للجمال والقبح 'تاريخ' على طريقة أمبرتو إيكو
نيسان ـ نشر في 2022/11/18 الساعة 00:00
الفنون والآداب عبرت عن الخير والشر لتنتهي معبرة عن الغرابة المقلقة.
هو تاريخ من نوع خاص جداً كان من الغريب أن ينتظر بدايات الألفية الثالثة قبل أن يكتب بوجهيه المتكاملين، وفي المقابل لم يكن من الغريب أن يدونه واحد من مفكري وأدباء نهايات القرن الـ20 الأكثر ذكاء والأشمل من ناحية موسوعية كتاباته، وهو الناقد وعالم الجمال وعالم اللسانيات ومؤرخ الذهنيات ثم أخيراً وليس آخراً، واحد من أنجح روائيي القرن الـ20 بتحفه الشعبية التي بدأت مع "اسم الوردة" لتختتم بـ"العدد صفر".
ونتحدث هنا بالطبع عن الإيطالي أمبرتو إيكو كما نتحدث عن الكتابين اللذين أصدرهما خلال السنوات الأخيرة من حياته ليقول إنه حلم طويلاً بكتابتهما وأمضى سنوات كثيرة يجمع موادهما ويحللها ويقارن بينها، ليأتي العملان أخيراً فريدين من نوعهما ومدهشين ونادرين في المجالين اللذين يتحدث عنهما، "تاريخ الجمال" و"تاريخ القبح".
الكتاب الذي ألّف نفسه
منطقياً تبدو الفكرة في غاية البساطة بل حتى بديهية، فإيكو وقبل أكثر من عقدين أصدر واحداً من أجمل كتبه الأخيرة، بل حتى أجمل الكتب الجمالية التي صدرت منذ سنين، ليحير قراءه ويفتنهم في آن معاً، فهل هم أمام بحث في علم الجمال؟ أمام أنطولوجيا أدبية تاريخية فنية؟ أمام كاتالوغ فني شرح "مؤلفه" اللوحات التي جمعها فيه شرحاً وافياً؟
في الحقيقة أن الكتاب كان كل هذا في وقت واحد، بل سيقول إيكو نفسه إنه كتاب ألف نفسه بنفسه وبات مكتملاً منذ ولدت فكرته، ومن هنا لم يكن غريباً على إيكو بعد ثلاث سنوات من صدور ذلك الكتاب أن يعود للفكرة ذاتها إنما في سياق يبدو معاكساً، ليصدر عام 2007 الجزء الثاني الذي يمكن اعتباره ديالكتيكياً ومكملاً طبيعياً للجزء الأول، وعنوانه "تاريخ القبح"، علماً بأن الكتابين يتكاملان تماماً ولم يعد ممكناً منذ صدور "تاريخ القبح" قراءة أي منهما في معزل عن الثاني.
ينطلق أمبرتو إيكو في "تاريخ الجمال" من أسئلة تكاد تبدو بديهية، ما هو الجمال؟ ما هو الفن؟ الذوق؟ البدع السائدة؟ هل الجمال شيء يمكن تعريفه بصورة عقلانية أم أن المسألة تتعلق بإدراك ذاتي خالص؟ وانطلاقاً من مثل هذه الأسئلة يغوص إيكو في نمطين من الإبداع الذي عرفته البشرية، ذاك المتعلق بالفنون البصرية من جهة، والآخر المتعلق بالأدب السردي سواء كان علمياً أو إبداعياً أو ينتمي إلى عالم الأساطير والشعر بدءاً بملاحم الأقدمين وأساطيرهم ووصولاً إلى أحدث الكتابات المعاصرة، لكن غالباً في ما يتعلق منها بالعالم الغربي.
تلقي الجمال
ما في الكتاب الذي يفتتحه إيكو بمقتطفات حول "الجمال" وعلاقة الإنسان به استقاها من كبار المفكرين الغربيين من أفلوطين وسافو إلى ديفيد هيوم وفكتور هوغو وجون كيتس، يغوص في السياق الذي يتابعه عبر عدد من الفصول التي تحقب تاريخياً للنصوص واللوحات التي تتحدث عن الجمال عبر أزمان الوعي الإنساني، غير أنه لا يفعل هذا إلا بعد أن يورد عدداً من جداول المقارنة حول المقاربات الإبداعية والتصويرية هنا في المقام الأول، التي بها دنا فنانو العصور المتلاحقة من المسائل الجمالية.
والحقيقة أنه إذا كانت تلك الجداول المقارنة، وعددها 11 جدولاً متكاملاً، ترسم صورة بصرية أخاذة لتطور تلقي الجمال عبر العصور، فإنها تمهد للفصول المتتالية التي يتجاور فيها استعراض أمثال تلك اللوحات على ضوء عشرات النصوص الأسطورية والإبداعية والفلسفية وحتى العلمية التي يجمعها إيكو ويوالف بينها، مقدماً لكل مجموعة منها بنص بسيط ومختصر يشرح فيه نظرته حول الأبعاد التاريخية والفكرية التي أدت إلى ولادة تلك النصوص.
وعبر هذه الفصول التي وإن كانت مرتبة بشكل تحقيبي تاريخي، تتوزع بشكل موضوعاتي كذلك، يرسم إيكو هنا صورة لتاريخ الجمال لكن ليس من موقع أكاديمي بل من موقع تطبيقي وبريشة ثم عدسة وأقلام وأفكار كبار المفكرين والمبدعين الذين إما عالجوا هذا النوع من المسائل في شكل نظري وإما عالجوه في شكل تطبيقي، ومن هنا في صفحة وراء أخرى وفصل وراء آخر ترتسم تلك الأجوبة عن الأسئلة التي يطرحها إيكو منذ أول كتابه، ليجعلنا ندرك أننا هنا في نهاية الأمر أمام واحد من أجمل وأبسط تواريخ الجمال التي كتبت على مدى التاريخ المعاصر.
وإذا كان إيكو قد وجد من الطبيعي أن تكون الصياغة الشكلية النهائية لـ "تاريخ الجمال" بالغة الجمال بالنظر إلى أنه ليس في الإمكان التعبير عن مسيرة كل ما هو جميل في تاريخ الإبداع والتفكير الإنساني إلا بنصوص ولوحات بالغة الجمال، فإنه لم يكن قادراً بعد ذلك بثلاث سنوات حين ثنّى على الكتاب الأول بثان عن "تاريخ القبح"، أن يفعل ما هو مماثل ويبدو متناسباً مع الكتاب الجديد، أي أنه لم يتمكن من أن يصدر كتاباً قبيحاً ليعبر به عن تاريخ القبح.
جماليات القبح
ومع هذا يغوص الكتاب في تاريخ كل ما هو تعبير عن القبيح والبشع والمقيت والمتوحش والمنفر والمثير للغيظ والرعب وحتى الغثيان منذ فجر الإبداع حتى العصور الحديثة، وكل هذا كما الحال في الجزء الأول من هذا الثنائي الفكري، وكما كانت الحال مع مصير بطاقات تاريخ الجمال التي انتهت على شكل ذلك الكتاب البديع، كانت الحال مع هذا الكتاب الثاني الذي من الواضح أنه يتميز عن الأول، ليس بصعوبة وندرة نصوصه ولوحاته، بل بوفرتها حين يقول لنا إيكو إنه إذا كانت هناك أبعاد محدودة وربما أحادية لما يمكننا أن نعتبره جميلاً على مر العصور، فإن للقبح مئات وربما ألوف المعايير. ولعل في الإمكان حتى أن نقول إن معايير ما هو قبيح لا تحد بالنظر إلى أن القبح قد يأتلف كذلك مع الشر تماماً كما يأتلف مع الطيبة، وقد يكون القبح روحياً كما هو طبيعي، وقد يترجم في التفاوت الشكلي والتشوه الخلقي والأخلاقي، وقد يمكن وصف القبيح بالجبن والسوء والابتذال والخرق واستثارة النفور والحقد والإجرام.
ونعرف أن الأدب والفكر والفن التشكيلي وصولاً إلى السينما في أيامنا هذه ومنحوتات الكاتدرائيات الكبرى في العصور النهضوية والعصور الوسطى حملت صورة الشيطان منتشرة في كل زواياها، بوصفه الأشد قبحاً بين الكائنات، العدو الرهيب ذا الحضور الخطر والمقلق في شكل متواصل.
ألفُ نمط للقبح
وفي هذا الإطار ليس من غير المنطقي أن نرى إيكو يتوقف مثلاً عند كتابين لفكتور هوغو، "الرجل الذي يضحك" و"نوتر دام دي باري"، كما لنا أن نتوقف عند ما يقوله هوغو نفسه في مقدمة كتابه "كروميل" من أن "للقبيح في فكر المحدثين دوراً كبيراً، فإذا لم يكن للجميل بالنسبة إليهم سوى نمط نموذجي واحد فمن المؤكد أن للقبيح ألفَ نمط ونمط"، ولعل التوقف عند الفصول الـ15 التي ينقسم إليها "تاريخ القبح" كاف لإدخالنا في صلب هذا التاريخ كما في منطق اختيارات إيكو، مع لفت النظر إلى أن إيكو يتوقف في الفصل الـ11 مثلاً ويستعير من سيغموند فرويد تعبير "الغرابة المقلقة"، ليقدم واحداً من أكثر أجزاء الكتاب إثارة للقلق، بادئاً بالتأكيد على أن "تاريخاً للقبح لا يمكنه إلا أن يتوقف كذلك عند ما يمكن تسميته قبح الموقف، فلنتخيل هنا أننا داخل غرفة مألوفة لنا فيها مصباح جميل موضوع فوق طاولة، وفجأة يرتفع المصباح من تلقائه. إن الغرفة والمصباح والطاولة هي كما كانت هنا دائماً، ولم يصبح أي منها قبيحاً، ومع هذا يضحي الوضع كله مقلقاً ولا نتمكن من تفسيره".
وفي فصل آخر وأخير يدخل المؤلف عصور الحداثة بصورة مباشرة من خلال ضروب الصناعة الجديدة التي تضافرت مع أنواع جديدة من الإبداع، ففي الفقرة التي يخصصها إيكو لـ "القبح الصناعي" نراه يربط بين ما يسميه الأبراج الحديدية والأبراج العاجية، متوقفاً عند نزعة الانحطاط الفني المعبر عن الانحطاط الاجتماعي على أي حال، ونزعة يسميها "ترف القبح"، وهذا ما ينقله مباشرة إلى الحديث عن النزعات الطليعية في الفن كما سادت منذ نهايات القرن الـ 19 وبدايات القرن الـ 20، أي الزمن الذي يسميه "عصر انتصار القبح" مركزاً هنا على بيانات الدادائيين وأصحاب النزعة المستقبلية من بودلير وتريستان تزارا إلى مارينيتي، لكن بعد مرور إجباري بطائفة من فنانين وكتاب يتوقف عند أعمالهم وطغيان القبح المبدع عليها.
هو تاريخ من نوع خاص جداً كان من الغريب أن ينتظر بدايات الألفية الثالثة قبل أن يكتب بوجهيه المتكاملين، وفي المقابل لم يكن من الغريب أن يدونه واحد من مفكري وأدباء نهايات القرن الـ20 الأكثر ذكاء والأشمل من ناحية موسوعية كتاباته، وهو الناقد وعالم الجمال وعالم اللسانيات ومؤرخ الذهنيات ثم أخيراً وليس آخراً، واحد من أنجح روائيي القرن الـ20 بتحفه الشعبية التي بدأت مع "اسم الوردة" لتختتم بـ"العدد صفر".
ونتحدث هنا بالطبع عن الإيطالي أمبرتو إيكو كما نتحدث عن الكتابين اللذين أصدرهما خلال السنوات الأخيرة من حياته ليقول إنه حلم طويلاً بكتابتهما وأمضى سنوات كثيرة يجمع موادهما ويحللها ويقارن بينها، ليأتي العملان أخيراً فريدين من نوعهما ومدهشين ونادرين في المجالين اللذين يتحدث عنهما، "تاريخ الجمال" و"تاريخ القبح".
الكتاب الذي ألّف نفسه
منطقياً تبدو الفكرة في غاية البساطة بل حتى بديهية، فإيكو وقبل أكثر من عقدين أصدر واحداً من أجمل كتبه الأخيرة، بل حتى أجمل الكتب الجمالية التي صدرت منذ سنين، ليحير قراءه ويفتنهم في آن معاً، فهل هم أمام بحث في علم الجمال؟ أمام أنطولوجيا أدبية تاريخية فنية؟ أمام كاتالوغ فني شرح "مؤلفه" اللوحات التي جمعها فيه شرحاً وافياً؟
في الحقيقة أن الكتاب كان كل هذا في وقت واحد، بل سيقول إيكو نفسه إنه كتاب ألف نفسه بنفسه وبات مكتملاً منذ ولدت فكرته، ومن هنا لم يكن غريباً على إيكو بعد ثلاث سنوات من صدور ذلك الكتاب أن يعود للفكرة ذاتها إنما في سياق يبدو معاكساً، ليصدر عام 2007 الجزء الثاني الذي يمكن اعتباره ديالكتيكياً ومكملاً طبيعياً للجزء الأول، وعنوانه "تاريخ القبح"، علماً بأن الكتابين يتكاملان تماماً ولم يعد ممكناً منذ صدور "تاريخ القبح" قراءة أي منهما في معزل عن الثاني.
ينطلق أمبرتو إيكو في "تاريخ الجمال" من أسئلة تكاد تبدو بديهية، ما هو الجمال؟ ما هو الفن؟ الذوق؟ البدع السائدة؟ هل الجمال شيء يمكن تعريفه بصورة عقلانية أم أن المسألة تتعلق بإدراك ذاتي خالص؟ وانطلاقاً من مثل هذه الأسئلة يغوص إيكو في نمطين من الإبداع الذي عرفته البشرية، ذاك المتعلق بالفنون البصرية من جهة، والآخر المتعلق بالأدب السردي سواء كان علمياً أو إبداعياً أو ينتمي إلى عالم الأساطير والشعر بدءاً بملاحم الأقدمين وأساطيرهم ووصولاً إلى أحدث الكتابات المعاصرة، لكن غالباً في ما يتعلق منها بالعالم الغربي.
تلقي الجمال
ما في الكتاب الذي يفتتحه إيكو بمقتطفات حول "الجمال" وعلاقة الإنسان به استقاها من كبار المفكرين الغربيين من أفلوطين وسافو إلى ديفيد هيوم وفكتور هوغو وجون كيتس، يغوص في السياق الذي يتابعه عبر عدد من الفصول التي تحقب تاريخياً للنصوص واللوحات التي تتحدث عن الجمال عبر أزمان الوعي الإنساني، غير أنه لا يفعل هذا إلا بعد أن يورد عدداً من جداول المقارنة حول المقاربات الإبداعية والتصويرية هنا في المقام الأول، التي بها دنا فنانو العصور المتلاحقة من المسائل الجمالية.
والحقيقة أنه إذا كانت تلك الجداول المقارنة، وعددها 11 جدولاً متكاملاً، ترسم صورة بصرية أخاذة لتطور تلقي الجمال عبر العصور، فإنها تمهد للفصول المتتالية التي يتجاور فيها استعراض أمثال تلك اللوحات على ضوء عشرات النصوص الأسطورية والإبداعية والفلسفية وحتى العلمية التي يجمعها إيكو ويوالف بينها، مقدماً لكل مجموعة منها بنص بسيط ومختصر يشرح فيه نظرته حول الأبعاد التاريخية والفكرية التي أدت إلى ولادة تلك النصوص.
وعبر هذه الفصول التي وإن كانت مرتبة بشكل تحقيبي تاريخي، تتوزع بشكل موضوعاتي كذلك، يرسم إيكو هنا صورة لتاريخ الجمال لكن ليس من موقع أكاديمي بل من موقع تطبيقي وبريشة ثم عدسة وأقلام وأفكار كبار المفكرين والمبدعين الذين إما عالجوا هذا النوع من المسائل في شكل نظري وإما عالجوه في شكل تطبيقي، ومن هنا في صفحة وراء أخرى وفصل وراء آخر ترتسم تلك الأجوبة عن الأسئلة التي يطرحها إيكو منذ أول كتابه، ليجعلنا ندرك أننا هنا في نهاية الأمر أمام واحد من أجمل وأبسط تواريخ الجمال التي كتبت على مدى التاريخ المعاصر.
وإذا كان إيكو قد وجد من الطبيعي أن تكون الصياغة الشكلية النهائية لـ "تاريخ الجمال" بالغة الجمال بالنظر إلى أنه ليس في الإمكان التعبير عن مسيرة كل ما هو جميل في تاريخ الإبداع والتفكير الإنساني إلا بنصوص ولوحات بالغة الجمال، فإنه لم يكن قادراً بعد ذلك بثلاث سنوات حين ثنّى على الكتاب الأول بثان عن "تاريخ القبح"، أن يفعل ما هو مماثل ويبدو متناسباً مع الكتاب الجديد، أي أنه لم يتمكن من أن يصدر كتاباً قبيحاً ليعبر به عن تاريخ القبح.
جماليات القبح
ومع هذا يغوص الكتاب في تاريخ كل ما هو تعبير عن القبيح والبشع والمقيت والمتوحش والمنفر والمثير للغيظ والرعب وحتى الغثيان منذ فجر الإبداع حتى العصور الحديثة، وكل هذا كما الحال في الجزء الأول من هذا الثنائي الفكري، وكما كانت الحال مع مصير بطاقات تاريخ الجمال التي انتهت على شكل ذلك الكتاب البديع، كانت الحال مع هذا الكتاب الثاني الذي من الواضح أنه يتميز عن الأول، ليس بصعوبة وندرة نصوصه ولوحاته، بل بوفرتها حين يقول لنا إيكو إنه إذا كانت هناك أبعاد محدودة وربما أحادية لما يمكننا أن نعتبره جميلاً على مر العصور، فإن للقبح مئات وربما ألوف المعايير. ولعل في الإمكان حتى أن نقول إن معايير ما هو قبيح لا تحد بالنظر إلى أن القبح قد يأتلف كذلك مع الشر تماماً كما يأتلف مع الطيبة، وقد يكون القبح روحياً كما هو طبيعي، وقد يترجم في التفاوت الشكلي والتشوه الخلقي والأخلاقي، وقد يمكن وصف القبيح بالجبن والسوء والابتذال والخرق واستثارة النفور والحقد والإجرام.
ونعرف أن الأدب والفكر والفن التشكيلي وصولاً إلى السينما في أيامنا هذه ومنحوتات الكاتدرائيات الكبرى في العصور النهضوية والعصور الوسطى حملت صورة الشيطان منتشرة في كل زواياها، بوصفه الأشد قبحاً بين الكائنات، العدو الرهيب ذا الحضور الخطر والمقلق في شكل متواصل.
ألفُ نمط للقبح
وفي هذا الإطار ليس من غير المنطقي أن نرى إيكو يتوقف مثلاً عند كتابين لفكتور هوغو، "الرجل الذي يضحك" و"نوتر دام دي باري"، كما لنا أن نتوقف عند ما يقوله هوغو نفسه في مقدمة كتابه "كروميل" من أن "للقبيح في فكر المحدثين دوراً كبيراً، فإذا لم يكن للجميل بالنسبة إليهم سوى نمط نموذجي واحد فمن المؤكد أن للقبيح ألفَ نمط ونمط"، ولعل التوقف عند الفصول الـ15 التي ينقسم إليها "تاريخ القبح" كاف لإدخالنا في صلب هذا التاريخ كما في منطق اختيارات إيكو، مع لفت النظر إلى أن إيكو يتوقف في الفصل الـ11 مثلاً ويستعير من سيغموند فرويد تعبير "الغرابة المقلقة"، ليقدم واحداً من أكثر أجزاء الكتاب إثارة للقلق، بادئاً بالتأكيد على أن "تاريخاً للقبح لا يمكنه إلا أن يتوقف كذلك عند ما يمكن تسميته قبح الموقف، فلنتخيل هنا أننا داخل غرفة مألوفة لنا فيها مصباح جميل موضوع فوق طاولة، وفجأة يرتفع المصباح من تلقائه. إن الغرفة والمصباح والطاولة هي كما كانت هنا دائماً، ولم يصبح أي منها قبيحاً، ومع هذا يضحي الوضع كله مقلقاً ولا نتمكن من تفسيره".
وفي فصل آخر وأخير يدخل المؤلف عصور الحداثة بصورة مباشرة من خلال ضروب الصناعة الجديدة التي تضافرت مع أنواع جديدة من الإبداع، ففي الفقرة التي يخصصها إيكو لـ "القبح الصناعي" نراه يربط بين ما يسميه الأبراج الحديدية والأبراج العاجية، متوقفاً عند نزعة الانحطاط الفني المعبر عن الانحطاط الاجتماعي على أي حال، ونزعة يسميها "ترف القبح"، وهذا ما ينقله مباشرة إلى الحديث عن النزعات الطليعية في الفن كما سادت منذ نهايات القرن الـ 19 وبدايات القرن الـ 20، أي الزمن الذي يسميه "عصر انتصار القبح" مركزاً هنا على بيانات الدادائيين وأصحاب النزعة المستقبلية من بودلير وتريستان تزارا إلى مارينيتي، لكن بعد مرور إجباري بطائفة من فنانين وكتاب يتوقف عند أعمالهم وطغيان القبح المبدع عليها.
نيسان ـ نشر في 2022/11/18 الساعة 00:00