روح الماء

رمزي الغزوي
نيسان ـ نشر في 2022/09/15 الساعة 00:00
يبهجني هذا الأيلول المائل بهدوء نحو عتبة الغيم. هذا الشهر الجانح إلى خريف يختبئ خجلاً خلف نسمات مخدوشة ببرودة الصباح والمساء. يبهجني أيلول كما لا يبهجني شهر سواه؛ ليس لأنه محمل بحلم مطر طري خافت يلوح في آخره، وليس لأن ورقه الأصفر يتطاير كضفيرة تهبط على الشرفات فحسب. بل لأني أراه يجدد فينا الحياة. فأهلاً شهر يخضبه الندى!.
ففي مطلع كل أيلول ما زال يدهشني نبات مختلف يعاكس في سلوكه الطبيعة وخريفها وترتيبها الأزلي، وأنا لا أكف عن الدهشة، ما استطعت السبيلا، فهي الحياة ومتنها، ولهذا سيفاجئني هذا النبات الأخضر اليانع كنعناع مشبع بالماء والظل وعناية ربة بيت حنونة، سيفاجئني هذا (الطيون) وكأني أراه للمرة الأولى وهو يعلن عن ميلاده الجريء وسط كل هذا الجفاف واليباس.
فأهلاً بك أيها الطيون وأنت تعلن عن ربيعك البهي الخاص. أهلا بك يا هذا النبات البري المشاغب الذي يهجم بأوراقه الممتلئة بالحياة ونواره الأصفر المكنوز بالطيب معلنا عن ربيعه المنفرد، فيعزف مقطوعة سمفونية، تبث نسغ الحياة في أوتارنا.
ينمو بعد أن تقترب غالبية النبات البرية من موتها تحت سيف الصيف وبوابة الخريف، يهيج ويثور في هذا الشهر تحديدا على أكتاف الوديان، وخواصر الجبال، وفي حمى الينابيع، حيث الرطوبة الغائرة في بطن الأرض. هو بوصلة للماء وهمسها البعيد، فأينما وجدت روح الماء؛ ولو تحت الأرض؛ ستجده بالقرب.
هو الطيوب بالباء، وجاءت تسميته هذه على ما أرى من الطيب، ولكنّنا قلبنا باه نوناً، لأن أجدادنا كانوا يستخدمونه في تطيين وطراشة بيوتهم القديمة، فتؤخذ منه حزمة كفرشاة دهان تغمس في (محلول الشيد)، وهو الحجر الجيري أو الكلس، مع الطين الصلصالي الذائب بالماء، وتطلى به جدران البيوت الطينية القديمة، فتنفث عطراً وتشع طيباً لا يوصف.
يا بوصلة الماء الخفية يا اليانع مع أن الأوان أوان ذبول ونحلول، سلام عليك وعلى الأرض التي أطلعتك، لتوقظ فينا نشوة الحياة من جديد بعد صيف قائض. فمن قال أن الخريف لا يبهج؟، من قال إننا إذا حدقنا فيه لا نجد فيه ربيعاً آخر جديدا. فما أبهجنا إذ نشرع نوافذنا على مصراعيها للحياة بكل لحظاتها وفصولها.
    نيسان ـ نشر في 2022/09/15 الساعة 00:00