جناح ملكي في نادي الخالدين
نيسان ـ نشر في 2022/09/19 الساعة 00:00
اليوم موعدها الأخير. وليس من عاداتها أن تخلفَ موعداً أو تحنثَ بعهد. خانَها القلب ومن عادتِه أن يخون. استمهلت الترابَ أياماً كي تتلقَّى رسائلَ محبيها طوابير لا تنتهي ودموعاً وبحراً من الثناء والأزهار. استمهلت الترابَ كي تكتبَ خاتمةً جميلةً لرواية طويلة.
غداً يستيقظ العالم ناقصاً. عاشت في كنفه سبعة عقود ملكة، كأنَّه عاشَ في كنفها. اليوم يدرك عشاق الحكايات أنَّ الهالات الكبرى لا تحتاج إلى حروب كبرى ومنعطفات خطرة. يمكن للهالات الاستثنائية أن تنسجَ بخيوط الثقة والود والحكمة والصبر والصمت.
سيفتقد العالم السيدة التي كانت تاجاً على صهوة التاج. الملكة التي ضمَّدت بابتسامتها جروحَ الإمبراطورية المنحسرة. يوم استدعاها القدر في 1952 تعهَّدت أن تعطيَ عمرَها لشعبها. وأن تقومَ بواجبها حتى الرمق الأخير. لا القصورُ أوقعتها في الغرور ولا النفوذ أوقعها في الشراهة. بدت دائماً أكبرَ من مكتبها وأرحبَ من قصرها. ولم يحل تواضع الصلاحيات دون امتلاكِها سلطةً معنوية رسَّخها شعورُ المواطنين بأنَّها تجيد الاستماع إليهم والإصغاء إلى هواجسهم.
في أيامها تقلَّب العالم كثيراً وتغير. هجم الجديدُ على كل قديم وبينه المؤسسة الملكية. لم تمنعها الأصالة من تقبل رياح التجديد. ولم تمنعها العراقة من الرقص المحتشم مع العصر. بالرزانة الملكية صنعت صورتَها. تقاطرت القاماتُ الكبيرةُ إلى مكتبها. وكانت الموعدَ الكبيرَ لأي كبير. كان سيدُ البيت الأبيض يعتبر لقاءَه معها وساماً. وحين يصافحها يشعر بتهيب يفوق ذاك الذي يشعر به عند مصافحته القيصر السوفياتي.
وهذا يصدق على رؤساء الحكومات الذين كلفتهم أو جاءوا للاستقالة والوداع. ذاتَ يوم دخل توني بلير الأربعيني مكتبَها مزهواً. ذكَّرته برفق بمن جلس على الكرسي نفسِه قبل ولادته بقليل، وكان اسمُه ونستون تشرشل. أطلَّ عشبُ التواضع من عيني بلير.
غداً سيكون العالم ناقصاً. أدمن العيشَ مع الملكة. مع سيدة الابتسامة التي لا تشبه إلا نفسها. مع سيدة الألوان الزاهية. الأزرق الذي سرق لونَه من عينيها. والأخضر المستفز. والأصفر الصارخ. والفساتين التي تلعب على أطراف الأرجوان على رغم الإبحار في تسعينات العمر.
غداً سيكونُ العالمُ أقلَّ. تنقصه قبعةُ الملكة. موعد الأناقة مع العراقة. لم تلتحق بالموضة. كانت الموضة تراقبها وتتعلَّم. للملكة أسلوبها في ارتداء ما يليق بالهالة والعصر والقصر. هكذا بدت أشبهَ بأيقونة معلقة فوق نهر الوقت. هبَّت العواصف على العائلة ارتكابات ومراهقات وخيانات. علقت الحكايات المثيرة على حبال التابلويد ووسائل التواصل والمغردين. وظنَّ كثيرون أنَّ الثقوبَ ستذهب بالقلعة. جلست فوق العواصف التي انحسرت حين اصطدمت برصيد صاحبة الرصيد الشاسع في قلوب مواطنيها.
اليوم تصل إلى الفندق البعيد. إلى البهو جرجروا أمجادَهم وتحلَّقوا. دعاهم ونستون تشرشل إلى اللقاء من دون تحديد الأسباب. نصبَ لهم فخاً. كأنَّه أراد إعدادهم لترتيب استقبال يليق بالزائرة التي تلوح بالوصول. كانت الشاشة الكبيرة تنقل صورَ طوابيرَ لا تنتهي من الذين جاءوا لإلقاء النظرة الأخيرة. جموع لا تبخل بانتظار طويل للفوز بانحناءة أمام النعش. لاحظوا جنوداً بقبّعات قديمة وألوان باهرة. حركات مدروسة كألحان متقنة. وتقاليد من عصور كان يعتقد أنَّها مضت وانقضت. وقع العالم في فخ وداعٍ ساحر.
حدق جوزيف ستالين في الشاشة ولمع الاستغراب في عينيه. يخترع الغربُ الحكايات ويصدّقها الناس. يلعب بالصور والأحجام وتنطلي الحيلة على سكان الكوكب. لم يرد اسمها في معركة من قماشة ملحمة ستالينغراد. ولا تفوق صلاحياتها صلاحياتِ سيد الفاتيكان الذي يفتقر إلى الكتائب والمدافع. شعر بالعتب على مواطنيه. تذكر كيف انهال خروتشوف على جثته في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي. يعرف أنَّه لولا صلابة «الرفيق» فلاديمير بوتين لطردوا قبرَه من العاصمة و«روسيا المقدسة». شعر بشيء من الحسد حيال السيدة الممددَّة هادئة فيما يرشقها شعبها بالأزهار والدموع وعرفان الجميل.
تابع ماو تسي تونغ المشاهد مستهجناً. لم يرتبط اسمها بـ«مسيرة طويلة» ونهر من الضحايا والآلام. لم تفجر ثورة ولم تردع عدواناً. غلبه الخبث. هل جاءوا لوداع سيدة القبعات والفساتين الزاهية؟ هل استدرجتهم بابتسامتها وبصور خيولها وكلابها وتلك التقاليد الصارمة الوافدة من غبار الحقب الهاربة؟ يؤلمه أنَّ «الكتاب الأحمر» بات أشبهَ بفخارة مقيمة في متحف. يعزيه أنَّ الرفيق شي ليس في وارد إدخال العواصف إلى قلعة الحزب على غرار ما ارتكب غورباتشوف.
حدَّق شارل ديغول في مشهد الطوابير وانتابه شيء من الحزن. لا يكره بريطانيا، بل يحسدها على العراقة وذهب الوفاء للرموز. الفرنسيون قصة أخرى. ردَّد في سره. أذواقهم بتعدد أصناف الجبنة والنبيذ. يستعذبون إنزالَ الهالات من عليائها. كنت آخر ملوكهم لكنَّهم خذلوني. وحين زودت سيد الإليزيه بصلاحيات شبه ملكية ارتكبوا خطيئة الابتهاج برؤساء بلا تاريخ.
لم يصدق كيم إيل سونغ ما يراه. قال إنَّه يرفع قبعتَه احتراماً لرئيس المخابرات البريطانية لنجاحه في إحضار هذه الجموع لإيفاد رسالة إلى أعداء بلاده ومواطنيه في وقت واحد. أدرك تشرشل ما يدور في رأس كيم فعاجله بابتسامة بريطانية محبوكة بعناية.
شعر معمر القذافي بالغبن. لم يعامله شعبُه بصفته ملكَ ملوك أفريقيا. لم يظهر وداً ولا حباً. لم يشاهد طوابيرَ استنكار يوم أجهزوا عليه. والذين كانوا يدمنون الانحناء يومَ كان قوياً سارعوا إلى تسلق جثته ونظم قصائد الهجاء.
صدام حسين راودته المشاعرُ نفسها. لم يتذكَّروا أنَّه أرغم جمر الثورة الإيرانية على ملازمة خريطته كي لا يتدفق على بلدان وعواصم. لم يخرجوا في طوابير حب ووداع يوم اقتلع نظامه، ولا يوم التفَّ الحبل حول عنقه. يصعب عليه فهم هذه الطوابير البريطانية. لم تجرب السيدة الممددَّة السجونَ ومكائد الأعداء ومؤامرات الرفاق. لم تنغمس فيما يشبه «أم المعارك» وأهوالها.
في الفندق البعيد أفردوا الجناح الملكي للملكة. سيحسدُها كثيراً الذين احتاجوا إلى صخب دموي راعب ليحجزوا أماكنَهم في نادي الخالدين. الشرق الأوسط
غداً يستيقظ العالم ناقصاً. عاشت في كنفه سبعة عقود ملكة، كأنَّه عاشَ في كنفها. اليوم يدرك عشاق الحكايات أنَّ الهالات الكبرى لا تحتاج إلى حروب كبرى ومنعطفات خطرة. يمكن للهالات الاستثنائية أن تنسجَ بخيوط الثقة والود والحكمة والصبر والصمت.
سيفتقد العالم السيدة التي كانت تاجاً على صهوة التاج. الملكة التي ضمَّدت بابتسامتها جروحَ الإمبراطورية المنحسرة. يوم استدعاها القدر في 1952 تعهَّدت أن تعطيَ عمرَها لشعبها. وأن تقومَ بواجبها حتى الرمق الأخير. لا القصورُ أوقعتها في الغرور ولا النفوذ أوقعها في الشراهة. بدت دائماً أكبرَ من مكتبها وأرحبَ من قصرها. ولم يحل تواضع الصلاحيات دون امتلاكِها سلطةً معنوية رسَّخها شعورُ المواطنين بأنَّها تجيد الاستماع إليهم والإصغاء إلى هواجسهم.
في أيامها تقلَّب العالم كثيراً وتغير. هجم الجديدُ على كل قديم وبينه المؤسسة الملكية. لم تمنعها الأصالة من تقبل رياح التجديد. ولم تمنعها العراقة من الرقص المحتشم مع العصر. بالرزانة الملكية صنعت صورتَها. تقاطرت القاماتُ الكبيرةُ إلى مكتبها. وكانت الموعدَ الكبيرَ لأي كبير. كان سيدُ البيت الأبيض يعتبر لقاءَه معها وساماً. وحين يصافحها يشعر بتهيب يفوق ذاك الذي يشعر به عند مصافحته القيصر السوفياتي.
وهذا يصدق على رؤساء الحكومات الذين كلفتهم أو جاءوا للاستقالة والوداع. ذاتَ يوم دخل توني بلير الأربعيني مكتبَها مزهواً. ذكَّرته برفق بمن جلس على الكرسي نفسِه قبل ولادته بقليل، وكان اسمُه ونستون تشرشل. أطلَّ عشبُ التواضع من عيني بلير.
غداً سيكون العالم ناقصاً. أدمن العيشَ مع الملكة. مع سيدة الابتسامة التي لا تشبه إلا نفسها. مع سيدة الألوان الزاهية. الأزرق الذي سرق لونَه من عينيها. والأخضر المستفز. والأصفر الصارخ. والفساتين التي تلعب على أطراف الأرجوان على رغم الإبحار في تسعينات العمر.
غداً سيكونُ العالمُ أقلَّ. تنقصه قبعةُ الملكة. موعد الأناقة مع العراقة. لم تلتحق بالموضة. كانت الموضة تراقبها وتتعلَّم. للملكة أسلوبها في ارتداء ما يليق بالهالة والعصر والقصر. هكذا بدت أشبهَ بأيقونة معلقة فوق نهر الوقت. هبَّت العواصف على العائلة ارتكابات ومراهقات وخيانات. علقت الحكايات المثيرة على حبال التابلويد ووسائل التواصل والمغردين. وظنَّ كثيرون أنَّ الثقوبَ ستذهب بالقلعة. جلست فوق العواصف التي انحسرت حين اصطدمت برصيد صاحبة الرصيد الشاسع في قلوب مواطنيها.
اليوم تصل إلى الفندق البعيد. إلى البهو جرجروا أمجادَهم وتحلَّقوا. دعاهم ونستون تشرشل إلى اللقاء من دون تحديد الأسباب. نصبَ لهم فخاً. كأنَّه أراد إعدادهم لترتيب استقبال يليق بالزائرة التي تلوح بالوصول. كانت الشاشة الكبيرة تنقل صورَ طوابيرَ لا تنتهي من الذين جاءوا لإلقاء النظرة الأخيرة. جموع لا تبخل بانتظار طويل للفوز بانحناءة أمام النعش. لاحظوا جنوداً بقبّعات قديمة وألوان باهرة. حركات مدروسة كألحان متقنة. وتقاليد من عصور كان يعتقد أنَّها مضت وانقضت. وقع العالم في فخ وداعٍ ساحر.
حدق جوزيف ستالين في الشاشة ولمع الاستغراب في عينيه. يخترع الغربُ الحكايات ويصدّقها الناس. يلعب بالصور والأحجام وتنطلي الحيلة على سكان الكوكب. لم يرد اسمها في معركة من قماشة ملحمة ستالينغراد. ولا تفوق صلاحياتها صلاحياتِ سيد الفاتيكان الذي يفتقر إلى الكتائب والمدافع. شعر بالعتب على مواطنيه. تذكر كيف انهال خروتشوف على جثته في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي. يعرف أنَّه لولا صلابة «الرفيق» فلاديمير بوتين لطردوا قبرَه من العاصمة و«روسيا المقدسة». شعر بشيء من الحسد حيال السيدة الممددَّة هادئة فيما يرشقها شعبها بالأزهار والدموع وعرفان الجميل.
تابع ماو تسي تونغ المشاهد مستهجناً. لم يرتبط اسمها بـ«مسيرة طويلة» ونهر من الضحايا والآلام. لم تفجر ثورة ولم تردع عدواناً. غلبه الخبث. هل جاءوا لوداع سيدة القبعات والفساتين الزاهية؟ هل استدرجتهم بابتسامتها وبصور خيولها وكلابها وتلك التقاليد الصارمة الوافدة من غبار الحقب الهاربة؟ يؤلمه أنَّ «الكتاب الأحمر» بات أشبهَ بفخارة مقيمة في متحف. يعزيه أنَّ الرفيق شي ليس في وارد إدخال العواصف إلى قلعة الحزب على غرار ما ارتكب غورباتشوف.
حدَّق شارل ديغول في مشهد الطوابير وانتابه شيء من الحزن. لا يكره بريطانيا، بل يحسدها على العراقة وذهب الوفاء للرموز. الفرنسيون قصة أخرى. ردَّد في سره. أذواقهم بتعدد أصناف الجبنة والنبيذ. يستعذبون إنزالَ الهالات من عليائها. كنت آخر ملوكهم لكنَّهم خذلوني. وحين زودت سيد الإليزيه بصلاحيات شبه ملكية ارتكبوا خطيئة الابتهاج برؤساء بلا تاريخ.
لم يصدق كيم إيل سونغ ما يراه. قال إنَّه يرفع قبعتَه احتراماً لرئيس المخابرات البريطانية لنجاحه في إحضار هذه الجموع لإيفاد رسالة إلى أعداء بلاده ومواطنيه في وقت واحد. أدرك تشرشل ما يدور في رأس كيم فعاجله بابتسامة بريطانية محبوكة بعناية.
شعر معمر القذافي بالغبن. لم يعامله شعبُه بصفته ملكَ ملوك أفريقيا. لم يظهر وداً ولا حباً. لم يشاهد طوابيرَ استنكار يوم أجهزوا عليه. والذين كانوا يدمنون الانحناء يومَ كان قوياً سارعوا إلى تسلق جثته ونظم قصائد الهجاء.
صدام حسين راودته المشاعرُ نفسها. لم يتذكَّروا أنَّه أرغم جمر الثورة الإيرانية على ملازمة خريطته كي لا يتدفق على بلدان وعواصم. لم يخرجوا في طوابير حب ووداع يوم اقتلع نظامه، ولا يوم التفَّ الحبل حول عنقه. يصعب عليه فهم هذه الطوابير البريطانية. لم تجرب السيدة الممددَّة السجونَ ومكائد الأعداء ومؤامرات الرفاق. لم تنغمس فيما يشبه «أم المعارك» وأهوالها.
في الفندق البعيد أفردوا الجناح الملكي للملكة. سيحسدُها كثيراً الذين احتاجوا إلى صخب دموي راعب ليحجزوا أماكنَهم في نادي الخالدين. الشرق الأوسط
نيسان ـ نشر في 2022/09/19 الساعة 00:00