نعوم تشومسكي: 'مناهضة الحروب' بين العراق وأوكرانيا
نيسان ـ نشر في 2022/10/30 الساعة 00:00
ترجمة: بشار الزبيدي
هذا حوار مع المفكر وعالِم الألسنية الأميركي نعوم تشومسكي، أجراه معه العالم السياسي بوليكرونيو لمصلحة موقع «تروث آوت» الأميركي، ونشره بالتعاون مع الأخير بالألمانية موقع «هايزه»، في وقت سابق من هذا الشهر، بمناسبة الذكرى العشرين لإعطاء الكونغرس الأميركي الضوء الأخضر لغزو العراق. يتحدّث تشومسكي عن كيف أن الولايات المتحدة تتنصّل من المسؤولية بخرقها للقوانين الدولية، وكيف تسيطر على الأمم المتحدة ولا تلتزم بقرارات المحكمة الجنائية. كما يسلّط الضوء على ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع الانتهاكات الأميركية مقارنة بردود فعلها تجاه روسيا في الحرب الأوكرانية. ويوضح كيف ينخدع الإعلام بالتضليلات الأميركية وكيف تقوم نخبة ثقافية بمساندة مشاريعها ومنحها بالزخم اللازم. النص أدناه مترجم عن النسخة الألمانية.
قبل 20 عاماً، أذنَ الكونغرس الأميركي بغزو العراق على الرغم من المعارضة الشديدة لهذا المسعى. وقد أيّد العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الديموقراطيين البارزين، بمن فيهم جو بايدن، تفويض الحرب. تاريخياً ومستقبلياً: ما هي أسباب وآثار حرب العراق؟
- ثمة أنواع عديدة من الدعم، تتراوح بين العلني والضمني. ويشمل هذا الأخير أولئك الذين يرون الحرب خطأ، ولكن ليس أكثر من «خطأ استراتيجي»، كما قدّر ذلك أوباما لاحقاً. كان هناك جنرالات نازيون رفضوا قرارات هتلر المهمة باعتبارها أخطاء استراتيجية. نحن لا نرى مثل هؤلاء الجنرالات اليوم كمعارضين للعدوان النازي. وينطبق الشيء نفسه على الجنرالات الروس الذين رفضوا غزو أفغانستان في الثمانينيات باعتباره خطأ، كما فعل كثيرون.
إذا تمكنّا من تطبيق المعايير التي نطبّقها بحق على الآخرين على أنفسنا، فسوف نرى أنه لم تكن هناك معارضة مبدئية تذكر لحرب العراق في الدوائر العليا، بما في ذلك الحكومة والطبقة السياسية. على غرار حالة حرب فييتنام وغيرها من الجرائم الكبرى.
وبطبيعة الحال، كانت هناك معارضة قوية بين المجتمع. كانت تجربتي التدريسية الخاصة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مميزة. لقد طالب الطلبة بتعليق الدراسة حتى يتمكنوا من المشاركة في الاحتجاجات العامة الكبرى قبل البدء الرسمي للحرب، وهو حدث جديد في تاريخ الإمبريالية. بعد ذلك أرادوا الاجتماع في كنيسة في وسط المدينة لمناقشة الجريمة الوشيكة وعواقبها.
وينطبق الشيء نفسه على مختلف أنحاء العالم، وكانت الاحتجاجات من النوع الذي جعل دونالد رامسفيلد يميّز بين أوروبا القديمة والجديدة. أوروبا القديمة هي الديموقراطيات التقليدية، قديمة الطراز، ويمكننا نحن الأميركيين التغاضي عنها لأنها عالقة في مفاهيم مُملّة مثل القانون الدولي، والسيادة، وغيرها من الهراء الذي عفا عليه الزمن.
من ناحية أخرى، تمثّل أوروبا الجديدة الأخيار، أي عدداً قليلاً من الدول الروسية التابعة السابقة التي اقتربت من مسار واشنطن، فضلاً عن ديموقراطية غربية، تمثّلت بإسبانيا، حيث اتفق رئيس الوزراء أزنار مع واشنطن، متجاهلاً ما يقرب من 100 في المئة من الرأي العام في بلاده. وكمكافأة له، دعي للانضمام إلى بوش وبلير عندما أعلنا الغزو.
ويعكس هذا التمييز الاهتمام التقليدي الكبير بالديموقراطية في الولايات المتحدة.
وسيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كان بوش وبلير قد أجريا مقابلات في هذه المناسبة المباركة. أُجرِيت مقابلة مع بوش في الذكرى العشرين لغزوه لأفغانستان، وهو عمل آخر من أعمال العدوان الإجرامي الذي رفضه الرأي العام الدولي بأغلبية ساحقة، خلافاً للعديد من الادعاءات. وقد حاورته صحيفة «واشنطن بوست»، في العمود الخاص بـ«الأناقة»، حيث تم تصويره على أنه جد محبوب وعبيط يلعب مع أحفاده ويعرض صوره لمشاهير التقى بهم.
لقد كان هناك مبرر رسمي للغزو الأميركي والبريطاني للعراق. وكان «السؤال الوحيد»، كما أقره المسؤولون: هل سيتخلى العراق عن برامجه للأسلحة النووية؟
شكك المفتشون الدوليون في وجود مثل هذه البرامج وطلبوا مزيداً من الوقت للتحقيق. لكن تم رفض طلبهم. كانت الولايات المتحدة وأتباعها البريطانيون متعطشين للدماء. بعد بضعة أشهر، تمت الإجابة عن «السؤال الوحيد» بشكل خاطئ. قد نتذكر الرسم الهزلي الذي أظهر بوش وهو ينظر تحت الطاولة ويقول: «لا، ليس هنا»، ربما في الخزانة، إلخ. جاء ذلك في ظل سخرية جميع الأوساط، ولكن ليس في شوارع بغداد.
تطلبت الإجابة الخاطئة تغيير المسار. وقد اتضح فجأة أن سبب الغزو لم يكن «السؤال الوحيد»، بل رغبتنا الشديدة في جلب بركات الديموقراطية إلى العراق. لمّح باحث بارز في الشرق الأوسط ووصف ما حدث. فقد كتب أغسطس ريتشارد نورتون:
«مع الكشف عن الادعاءات حول أسلحة الدمار الشامل العراقية على أنها أوهام، أكدت إدارة بوش بشكل متزايد على التحول الديموقراطي في العراق كهدف جديد. وهكذا انضم العلماء إلى عربة التحول الديموقراطي. وقد حذت وسائل الإعلام والمعلقون المخلصون حذوهم كالمعتاد».
وكان هناك أيضاً بعض التأييد لهذا التوجه في العراق. وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب أن بعض العراقيين انضموا إلى عربة التحول الديموقراطي. ويعتقد واحد في المئة أن الهدف من الغزو هو تحقيق الديموقراطية في العراق، فيما قال خمسة في المئة إن الهدف هو «مساعدة الشعب العراقي». افترض معظم الآخرين أن الهدف كان السيطرة على موارد العراق وإعادة ترتيب الشرق الأوسط لمصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل.
لقد كانوا من أتباع «نظرية المؤامرة» التي سخر منها الغربيون العقلانيون. وبطبيعة الحال، فإن الناس العقلانيين مقتنعون تماماً بأن واشنطن ولندن ستلتزمان بنفس القدر بـ«تحرير العراق» حتى لو كانت موارد البلاد تتكون من السَلَطة والمخللات، وكان مركز إنتاج الوقود الأحفوري في جنوب المحيط الهادئ.
بوش الجد المحبوب وبوتين هتلر المنسوخ
عندما سعت الولايات المتحدة في تشرين الثاني من عام 2007، إلى التوصل إلى اتفاق بشأن وضع القوات، تحدثت إدارة بوش بوضوح، مطالبة بامتياز وصول شركات الطاقة الغربية إلى موارد الوقود الأحفوري في العراق والحق في إنشاء قواعد عسكرية أميركية في العراق. وقد أكد بوش هذه المطالب في «بيان مُوَقَع» في كانون الثاني التالي. ورفض ذلك البرلمان العراقي.
كانت عواقب الغزو متعددة. لقد دُمّرَ العراق. إن الدولة الأكثر تقدّماً في العالم العربي من نواحٍ عديدة في حالة بائسة اليوم. لقد أثار الغزو صراعاً عرقياً (شيعياً سنياً) لم يكن موجوداً من قبل وهو الآن يمزق ليس فقط البلاد ولكن المنطقة بأسرها.
خرج «داعش» من تحت هذه الأنقاض وكاد أن يسيطر على البلاد عندما فر الجيش المسلح الذي دربته الولايات المتحدة على مرأى من الجهاديين الذين يلوحون بالبنادق، في شاحنات بيك - أب. وتم إيقافهم على مرمى حجر من بغداد من قبل الميليشيات المدعومة من إيران. وهكذا على نفس المنوال.
ولكن أياً من هذا لا يشكّل مشكلة بالنسبة إلى الجد بوش المحبوب، العبيط، أو الطبقات المتنورة في الولايات المتحدة، الذين يعجبون به الآن باعتباره رجل دولة رزيناً، من المفترض أن يقدم محاضرات عن الشؤون العالمية.
رد الفعل هذا مشابه لرد فعل زبيغنيو بريجنسكي عندما سُئِلَ عن تفاخره باستدراج الروس إلى أفغانستان ودعمه لاستراتيجية الولايات المتحدة المتمثلة في إطالة أمد الحرب وعرقلة محادثات الأمم المتحدة بشأن الانسحاب الروسي. كان هذا نجاحاً رائعاً، كما قال بريجنسكي للسائلين السُذّج. وادعى (بشكل مُريب) بأن هدف إلحاق أضرار جسيمة بالاتحاد السوفياتي قد تحقق، مع الإقرار ببقاء عدد قليل من «المسلمين المتذمرين»، فضلاً عن مليون جثة وبلد مدمر.
أو مثل جيمي كارتر، الذي أكد لنا أننا «لا ندين بشيء للفييتناميين» لأن «الدمار كان متبادلاً».
يمكن للمرء أن يستمر بسهولة على هذا النحو. ومع وجود مثل هذه الثروة من القوة، التي تقف إلى جانبها نخبة ثقافية مخلصة، فإن القليل غير قابل للتحقيق.
لقد كان غزو العراق عام 2003 عملاً إجرامياً مثل الغزو الروسي لأوكرانيا. لكن رد فعل المجتمع الغربي كان مختلفاً تماماً تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا. لم تُفرض عقوبات على الولايات المتحدة، ولم يتم تجميد أصول الأوليغارشية الأميركية. لم تكن هناك دعوة إلى تعليق الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي. ما هو تعليقك على هذا؟
- بالكاد للتعليق أهمية. تعتبر الحرب الأميركية الطويلة ضد الهند الصينية أسوأ جريمة منذ الحرب العالمية الثانية. كان التصويت ضد الولايات المتحدة أمراً لا يمكن تصوره. كانت الأمم المتحدة تدرك أن الولايات المتحدة كانت ستعمل ببساطة على حل المؤسسة إذا تمت مناقشة هذه الجرائم المروعة.
إن الغرب يدين بشكل مبرر عمليات ضم بوتين ويدعو إلى معاقبة تناسخ هتلر، لكنه بالكاد يجرؤ على الاحتجاج عندما توافق الولايات المتحدة على ضم إسرائيل غير القانوني لمرتفعات الجولان السورية والقدس الكبرى، فضلاً عن ضم المغرب غير القانوني للصحراء الغربية. والقائمة طويلة، وأسباب ذلك واضحة.
وإذا انتُهِكت القواعد السائدة للنظام العالمي، تُتّخذ إجراءات فورية. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك قرار المحكمة الجنائية الدولية لعام 1986. أدانت المحكمة الدولة الحصينة المُقدسة (الولايات المتحدة الأميركية) بتهمة الإرهاب الدولي (في اللغة القانونية: «الاستخدام غير القانوني للقوة»). وطلبت منها وقف الجرائم ودفع تعويضات ضخمة للضحية (نيكاراغوا).
ردت واشنطن بتصعيد الجرائم. رفضت الصحافة الحكم باعتباره عديم القيمة لأن المحكمة كانت «منصة معادية» (وفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز»)، كما يدل الحكم الصادر ضد الولايات المتحدة. لقد تم محو القضية برمّتها تقريباً من التاريخ، بما في ذلك حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة أصبحت بعدها الدولة الوحيدة التي رفضت قراراً صادراً عن المحكمة الجنائية الدولية مع الإفلات التام من العقاب بطبيعة الحال.
ثمة قول مأثور يقول: «القوانين مثل خيوط العنكبوت تمسك بالذباب الصغير، بينما تسمح للذباب الكبير باختراقها». هذا القول صحيح بشكل خاص في العلاقات الدولية، حيث يكون العراب هو صاحب كلمة الفصل.
وفي غضون ذلك، من الصعب إخفاء ازدراء القانون الدولي ما عدا كونه سلاحاً ضد الأعداء. وتُعاد صياغة الازدراء على أنه دعوة إلى «نظام دولي قائم على القواعد» (حيث يضع العراب القواعد) وهو النظام المصمم ليحل محل النظام الدولي القديم القائم على الأمم المتحدة والذي يعرقل السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
ماذا كان سيحدث لو رفض الكونغرس الموافقة على خطة إدارة بوش لغزو العراق؟
- صوّت نائب جمهوري ضد قرار الحرب (تشافي). انقسم الديمقراطيون (29 مقابل 21). ولو رفض الكونغرس إعطاء التفويض، لكان لزاماً على إدارة بوش أن تجد وسائل أخرى لتحقيق الأهداف التي حددها، تشيني، ورامسفيلد وولفويتس وغيرهم من الصقور بوضوح تام.
هناك العديد من هذه الوسائل: التخريب أو التقويض أو الاستفزاز (أو الافتراء) لحادث يمكن أن يكون ذريعة لـ«الانتقام». أو ببساطة توسيع نظام العقوبات الوحشي الذي يجبر السكان على الخضوع.
ولعلنا نتذكر أن الدبلوماسيَّين الدوليَّين المُحترمَين اللذين أدارا برنامج كلينتون (من خلال الأمم المتحدة) استقالا احتجاجاً وأدانا إياه باعتباره «إبادة جماعية». أَلّفَ أحدهم، وهو الدبلوماسي الألماني هانز فون سبونيك، كتاباً جديراً بالاعتبار يصف فيه التأثيرات بالتفصيل. الكتاب يحمل عنوان «نوع مختلف من الحرب» (A Different Kind of War). لم يكن من الضروري حتى حظر ما يمكن القول إنه الكتاب الأكثر أهمية، والذي يتناول الاستعدادات للغزو الإجرامي وسلاح العقوبات الأميركية. وكان التوافق الصامت كافياً. وربما تكون النتائج قد أثارت غضب الناس لدرجة أن «التدخل الإنساني» كان ضرورياً.
من الجيد أن نتذكر أنه لا توجد حدود للسخرية عندما يسود التوافق والطاعة.
هذا حوار مع المفكر وعالِم الألسنية الأميركي نعوم تشومسكي، أجراه معه العالم السياسي بوليكرونيو لمصلحة موقع «تروث آوت» الأميركي، ونشره بالتعاون مع الأخير بالألمانية موقع «هايزه»، في وقت سابق من هذا الشهر، بمناسبة الذكرى العشرين لإعطاء الكونغرس الأميركي الضوء الأخضر لغزو العراق. يتحدّث تشومسكي عن كيف أن الولايات المتحدة تتنصّل من المسؤولية بخرقها للقوانين الدولية، وكيف تسيطر على الأمم المتحدة ولا تلتزم بقرارات المحكمة الجنائية. كما يسلّط الضوء على ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع الانتهاكات الأميركية مقارنة بردود فعلها تجاه روسيا في الحرب الأوكرانية. ويوضح كيف ينخدع الإعلام بالتضليلات الأميركية وكيف تقوم نخبة ثقافية بمساندة مشاريعها ومنحها بالزخم اللازم. النص أدناه مترجم عن النسخة الألمانية.
قبل 20 عاماً، أذنَ الكونغرس الأميركي بغزو العراق على الرغم من المعارضة الشديدة لهذا المسعى. وقد أيّد العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الديموقراطيين البارزين، بمن فيهم جو بايدن، تفويض الحرب. تاريخياً ومستقبلياً: ما هي أسباب وآثار حرب العراق؟
- ثمة أنواع عديدة من الدعم، تتراوح بين العلني والضمني. ويشمل هذا الأخير أولئك الذين يرون الحرب خطأ، ولكن ليس أكثر من «خطأ استراتيجي»، كما قدّر ذلك أوباما لاحقاً. كان هناك جنرالات نازيون رفضوا قرارات هتلر المهمة باعتبارها أخطاء استراتيجية. نحن لا نرى مثل هؤلاء الجنرالات اليوم كمعارضين للعدوان النازي. وينطبق الشيء نفسه على الجنرالات الروس الذين رفضوا غزو أفغانستان في الثمانينيات باعتباره خطأ، كما فعل كثيرون.
إذا تمكنّا من تطبيق المعايير التي نطبّقها بحق على الآخرين على أنفسنا، فسوف نرى أنه لم تكن هناك معارضة مبدئية تذكر لحرب العراق في الدوائر العليا، بما في ذلك الحكومة والطبقة السياسية. على غرار حالة حرب فييتنام وغيرها من الجرائم الكبرى.
وبطبيعة الحال، كانت هناك معارضة قوية بين المجتمع. كانت تجربتي التدريسية الخاصة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مميزة. لقد طالب الطلبة بتعليق الدراسة حتى يتمكنوا من المشاركة في الاحتجاجات العامة الكبرى قبل البدء الرسمي للحرب، وهو حدث جديد في تاريخ الإمبريالية. بعد ذلك أرادوا الاجتماع في كنيسة في وسط المدينة لمناقشة الجريمة الوشيكة وعواقبها.
وينطبق الشيء نفسه على مختلف أنحاء العالم، وكانت الاحتجاجات من النوع الذي جعل دونالد رامسفيلد يميّز بين أوروبا القديمة والجديدة. أوروبا القديمة هي الديموقراطيات التقليدية، قديمة الطراز، ويمكننا نحن الأميركيين التغاضي عنها لأنها عالقة في مفاهيم مُملّة مثل القانون الدولي، والسيادة، وغيرها من الهراء الذي عفا عليه الزمن.
من ناحية أخرى، تمثّل أوروبا الجديدة الأخيار، أي عدداً قليلاً من الدول الروسية التابعة السابقة التي اقتربت من مسار واشنطن، فضلاً عن ديموقراطية غربية، تمثّلت بإسبانيا، حيث اتفق رئيس الوزراء أزنار مع واشنطن، متجاهلاً ما يقرب من 100 في المئة من الرأي العام في بلاده. وكمكافأة له، دعي للانضمام إلى بوش وبلير عندما أعلنا الغزو.
ويعكس هذا التمييز الاهتمام التقليدي الكبير بالديموقراطية في الولايات المتحدة.
وسيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كان بوش وبلير قد أجريا مقابلات في هذه المناسبة المباركة. أُجرِيت مقابلة مع بوش في الذكرى العشرين لغزوه لأفغانستان، وهو عمل آخر من أعمال العدوان الإجرامي الذي رفضه الرأي العام الدولي بأغلبية ساحقة، خلافاً للعديد من الادعاءات. وقد حاورته صحيفة «واشنطن بوست»، في العمود الخاص بـ«الأناقة»، حيث تم تصويره على أنه جد محبوب وعبيط يلعب مع أحفاده ويعرض صوره لمشاهير التقى بهم.
لقد كان هناك مبرر رسمي للغزو الأميركي والبريطاني للعراق. وكان «السؤال الوحيد»، كما أقره المسؤولون: هل سيتخلى العراق عن برامجه للأسلحة النووية؟
شكك المفتشون الدوليون في وجود مثل هذه البرامج وطلبوا مزيداً من الوقت للتحقيق. لكن تم رفض طلبهم. كانت الولايات المتحدة وأتباعها البريطانيون متعطشين للدماء. بعد بضعة أشهر، تمت الإجابة عن «السؤال الوحيد» بشكل خاطئ. قد نتذكر الرسم الهزلي الذي أظهر بوش وهو ينظر تحت الطاولة ويقول: «لا، ليس هنا»، ربما في الخزانة، إلخ. جاء ذلك في ظل سخرية جميع الأوساط، ولكن ليس في شوارع بغداد.
تطلبت الإجابة الخاطئة تغيير المسار. وقد اتضح فجأة أن سبب الغزو لم يكن «السؤال الوحيد»، بل رغبتنا الشديدة في جلب بركات الديموقراطية إلى العراق. لمّح باحث بارز في الشرق الأوسط ووصف ما حدث. فقد كتب أغسطس ريتشارد نورتون:
«مع الكشف عن الادعاءات حول أسلحة الدمار الشامل العراقية على أنها أوهام، أكدت إدارة بوش بشكل متزايد على التحول الديموقراطي في العراق كهدف جديد. وهكذا انضم العلماء إلى عربة التحول الديموقراطي. وقد حذت وسائل الإعلام والمعلقون المخلصون حذوهم كالمعتاد».
وكان هناك أيضاً بعض التأييد لهذا التوجه في العراق. وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب أن بعض العراقيين انضموا إلى عربة التحول الديموقراطي. ويعتقد واحد في المئة أن الهدف من الغزو هو تحقيق الديموقراطية في العراق، فيما قال خمسة في المئة إن الهدف هو «مساعدة الشعب العراقي». افترض معظم الآخرين أن الهدف كان السيطرة على موارد العراق وإعادة ترتيب الشرق الأوسط لمصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل.
لقد كانوا من أتباع «نظرية المؤامرة» التي سخر منها الغربيون العقلانيون. وبطبيعة الحال، فإن الناس العقلانيين مقتنعون تماماً بأن واشنطن ولندن ستلتزمان بنفس القدر بـ«تحرير العراق» حتى لو كانت موارد البلاد تتكون من السَلَطة والمخللات، وكان مركز إنتاج الوقود الأحفوري في جنوب المحيط الهادئ.
بوش الجد المحبوب وبوتين هتلر المنسوخ
عندما سعت الولايات المتحدة في تشرين الثاني من عام 2007، إلى التوصل إلى اتفاق بشأن وضع القوات، تحدثت إدارة بوش بوضوح، مطالبة بامتياز وصول شركات الطاقة الغربية إلى موارد الوقود الأحفوري في العراق والحق في إنشاء قواعد عسكرية أميركية في العراق. وقد أكد بوش هذه المطالب في «بيان مُوَقَع» في كانون الثاني التالي. ورفض ذلك البرلمان العراقي.
كانت عواقب الغزو متعددة. لقد دُمّرَ العراق. إن الدولة الأكثر تقدّماً في العالم العربي من نواحٍ عديدة في حالة بائسة اليوم. لقد أثار الغزو صراعاً عرقياً (شيعياً سنياً) لم يكن موجوداً من قبل وهو الآن يمزق ليس فقط البلاد ولكن المنطقة بأسرها.
خرج «داعش» من تحت هذه الأنقاض وكاد أن يسيطر على البلاد عندما فر الجيش المسلح الذي دربته الولايات المتحدة على مرأى من الجهاديين الذين يلوحون بالبنادق، في شاحنات بيك - أب. وتم إيقافهم على مرمى حجر من بغداد من قبل الميليشيات المدعومة من إيران. وهكذا على نفس المنوال.
ولكن أياً من هذا لا يشكّل مشكلة بالنسبة إلى الجد بوش المحبوب، العبيط، أو الطبقات المتنورة في الولايات المتحدة، الذين يعجبون به الآن باعتباره رجل دولة رزيناً، من المفترض أن يقدم محاضرات عن الشؤون العالمية.
رد الفعل هذا مشابه لرد فعل زبيغنيو بريجنسكي عندما سُئِلَ عن تفاخره باستدراج الروس إلى أفغانستان ودعمه لاستراتيجية الولايات المتحدة المتمثلة في إطالة أمد الحرب وعرقلة محادثات الأمم المتحدة بشأن الانسحاب الروسي. كان هذا نجاحاً رائعاً، كما قال بريجنسكي للسائلين السُذّج. وادعى (بشكل مُريب) بأن هدف إلحاق أضرار جسيمة بالاتحاد السوفياتي قد تحقق، مع الإقرار ببقاء عدد قليل من «المسلمين المتذمرين»، فضلاً عن مليون جثة وبلد مدمر.
أو مثل جيمي كارتر، الذي أكد لنا أننا «لا ندين بشيء للفييتناميين» لأن «الدمار كان متبادلاً».
يمكن للمرء أن يستمر بسهولة على هذا النحو. ومع وجود مثل هذه الثروة من القوة، التي تقف إلى جانبها نخبة ثقافية مخلصة، فإن القليل غير قابل للتحقيق.
لقد كان غزو العراق عام 2003 عملاً إجرامياً مثل الغزو الروسي لأوكرانيا. لكن رد فعل المجتمع الغربي كان مختلفاً تماماً تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا. لم تُفرض عقوبات على الولايات المتحدة، ولم يتم تجميد أصول الأوليغارشية الأميركية. لم تكن هناك دعوة إلى تعليق الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي. ما هو تعليقك على هذا؟
- بالكاد للتعليق أهمية. تعتبر الحرب الأميركية الطويلة ضد الهند الصينية أسوأ جريمة منذ الحرب العالمية الثانية. كان التصويت ضد الولايات المتحدة أمراً لا يمكن تصوره. كانت الأمم المتحدة تدرك أن الولايات المتحدة كانت ستعمل ببساطة على حل المؤسسة إذا تمت مناقشة هذه الجرائم المروعة.
إن الغرب يدين بشكل مبرر عمليات ضم بوتين ويدعو إلى معاقبة تناسخ هتلر، لكنه بالكاد يجرؤ على الاحتجاج عندما توافق الولايات المتحدة على ضم إسرائيل غير القانوني لمرتفعات الجولان السورية والقدس الكبرى، فضلاً عن ضم المغرب غير القانوني للصحراء الغربية. والقائمة طويلة، وأسباب ذلك واضحة.
وإذا انتُهِكت القواعد السائدة للنظام العالمي، تُتّخذ إجراءات فورية. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك قرار المحكمة الجنائية الدولية لعام 1986. أدانت المحكمة الدولة الحصينة المُقدسة (الولايات المتحدة الأميركية) بتهمة الإرهاب الدولي (في اللغة القانونية: «الاستخدام غير القانوني للقوة»). وطلبت منها وقف الجرائم ودفع تعويضات ضخمة للضحية (نيكاراغوا).
ردت واشنطن بتصعيد الجرائم. رفضت الصحافة الحكم باعتباره عديم القيمة لأن المحكمة كانت «منصة معادية» (وفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز»)، كما يدل الحكم الصادر ضد الولايات المتحدة. لقد تم محو القضية برمّتها تقريباً من التاريخ، بما في ذلك حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة أصبحت بعدها الدولة الوحيدة التي رفضت قراراً صادراً عن المحكمة الجنائية الدولية مع الإفلات التام من العقاب بطبيعة الحال.
ثمة قول مأثور يقول: «القوانين مثل خيوط العنكبوت تمسك بالذباب الصغير، بينما تسمح للذباب الكبير باختراقها». هذا القول صحيح بشكل خاص في العلاقات الدولية، حيث يكون العراب هو صاحب كلمة الفصل.
وفي غضون ذلك، من الصعب إخفاء ازدراء القانون الدولي ما عدا كونه سلاحاً ضد الأعداء. وتُعاد صياغة الازدراء على أنه دعوة إلى «نظام دولي قائم على القواعد» (حيث يضع العراب القواعد) وهو النظام المصمم ليحل محل النظام الدولي القديم القائم على الأمم المتحدة والذي يعرقل السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
ماذا كان سيحدث لو رفض الكونغرس الموافقة على خطة إدارة بوش لغزو العراق؟
- صوّت نائب جمهوري ضد قرار الحرب (تشافي). انقسم الديمقراطيون (29 مقابل 21). ولو رفض الكونغرس إعطاء التفويض، لكان لزاماً على إدارة بوش أن تجد وسائل أخرى لتحقيق الأهداف التي حددها، تشيني، ورامسفيلد وولفويتس وغيرهم من الصقور بوضوح تام.
هناك العديد من هذه الوسائل: التخريب أو التقويض أو الاستفزاز (أو الافتراء) لحادث يمكن أن يكون ذريعة لـ«الانتقام». أو ببساطة توسيع نظام العقوبات الوحشي الذي يجبر السكان على الخضوع.
ولعلنا نتذكر أن الدبلوماسيَّين الدوليَّين المُحترمَين اللذين أدارا برنامج كلينتون (من خلال الأمم المتحدة) استقالا احتجاجاً وأدانا إياه باعتباره «إبادة جماعية». أَلّفَ أحدهم، وهو الدبلوماسي الألماني هانز فون سبونيك، كتاباً جديراً بالاعتبار يصف فيه التأثيرات بالتفصيل. الكتاب يحمل عنوان «نوع مختلف من الحرب» (A Different Kind of War). لم يكن من الضروري حتى حظر ما يمكن القول إنه الكتاب الأكثر أهمية، والذي يتناول الاستعدادات للغزو الإجرامي وسلاح العقوبات الأميركية. وكان التوافق الصامت كافياً. وربما تكون النتائج قد أثارت غضب الناس لدرجة أن «التدخل الإنساني» كان ضرورياً.
من الجيد أن نتذكر أنه لا توجد حدود للسخرية عندما يسود التوافق والطاعة.
نيسان ـ نشر في 2022/10/30 الساعة 00:00