انتفاضة جديدة لجيل جديد
نيسان ـ نشر في 2015/10/16 الساعة 00:00
قبل أيام قليلة من إقدامه على طعن وقتل يهوديين متدينين داخل مدينة القدس القديمة، وجه مهند الحلبي رسالة عبر صفحته على الفيسبوك إلى رئيسه. وكان محمود عباس قد اتهم إسرائيل في خطابه أمام الأمم المتحدة بالسماح للمتطرفين بالدخول إلى باحة المسجد الأقصى.
قال الحلبي في رسالته: "خطاب جميل سيادة الرئيس، ولكننا لا نعترف بتقسيم القدس إلى قدس شرقية وأخرى غربية. لا نعترف إلا بقدس واحدة موحدة، غير مقسومة، ونعتبر كل جزء منها مقدسا. اعذرني يا سيادة الرئيس، ولكن ما يجري في الأقصى للنساء، وما يجري للأقصى نفسه، لن يتوقف من خلال الإجراءات السلمية. لم نخلق حتى نمتهن."
كانت رسالة هذا الشاب البالغ من العمر تسعة عشر عاما في غاية الوضوح: لقد ولى زمن الكلام، وانطلقت الانتفاضة الثالثة كما قال.
يتكلم الحلبي بلسان أبناء جيله، ذلك الجيل الذي ولد بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو الثانية في طابا التي أعلنت عن تأسيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
كان من المفروض، أما وقد بلغ الرابعة من عمره، أن يرى الحلبي إبرام اتفاق سلام شامل تتخلى بموجبه إسرائيل عن تحكمها بالمناطق الفلسطينية المحتلة مقابل السلام. وعندما أصبح الحلبي في السابعة من عمره، بدأت إسرائيل في إنشاء الجدار الذي قسم الضفة الغربية إلى ما يشبه البانتوستانات. وعندما بلغ الثامنة، كان ياسر عرفات قد لقى نحبه، مما خلص إسرائيل من زعيم فلسطيني كانت تنعته بذي الوجهين، ليحل محله محمود عباس، الذي ما لبث وجهه الوحيد يعارض العنف بكل صرامة وإصرار.
كان من المفروض أن يرى جيل الحلبي السلام، وكان من المفروض أن يستفيد جيله من خطط طوني بلير وسلام فياض لإعادة بناء وتنشيط الاقتصاد في الضفة الغربية. ولكن، رأى جيله بدلا من ذلك 600 ألف مستوطن، ورأى الاختفاء التدريجي للقدس الشرقية الفلسطينية، ورأى قوة أمنية فلسطينية الدور المناط بها هو قمع التظاهرات ومنع الاحتجاجات، ورأى اليهود الإسرائيليين الذين عرفوا أنفسهم ابتداء على أنهم سائحون يغشون ساحات المسجد الأقصى. وبدلا من التسوية النهائية، وجد جيل الحلبي نفسه مدفوعا باتجاه فقد تام لكل أمل.
كل هذه الأمور، بالإضافة إلى أعداد من ماتوا ومن جرحوا، أو ظاهرة هجمات الطعن بالسكاكين التي تجتاح البلد بأسره، هي التي تجعل ما يجري حاليا يشكل انتفاضة جديدة. إنه الجيل الجديد الذي يسعى للانتفاض غضبا في وجه المحتل. إنه جيل جديد يعيد اكتشاف نضال أسلافه. ما سيحدث في الأسابيع القادمة، والشهور القادمة، بل حتى السنوات القادمة، سيكون نضالهم.
كانت الشرارة التي أطلقت الانتفاضة هي الأقصى، ذلك الرمز الذي يتعرض حجرا حجرا للهجوم من قبل الأمطار الحمضية التي تفرزها السياسة الطائفية في القدس. فرغم الأمر الصادر عن الحاخامية العليا والذي يحظر على اليهود دخول الحرم القدسي، الذي يطلقون عليه اسم جبل الهيكل، إلا أن الأمر الواقع في الأقصى يتعرض للتغيير. لم تعد الأوقاف، المؤسسة الإسلامية التي تدير شؤون المناطق المقدسة بإشراف أردني، قادرة على استيفاء رسوم دخول ولا على منع غير المسلمين من العبور من خلال البوابات التي يتحكم بها الإسرائيليون.
في تقرير أخير أصدرته مجموعة الأزمات الدولية ورد النص على ما يلي: “بينما تستمر الأوقاف في العمل مع الشرطة لفرض الحظر على صلاة اليهود داخل الحرم، إلا أنها لم تعد قادرة على معرفة حجم المجموعات اليهودية التي تدخل إليه أو معدل دخولها، وليس لديهم صلاحية الاعتراض على دخول نشطاء معينين قد يعتبرونهم مزعجين أو محرضين. في بعض الأوقات تسمح إسرائيل لليهود بالدخول على شكل مجموعات يتراوح عدد من فيها ما بين عشرة وثلاثين شخصا وقد يصل عددهم إلى خمسين شخصا، بما في ذلك العسكريين في زيهم الرسمي، وهو الأمر الذي كان محظورا فيما قبل.”
بحلول عام 2012 جرى تصوير أعضاء في الكنيست ونواب وزراء وحتى وزراء وهم يعلنون السيادة الإسرائيلية على الحرم بأسره.
بالنسبة لجيل الحلبي، لا يقتصر الأمر على البعد الديني للقضية، بل يتجاوزه إلى اعتبار الأقصى رمزا للهوية الوطنية، وهو آخر رمز للهوية مازال قائما رغم ما يتعرض له من انتهاك سافر من قبل الدولة الإسرائيلية. وهو الرمز الذي يوحد كافة الفلسطينيين المتدينين منهم والعلمانيين على حد سواء.
من الجدير بالذكر أن أول هجوم شنه الفلسطينيون على يهود متدينين جاء من طرف مجموعة ثورية علمانية هي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وذلك أن الدفاع عن الأقصى وحمايته من اعتداءات اليهود القوميين المتدينين قضية وجودية. ولسان حال من يقوم بهذا العمل توجيه تحذير إلى الفلسطينيين مفاده "إذا لم نقاتل في سبيل حماية الأقصى، فالأحرى بنا أن نرفع الراية البيضاء ونستسلم".
لم يحتج الحلبي إلى تحريض. ولم ينتظر تعليمات لا من فتح ولا من حماس. بل اتخذ قراره بنفسه تماما كما يفعل آلاف من الآخرين بغض النظر عما إذا كانوا يعيشون في الضفة الغربية أو في قطاع غزة أو داخل إسرائيل.
وكانت الانتفاضتان الأولى والثانية قد فاجأتا القيادة الفلسطينية وأخذتاها على حين غرة. اندلعت الانتفاضة الأولى عندما اندفع سائق شاحنة إسرائيلية عسكرية باتجاه حافلتين تقلان عمالا فلسطينيين فقتل أربعة منهم. أما الانتفاضة الثانية فأشعل فتيلها آرييل شارون، الذي كان في حينها زعيما للمعارضة في إسرائيل، عندما ظهر داخل ساحة الأقصى في حراسة الآلاف من ضباط الشرطة الإسرائيلية؛ وهو يكرر العبارة التي بثت حينما استولى الإسرائيليون على القدس الشرقية خلال حرب الأيام الستة في عام 1967، وهي "جبل الهيكل في أيدينا". ولكن، خلال أيام من اندلاع كل واحدة من الانتفاضتين استلمت القيادة مقاليد الأمور وأثبتت وجودها وبدأت بإصدار الأوامر لنشطاء الانتفاضة.
ولقد ذكرنا جمال زقوت، الذي كتب البيان رقم 2 نيابة عن القيادة الوطنية الموحدة في انتفاضة عام 1987 بالهدف منها حين كتب يقول "اعتبرت القيادة الموحدة الانتفاضة وقيادتها ونشطاءها وجماهيرها جزءا لا يتجزأ من منظمة التحرير الفلسطينية وليس بديلا عنها". أما اليوم، فلا تريد منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة محمود عباس أن يكون لها أدنى علاقة بأي انتفاضة، ولذلك فهي تبذل قصارى جهدها لضبط الأمور ووضعها تحت السيطرة.
خلص استطلاع حديث للرأي أجراه خليل الشقاقي، المختص في إجراء الاستطلاعات وفي العلوم السياسية، إلى أن 42 بالمائة من الفلسطينيين يعتقدون بأن النضال المسلح وحده يمكن أن يفضي إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وأن 57 بالمائة منهم لم يعودوا يعتقدون بأن حل الدولتين ممكن، وأن ثلثي الفلسطينيين يريدون استبدال عباس برئيس آخر.
يتخذ الجيل الجديد قراراته بنفسه في تحد صارخ لكل من فتح وحماس. وإذا كانت ثمة صورة تجسد هذه الحالة فهي صورة تلك الفتاة في بنطلون الجينز والكوفية الفلسطينية، وهي تسلم الحجارة لفتى ملثم يرتدي عصابة حماس ذات اللون الأخضر. وكان الفتيان العلمانيون والمتدينون يدا بيد في الأعمال الاحتجاجية، يعتبرون كل فتى يحمل سكينا أو يلقي حجرا زعيما رائدا لهم.
ما من شك في أن ذلك يشكل خطرا فريدا من نوعه على إسرائيل التي بإمكانها أن ترد على المجموعات من خلال اعتقال أو اغتيال زعمائها وفي نهاية المطاف من خلال التفاوض معهم على وقف لإطلاق النار، ولكنها لا تستطيع منع الأفراد من اتخاذ القرارات اليائسة التي تخصهم شخصيا. بإمكانها فقط أن تستفزهم أكثر وأكثر من خلال اللجوء إلى هدم البيوت وغير ذلك من إجراءات العقوبة الجماعية.
ثم هناك مجموعة من العوامل التي تخص هذه الانتفاضة دون غيرها. كانت الانتفاضتان الأولى والثانية تقتصران على الضفة الغربية وقطاع غزة. أما الفلسطينيون من مواطني إسرائيل، والذين يعيشون داخلها منذ عام 1948، فقد شاركوا في الاحتجاجات التي نظمت في مطلع الانتفاضة الثانية، ولكن مشاركتهم لم تطل. لم يحصل منذ يوم الأرض في عام 1976 أن كان فلسطينيو 1948 في مقدمة المشاركين في الانتفاضة الشعبية. في الثلاثين من مارس 1976، تحرك الآلاف من فلسطينيي المثلث الشمالي في مسيرة للاحتجاج على مصادرة مساحات واسعة من الأرض كجزء من السياسة الرسمية المعلنة لتهويد المنطقة.
ولكن الوضع اليوم مختلف، فلا الجدار ولا حاجز الفصل بإمكانه أن يحتوى الانتفاضة. وقعت هجمات الأسبوع الماضي في أماكن لا سلطان لمنظمة التحرير الفلسطينية عليها – في القدس الشرقية وفي العفولة وفي تل أبيب. هناك مجموعة من العوامل الأخرى. هذه هي الانتفاضة الأولى التي لا يتطلع فيها الفلسطينيون إلى الدول العربية المجاورة ولا يأملون في تدخل منها. لعل ذلك علامة من علامات هذا الزمن أو من علامات الفوضى التي تعصف بالمناطق المجاورة لإسرائيل.
ردود الفعل الإسرائيلية على الانتفاضة حتى هذه اللحظة تتمثل في فقدان الثقة برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وبدعم الزعماء الأكثر تطرفا نحو اليمين. يشير استطلاع أخير للرأي نشرت نتائجه صحيفة يديعوت أهارونوت يوم الأحد إلى أن 73 بالمائة من المستطلعة آراؤهم غير راضين عن معالجة نتنياهو للهجمات الأخيرة. وإجابة على سؤال "من هو الأكثر أهلية للتعامل معها" جاء في مقدمة المرشحين لذلك اثنان من أكثر السياسيين تطرفا: وزير الخارجية السابق أفيغدور ليبرمان ووزير التعليم نفتالي بينيت المؤيد للاستيطان. حينما كان وزيرا للخارجية، كلف ليبرمان عددا من المحامين بالنظر في خطط لما يسمى بالترانسفير الستاتيك (النقل الساكن) للسكان الفلسطينيين في شمال إسرائيل إلى دولة فلسطينية.
إلا أنه يجري في الوقت نفسه تشجيع الإسرائيليين على التصرف بأنفسهم. من المعلوم أن إسرائيل مجتمع كثيف التسلح، وفي عام 2013 وحده أصدرت الدولة 160 ألف رخصة سلاح لمواطنين بصفتهم الشخصية بالإضافة إلى 160 ألف رخصة لمنظمات، وفي سياق الأحداث الحالية يتوقع أن تزداد كثافة التسلح في هذا المجتمع. في القدس يجري تشجيع المواطنين الإسرائيليين جهارا نهارا على التصرف ضد الفلسطينيين، وممن يقوم بهذا التشجيع عمدة المدينة نير باركات، الذي قام بمساعدة حراسه بإعاقة فلسطيني طعن رجلا يهوديا في الشارع. بعد ذلك شوهد نير باركات في حي بيت حنينا الفلسطيني؛ وهو يحمل بندقية مشرعة في يده. وفعلا ظهرت مجموعات من الرعاع وهو يتهيأون لتصيد العمال الفلسطينيين في شوارع القدس، ويخططون للمرور بالطرق المؤدية إلى مناطق يجري فيها استخدام عمال النظافة الفلسطينيون.
كل المؤشرات تتجه نحو صراع دموي طويل المدى ستقتل فيه أعداد من الأبرياء لا قبل لأحد بإحصائها في الطرفين. يمكنك القول إن إسرائيل اكتشفت السر الذي غاب عن أجيال من الفيزيائيين: ألا وهو سر الحركة الدؤوبة. في كل مرة تهنئ أجهزتها الأمنية نفسها على النجاح في إطفاء جذوة انتفاضة ما تندلع في وجهها انتفاضة أخرى. وفي كل مرة يعود اللهب ليتقد من جديد بفضل التجارب الشخصية لجيل جديد يمر بأوضاع بائسة يائسة تجعله يشتعل سخطا وغضبا.
لا يوجد سوى مخرج واحد من هذه الدائرة المغلقة من الغزو والاضطهاد والمقاومة. يحتاج الإسرائيليون اليهود إلى التأمل في أنفسهم من خلال المرآة والتوصل إلى تسوية مع أهل الأرض التي يشاطرونهم إياها، وذلك لسبب واحد وحيد فقط: الفلسطينيون موجودون وسيبقون، جيلا بعد جيل.
نيسان ـ نشر في 2015/10/16 الساعة 00:00