقبضة يدها بعد إعلان خبر الجائزة. وفهمنا أنها رئيسة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة الذى كان ضمن الرباعية الفائزة. تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صور اثنين آخرين رأيناهما لأول مرة، أحدهما عبد الستار بن موسى رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وبشير الصيد رئيس نقابة المحامين. وحين انضاف الأربعة إلى قائمة نجوم المرحلة، فإن ذلك أثار الاهتمام بالتعرف على الجهات التي يمثلونها، ليس فقط بدافع الفضول، ولكن أيضا لأننا انتبهنا إلى إن لدينا منظمات مماثلة ولكننا لا نلمس لها أثرا فلا نعرف ماذا تفعل، فضلا عن أننا نجهل أسماء وصور القائمين عليها. أستثني من ذلك المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي عينته الحكومة وله دوره المشهود في تجميل المؤسسة الأمنية، أستثني أيضا بعض المنظمات الحقوقية المستقلة التي لا نقرأ عنها إلا أخبارا بعضها ينتقد الانتهاكات والبعض الآخر يتعلق بالتحقيقات التي تجرى مع أعضائها. (٢)
أكثر ما أثار انتباهي حين تتبعت خلفيات المنظمات التونسية الأربع عدة أمور، أولها أن اثنين منها تشكلتا قبل استقلال تونس في عام ١٩٥٦. فاتحاد الشغل تشكل في عام ١٩٤٦، واتحاد الصناعة والتجارة تأسس في عام ١٩٤٧. أما نقابة المحامين فقد تأسست بعد الاستقلال (في عام ١٩٥٨) ورابطة حقوق الإنسان تم تأسيسها عام ١٩٧٧. وفى تفسير ذلك قال الكاتب والناشط التونسي صلاح الدين الجورشي إن المنظمتين الأولتين تشكلتا في مرحلة الصراع ضد الاستعمار الفرنسي. فالأولى كانت وعاء جمع العمال والثانية اجتمع فيها التجار وأصحاب الأعمال. أما المنظمتان الأخيرتان فقد برزتا في طور الدفاع عن الحقوق واستخلاصها من السلطة الوطنية. من الملاحظات الأخرى الجديرة بالذكر أن المنظمات الأربع ظلت أغلب الوقت وعاء اجتمعت فيه مختلف القوى السياسية رغم التقلبات التي طرأت على قياداتها، إلى جانب أنها حافظت على استقلالها عن السلطة وأصرت على ذلك، حتى إن اتحاد الشغل رفض هيمنة الحزب الدستوري عام ١٩٧٨ واصطدم بالسلطة في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، ولهذا السبب أمر الرئيس بنزول الجيش ومواجهة المتظاهرين في مواجهة أسفرت عن مقتل ١٧٨ شخصا، في واقعة ما زالت حاضرة بقوة في الذاكرة الجمعية التونسية. مما ساعد على قوة تلك المنظمات أن نظامي الرئيسين بورقيبة وبن علي كان تركيزهما أكبر على مواجهة تحدي الأحزاب السياسية واعتبرا أن معركتهما الأكبر ضد حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة حاليا) إلى جانب المناضلين الوطنيين. وكثيرا ما سعى إلى احتواء منظمات المجتمع المدني التي استمدت قوتها من شعبيتها من ناحية، والدعم الأوروبي من ناحية ثانية. ذلك أن أغلب تلك المنظمات احتفظت بعلاقات وثيقة مع نظيراتها الأوروبيات لأسباب جغرافية مفهومة، الأمر الذي جعل السلطات المحلية تتردد كثيرا في محاولة الإطاحة بها. ثورة ٢٠١١ اعتبرت أن منظمات المجتمع المدني شريكة فيها. إذ كان أول رئيس منتخب بعد الثورة -الدكتور منصف المرزوقي- ناشطا حقوقيا بارزا ورئيسا سابقا للمجلس الوطني للحريات.
كما استحدث منصب الوزير المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وعين له الدكتور كمال جندوبي الذي يعد بدوره من نشطاء حقوق الإنسان وكان عضوا في الشبكة الأوروبية المتوسطة لحقوق الإنسان منذ عام ٢٠٠٣. ولم يكن مستغربا والأمر كذلك أن يصدر بعد الثورة قانونا يطلق حرية العمل لكافة منظمات المجتمع المدني. الدور الوفاقي الذي قامت به منظمات المجتمع المدني برز بشدة حين حدث الاستقطاب السياسي في تونس أسوة بما حدث في مصر، إذ انقسم الفاعلون السياسيون إلى معسكرين. أحدهما تمثل في معسكر الترويكا التي تحكم (حركة النهضة، والمؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي). المعسكر المقابل ضم أحزاب المعارضة التي كانت خليطا من الليبراليين واليساريين والقوميين (١١ حزبا مثلت في البرلمان). التهب الموقف بعد اغتيال اثنين من المعارضين (شكري بلعيد ومحمد البراهمي) فانتهزت المعارضة الفرصة وسعت إلى استثمار صدمة الشارع التونسي من خلال الدعوة إلى التظاهر والاعتصام. ونادى بعض الغلاة الذين انخرطوا فيما سمي الجبهة الشعبية بقيادة حزب العمال الشيوعي باستدعاء الجيش للتدخل بحجة حسم الصراع وحماية الثورة. في الوقت ذاته لوحت الترويكا باعتقال الداعين إلى الانقلاب على الشرعية. وبدا في الأفق أن الموقف على وشك الانفجار وأن دائرة العنف مرشحة للاتساع. وفى حين كانت اتصالات السياسيين مستمرة لإنقاذ الموقف، تحركت منظمات المجتمع المدني الرئيسية لكي تستخدم رصيدها التاريخي وثقلها الاجتماعي لإنجاز الدستور والبحث عن مخرج من الأزمة، من خلال اقتراحات المطالب والبدائل على أطراف المعادلة السياسية. وفيما علمت فإن القلق لم يكن داخليا فقط، ولكنه كان خارجيا أيضا. ذلك أن السفراء الغربيين أعربوا عن مخاوفهم من أن ينتكس الوضع في تونس، وأن تلقى تجربة التحول الديمقراطي المصير المحزن الذي منيت به في أقطار أخرى. وقيل لي إن جميع السفراء الأوروبيين ذهبوا بصحبة السفير الأميركي في تونس إلى مقر الاتحاد التونسي للشغل للإعراب عن دعمهم وتأييدهم لإنجاح المسار الديمقراطي. النتيجة أن جهد الرباعية وتجاوب أحزاب الأغلبية السياسية وتشجيع العواصم الغربية، ذلك كله أسهم في تغليب الوفاق وامتصاص عوامل الانفجار واستمرار مسيرة الثورة. لذلك استحقت الرباعية جائزة نوبل علما بأن الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي كان أحد الذين رشحوا المنظمات الأربع لنيل جائزة السلام. ولأن "الشيخين" السبسي زعيم حزب النداء وراشد الغنوشي زعيم حركة النهضة لعبا الدور الأكبر بين السياسيين في تحقيق الوفاق المنشود فإن مجموعة الأزمات الدولية منحتهما جائزة السلام للعام الحالي، التي تعد قريبة من نوبل. ولكن وهج الخبر الأول حجب خبر جائزة الشيخين فلم ينل حظه من الذيوع والانتشار. (٣)
شاءت المقادير أن يتزامن إرسال الرئيس التونسي خطاب ترشيح الرباعية لجائزة نوبل، مع صدور تعليمات في مصر بمنع عدد من العاملين بمنظمات المجتمع المدني من السفر إلى الخارج. التعليمات جاءت بناء على قرار أصدره قاضى التحقيق في قضية التمويل الأجنبي المفتوحة في مصر منذ عام ٢٠١١، ولم يغلق حتى الوقت الراهن، لذلك أصدرت ١٩ منظمة حقوقية مستقلة بيانا في يناير الماضي أدان حظر سفر النشطاء بناء على إجراءات غير معروفة ودون معرفة الاتهامات الموجهة إليهم. كما انتقد البيان الإجراءات التعسفية التي اتخذت بحق بعض المنظمات الأهلية، التي كان منها اقتحام مقراتها واستدعاء العاملين فيها للتحقيق وإصدار أحكام بسجن بعضهم مدة خمس سنوات مع إيقاف التنفيذ. هذا الإجراء مجرد نموذج واحد لسيل التضييقات القانونية والأمنية التي لاحقت المنظمات الحقوقية المستقلة بعد قيام الثورة في عام ٢٠١١. وقد بدأت التضييقات بحملة تشهير روجت للادعاء بأن الثورة كانت مؤامرة أسهم الخارج في تدبيرها من خلال تلك المنظمات. وهو ما فتح الباب لتشكيل لجنة لتقصي حقائق التمويل الأجنبي للمنظمات الأهلية، وأدى إلى إحالة ٣٥ منظمة حقوقية إلى التحقيق في شهر مارس/آذار عام ٢٠١١. واستمرت الحملة من خلال التعديل الذى أدخل على قانون العقوبات بإضافة المادة ٧٨ التي سميت قانون "الأشياء الأخرى" وهى التي فتحت الباب واسعا لمعاقبة نشطاء المنظمات الحقوقية بالسجن المؤبد وغرامة نصف مليون جنيه إذا ما تلقوا أي عون يمكن أن يؤدى إلى الإضرار بالمصلحة الوطنية، وهو التعبير الفضفاض الذي يمكن أن يشمل أي انتقاد لانتهاكات حقوق الإنسان. القوانين التي صدرت بعد ذلك كرست التصنيف وكبلت المنظمات الحقوقية بمختلف القيود. وكان ذلك أوضح ما يكون في قانوني الكيانات الإرهابية ومكافحة الإرهاب. بل إن تحقيقا قضائيا أجري مع بعض النشطاء والباحثين لانهم ناقشوا مشروعا لإصلاح التشريعات لمنع التعذيب في مصر، وهو التحقيق الذي تعرض له الناشط نجاد البرعي -مدير المجموعة الدولية للمحامين- مع اثنين من القضاة وكانت نتيجة تلك التصنيفات أن قلصت بعض المنظمات الحقوقية من أنشطتها. كما نقل مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان مقره الرئيسي من القاهرة إلى تونس.
(٤)
في السياق الذي نحن بصدده فإن الفرق الجوهري بين تونس ومصر أنهم هناك تعاملوا مع المنظمات الحقوقية باعتبارها شريكة في الثورة. أما في مصر فقد اتهمت تلك المنظمات أنها تآمرت في عملية إطلاق الثورة، وهذا الأمر يعني أنهم في تونس تعاملوا مع المنظمات الحقوقية من منظور معاكس تماما للوضع في مصر، لذلك كان طبيعيا أن ينتعش الشريك هناك، وأن يخبو دوره وينكمش نظيره في مصر. هذا رأى اثنين من النشطاء هما الأستاذان نجاد البرعي -مدير المجموعة الدولية للمحامين- ومحمد زارع -مدير مكتب مركز دراسات حقوق الإنسان بالقاهرة- يضيف الأستاذ جمال عيد -مدير الشبكة العربية لحقوق الإنسان- أن السلطة في مصر ليست ضد المنظمات الأهلية بالمطلق، ولكنها تقبل وتشجع أنشطتها في مجالات الخدمات والأعمال الخيرية فقط، ومشكلتها الحقيقية مع المنظمات الحقوقية. ورغم أن المنظمات الأخيرة في الظروف العادية تقف في نقطة وسط بين السلطة والمجتمع، فإنها في ظل الأوضاع غير الديمقراطية تفرض عليها مسؤولياتها أن تقف في صف المعارضة. وهو يلخص رأيه في أن مشكلة المنظمات الحقوقية تكمن في أنه لا توجد إرادة سياسية للإصلاح. وغياب تلك الإرادة هو المصدر الحقيقي لأزمة المجتمع المدني في مصر، الأمر الذي يعني أن الأزمة جزء من مشكلة أكبر تعاني منها مصر، لا توحي الدلائل بإمكانية حلها في الأجل المنظور. الجزيرة
نيسان ـ نشر في 2015/10/13 الساعة 00:00