الخيال والتاريخ يمتزجان في فيلم يليق بدافيد لين وملاحمه الكبرى
نيسان ـ نشر في 2022/12/02 الساعة 00:00
هل كان فيلماً تاريخياً؟ أم كان فيلماً بوليسياً؟ هل استند إلى أحداث حقيقية أم أنه كان من نسج الخيال مع خلفية مستقاة من تاريخ ما؟ مهما يكن من أمر ثمة شيء واضح في فيلم "ليلة الجنرالات" الذي حققه الهوليوودي أناتول ليتفاك في عام 1967، وهو أنه بالفعل ينهل من تلك الليلة المدهشة التي عرفتها ألمانيا النازية ذات ليلة من ليالي الحرب العالمية الثانية، أما الباقي فمستقى من الفصول الأولى لرواية بوليسية – تاريخية للكاتب الألماني هانس هلموت كيرست، حتى وإن كانت عناوين الفيلم تذكر أن تلك الرواية نفسها إنما اقتبست من "أحداث رواها" جيمس هادلي تشيس الذي كان يعتبر من أساطين الرواية البوليسية الواقعية في سنوات الستين. غير أن تشيس وكورست لم يكونا الاسمين الوحيدين الكبيرين اللذين حملتهما العناوين. ففي الإنتاج كان هناك سام سبيغل، وفي السيناريو جوزف كيسيل الشهير بكتابته نصوصاً أدبية كبيرة في مجال التحقيقات وأدب الرحلات وتاريخ القرن العشرين مع ذكر اسم غور فيدال كمساهم في السيناريو والحوارات في الصحف من دون أن يكون له ذكر في العناوين، وفي الموسيقى هناك موريس جار الفرنسي الذي اشتهر بألحان شهيرة وضعها لأفلام تاريخية كبرى من "لورانس العرب" إلى "دكتور جيفاغو" مروراً بـ"جسر على نهر كواي". فإذا أضفنا إلى ذلك، بيتر أوتول وتوم كورتناي وعمر الشريف وفيليب نواريه وغيرهم من أصحاب الأسماء الكبيرة بين نجوم ذلك الزمن، سيخيل إلينا أننا أمام عمل جدير بدافيد لين. لكن ليتفاك لم يكن ليقل أهمية عن لين، بل كان يبزه سياسياً وأيديولوجياً وعداء للنازية وهو المتحدر عائلياً من شرق أوروبا.
اعتراف متأخر
لكن "ليلة الجنرالات" لم يحقق في زمنه نجاحاً يضاهي ما حققته أفلام لين التاريخية، حتى وإن كان اليوم يصنف في مكانة أرقى – فنياً وفكرياً – بكثير من تلك التي كانت ولا تزال لسيّد السينما التاريخية الإنجليزي ذاك. فما الذي حال بين هذا الفيلم وبين أن يحوز شعبية كبيرة حين عرض للمرات الأولى؟ الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تبدو عسيرة وربما يمكنها أن تنطلق من تركيبية هجينية حكائية تأرجحت بين ما هو تاريخي وما هو متخيّل، من دون أن تتمكن من خلق تلك "الأسطورية" التي اعتادت السينما التاريخية أن تخلقها انطلاقاً من أحداث حقيقية تفتتح السرد بها لتغوص فيها بعد ذلك ما تشاء مستندة إلى ما يعرفه المتفرجون مسبقاً. هنا في "ليلة الجنرالات" ربما يكون التوجه المعاكس، من الأسطوري المتخيّل إلى الواقعي التاريخي، هو ما ضيّع الجمهور. فالفيلم ينطلق من مقتل عاهرة، كانت أيضاً عميلة ألمانية، في وارسو التي احتلتها ألمانيا عام 1942. وتلك الجريمة سيعهد بالتحقيق فيها إلى الرائد غراو أبوير الذي سرعان ما تشير شهادته إلى أن القاتل كان أحد الجنرالات الألمان الثلاثة: الجنرال فون سيدليتز غابلر، الجنرال كاهلينبيرغ، رئيس هيئة أركانه؛ أو الجنرال تانز، وهو ضابط يحمل أوسمة عالية ويبدو مفضلاً لدى أدولف هتلر. وهنا يحدث أن يقطع غراو تحقيقاته من جراء ترقيته المفاجئة ونقله إلى باريس بتحريض من هؤلاء الضباط أنفسهم. وبهذا يبقى ملف القضية مغلقاً في وارسو حتى يجتمع الضباط الثلاثة في باريس في يوليو (تموز) 1944. كانت باريس حينها بؤرة للمؤامرات، حيث يخطط كبار ضباط هيئة الأركان لاغتيال هتلر والإطاحة بالحكومة النازية. وكان كاهلينبيرغ متورطاً بعمق في المؤامرة، بينما يتنبه فون سيدليتز- جابلر لوجودها لكنه يفضل أن يبقى على الحياد صامتاً في انتظار النتيجة، وهو المعروف بأن لديه العديد من العلاقات خارج نطاق الزواج. أما تانز فلا يعرف شيئاً عن المؤامرة ويظل على ولائه التام لهتلر.
عندما أخفق المتآمرون
وفي ليلة 19 يوليو (تموز) 1944، عشية الموعد الذي كان المتآمرون قد حددوه لتنفيذ عمليتهم، يأمر تانز سائقه، كورت هارتمان، بأن يستأجر له عاهرة فرنسية؛ وبعد ذلك يذبح تانز العاهرة لاكتشافه تورط هارتمان في مسألة غامضة، لكنه يمنحه فرصة للهرب، وهو ما يقبله هذا الأخير. ولكن عندما يعلم غراو، الذي يحمل الآن رتبة مقدم، بجريمة القتل الجديدة التي ارتكبت بنفس الطريقة التي ارتكبت بها الأولى، يستأنف تحقيقه ويخلص إلى أن تانز هو القاتل. لكن التوقيت لم يعد ملائماً، لأن اليوم التالي كان كما أشرنا، يوم تنفيذ محاولة اغتيال هتلر. وهكذا بينما يتهم غراو تانز وجهاً لوجه، تصل أنباء تفيد بأن هتلر قد نجا، فلا يتورع تانز عن قتل غراو معلناً أن هذا الأخير قد عوقب لأنه أحد المشاركين في المؤامرة لتغطية آثاره.
انتحار قاتل
وهنا ينتقل السيناريو إلى عام 1965، حيث يلفت مقتل عاهرة في هامبورغ انتباه مفتش الإنتربول موراند، الذي يدين بالامتنان لغراو لعدم الكشف عن علاقته بالمقاومة الفرنسية أثناء الحرب. وبالنسبة إلى موراند يكاد يكون من المؤكد أن هناك علاقة للجريمة الجديدة بقضية غراو عام 1942. وهكذا يعيد موراند فتح ملف القضية القديمة، ليتبين له وجود صلة بين الجريمتين. وإذ يحصر موراند القضية من جديد بين الضباط الثلاثة أنفسهم، يتعمق في تحقيقاته ليصل في نهاية الأمر إلى تانز الذي كان قد أمضى في السجن عشرين عاماً بصفته مجرم حرب. يواجه موراند تانز، الذي أطلق سراحه أخيراً، في حفل عشاء لم شمل فرقة بانزر السابقة والتي كان الضباط الثلاثة من بين هيئة أركانها. وهناك خلال الحفلة إذ يجابه موراند تانز بالأدلة القاطعة باعتباره مرتكب الجرائم الثلاث؛ لا يسع تانز إلا أن يخلد إلى صمت يتوجه بعده باستسلام إلى إحدى الغرف الخالية حيث ينفرد بنفسه متأملاً قبل أن يطلق النار على رأسه واضعاً حداً لحياته و... لجرائمه.
مكره أخاك لا بطل
طبعاً نعرف أن هذه الحكاية حول جرائم العاهرات والضباط الثلاثة متخيلة، لكننا نعرف في المقابل أن المؤامرة حكاية حقيقية. ومن الواضح أن سام سبيغل كان هو صاحب فكرة جمعهما معاً هو الذي كان يريد في البداية أن يسند إخراج الفيلم إلى دافيد لين، لكن هذا اعتذر بينما لم يتمكن بيتر أوتول وعمر الشريف وتوم كورتناي من الاعتذار إذ رأى كل منهم أن الحكاية لا تتناسب مع المكانة التي باتت لنجوميتهم بعد نجاحاتهم الهائلة مع دافيد لين في أفلام أخرجها هذا الأخير من إنتاج سام سبيغل نفسه. فهذا المنتج الحاذق كان قد ربطهم بعقود لسبع سنوات إلزامية ومقابل أجور ضئيلة. لكن المشكلة بالنسبة إلى أوتول (الذي قام بدور تانز) وعمر الشريف (الذي قام بدور غراو) أنهما لم يخفيا طوال حياتهما استيائهما من العمل في ذلك الفيلم. ولما أعاد النقاد والمؤرخون الاعتبار إليه وبما يحمل في بعده الفكري الذي يركز على العلاقة بين النازية والقضية الجنسية، كان الإثنان قد باتا بعيدين عن عالمنا! فلم "يستفيدا" من المكانة الجديدة التي باتت لـ"ليلة الجنرالات" الذي كان أنجز أصلاً في عام 1967 يوم لم يكن هذا النوع من الأفلام البسيكو - تاريخية قد عرف فورته الكبرى في أفلام مدهشة مثل "الممتثل" لبرناردو برتولوتشي، أو "الحارس الليلي" لليليانا كافاني...
أما بالنسبة إلى مخرج الفيلم أناتول ليتفاك الأوكراني الأصل والمولود في كييف وهاجر إلى هوليوود مروراً بإنجلترا وباريس هارباً من النازيين، فإنه لم يُكتشف بدوره كمخرج من الطراز الرفيع إلا لاحقاً وسنوات بعد أن اضطر سبيغل للتعاقد معه فقط لأن ليتفاك كان يمتلك حقوق القصة الأصلية التي انطلق منها الفيلم، ولم يرض أن يتخلى عنها لسبيغل بأي شكل من الأشكال فكان إخراجها من نصيبه ليتذكر كثر لاحقاً أنه كان قبل ذلك قد حقق فيلماً كبيراً عن السيكولوجية النازية بعنوان "اعترافات جاسوس نازي". لكن هذا الفيلم الذي صور في فرنسا وإنجلترا من بطولة فيليب نواريه وجولييت غريكو، مر يومها مرور الكرام لأنه أتى سابقاً لزمنه، ويبدو أنه لا يزال حتى اليوم في انتظار إعادة اعتبار ما بدوره.
اعتراف متأخر
لكن "ليلة الجنرالات" لم يحقق في زمنه نجاحاً يضاهي ما حققته أفلام لين التاريخية، حتى وإن كان اليوم يصنف في مكانة أرقى – فنياً وفكرياً – بكثير من تلك التي كانت ولا تزال لسيّد السينما التاريخية الإنجليزي ذاك. فما الذي حال بين هذا الفيلم وبين أن يحوز شعبية كبيرة حين عرض للمرات الأولى؟ الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تبدو عسيرة وربما يمكنها أن تنطلق من تركيبية هجينية حكائية تأرجحت بين ما هو تاريخي وما هو متخيّل، من دون أن تتمكن من خلق تلك "الأسطورية" التي اعتادت السينما التاريخية أن تخلقها انطلاقاً من أحداث حقيقية تفتتح السرد بها لتغوص فيها بعد ذلك ما تشاء مستندة إلى ما يعرفه المتفرجون مسبقاً. هنا في "ليلة الجنرالات" ربما يكون التوجه المعاكس، من الأسطوري المتخيّل إلى الواقعي التاريخي، هو ما ضيّع الجمهور. فالفيلم ينطلق من مقتل عاهرة، كانت أيضاً عميلة ألمانية، في وارسو التي احتلتها ألمانيا عام 1942. وتلك الجريمة سيعهد بالتحقيق فيها إلى الرائد غراو أبوير الذي سرعان ما تشير شهادته إلى أن القاتل كان أحد الجنرالات الألمان الثلاثة: الجنرال فون سيدليتز غابلر، الجنرال كاهلينبيرغ، رئيس هيئة أركانه؛ أو الجنرال تانز، وهو ضابط يحمل أوسمة عالية ويبدو مفضلاً لدى أدولف هتلر. وهنا يحدث أن يقطع غراو تحقيقاته من جراء ترقيته المفاجئة ونقله إلى باريس بتحريض من هؤلاء الضباط أنفسهم. وبهذا يبقى ملف القضية مغلقاً في وارسو حتى يجتمع الضباط الثلاثة في باريس في يوليو (تموز) 1944. كانت باريس حينها بؤرة للمؤامرات، حيث يخطط كبار ضباط هيئة الأركان لاغتيال هتلر والإطاحة بالحكومة النازية. وكان كاهلينبيرغ متورطاً بعمق في المؤامرة، بينما يتنبه فون سيدليتز- جابلر لوجودها لكنه يفضل أن يبقى على الحياد صامتاً في انتظار النتيجة، وهو المعروف بأن لديه العديد من العلاقات خارج نطاق الزواج. أما تانز فلا يعرف شيئاً عن المؤامرة ويظل على ولائه التام لهتلر.
عندما أخفق المتآمرون
وفي ليلة 19 يوليو (تموز) 1944، عشية الموعد الذي كان المتآمرون قد حددوه لتنفيذ عمليتهم، يأمر تانز سائقه، كورت هارتمان، بأن يستأجر له عاهرة فرنسية؛ وبعد ذلك يذبح تانز العاهرة لاكتشافه تورط هارتمان في مسألة غامضة، لكنه يمنحه فرصة للهرب، وهو ما يقبله هذا الأخير. ولكن عندما يعلم غراو، الذي يحمل الآن رتبة مقدم، بجريمة القتل الجديدة التي ارتكبت بنفس الطريقة التي ارتكبت بها الأولى، يستأنف تحقيقه ويخلص إلى أن تانز هو القاتل. لكن التوقيت لم يعد ملائماً، لأن اليوم التالي كان كما أشرنا، يوم تنفيذ محاولة اغتيال هتلر. وهكذا بينما يتهم غراو تانز وجهاً لوجه، تصل أنباء تفيد بأن هتلر قد نجا، فلا يتورع تانز عن قتل غراو معلناً أن هذا الأخير قد عوقب لأنه أحد المشاركين في المؤامرة لتغطية آثاره.
انتحار قاتل
وهنا ينتقل السيناريو إلى عام 1965، حيث يلفت مقتل عاهرة في هامبورغ انتباه مفتش الإنتربول موراند، الذي يدين بالامتنان لغراو لعدم الكشف عن علاقته بالمقاومة الفرنسية أثناء الحرب. وبالنسبة إلى موراند يكاد يكون من المؤكد أن هناك علاقة للجريمة الجديدة بقضية غراو عام 1942. وهكذا يعيد موراند فتح ملف القضية القديمة، ليتبين له وجود صلة بين الجريمتين. وإذ يحصر موراند القضية من جديد بين الضباط الثلاثة أنفسهم، يتعمق في تحقيقاته ليصل في نهاية الأمر إلى تانز الذي كان قد أمضى في السجن عشرين عاماً بصفته مجرم حرب. يواجه موراند تانز، الذي أطلق سراحه أخيراً، في حفل عشاء لم شمل فرقة بانزر السابقة والتي كان الضباط الثلاثة من بين هيئة أركانها. وهناك خلال الحفلة إذ يجابه موراند تانز بالأدلة القاطعة باعتباره مرتكب الجرائم الثلاث؛ لا يسع تانز إلا أن يخلد إلى صمت يتوجه بعده باستسلام إلى إحدى الغرف الخالية حيث ينفرد بنفسه متأملاً قبل أن يطلق النار على رأسه واضعاً حداً لحياته و... لجرائمه.
مكره أخاك لا بطل
طبعاً نعرف أن هذه الحكاية حول جرائم العاهرات والضباط الثلاثة متخيلة، لكننا نعرف في المقابل أن المؤامرة حكاية حقيقية. ومن الواضح أن سام سبيغل كان هو صاحب فكرة جمعهما معاً هو الذي كان يريد في البداية أن يسند إخراج الفيلم إلى دافيد لين، لكن هذا اعتذر بينما لم يتمكن بيتر أوتول وعمر الشريف وتوم كورتناي من الاعتذار إذ رأى كل منهم أن الحكاية لا تتناسب مع المكانة التي باتت لنجوميتهم بعد نجاحاتهم الهائلة مع دافيد لين في أفلام أخرجها هذا الأخير من إنتاج سام سبيغل نفسه. فهذا المنتج الحاذق كان قد ربطهم بعقود لسبع سنوات إلزامية ومقابل أجور ضئيلة. لكن المشكلة بالنسبة إلى أوتول (الذي قام بدور تانز) وعمر الشريف (الذي قام بدور غراو) أنهما لم يخفيا طوال حياتهما استيائهما من العمل في ذلك الفيلم. ولما أعاد النقاد والمؤرخون الاعتبار إليه وبما يحمل في بعده الفكري الذي يركز على العلاقة بين النازية والقضية الجنسية، كان الإثنان قد باتا بعيدين عن عالمنا! فلم "يستفيدا" من المكانة الجديدة التي باتت لـ"ليلة الجنرالات" الذي كان أنجز أصلاً في عام 1967 يوم لم يكن هذا النوع من الأفلام البسيكو - تاريخية قد عرف فورته الكبرى في أفلام مدهشة مثل "الممتثل" لبرناردو برتولوتشي، أو "الحارس الليلي" لليليانا كافاني...
أما بالنسبة إلى مخرج الفيلم أناتول ليتفاك الأوكراني الأصل والمولود في كييف وهاجر إلى هوليوود مروراً بإنجلترا وباريس هارباً من النازيين، فإنه لم يُكتشف بدوره كمخرج من الطراز الرفيع إلا لاحقاً وسنوات بعد أن اضطر سبيغل للتعاقد معه فقط لأن ليتفاك كان يمتلك حقوق القصة الأصلية التي انطلق منها الفيلم، ولم يرض أن يتخلى عنها لسبيغل بأي شكل من الأشكال فكان إخراجها من نصيبه ليتذكر كثر لاحقاً أنه كان قبل ذلك قد حقق فيلماً كبيراً عن السيكولوجية النازية بعنوان "اعترافات جاسوس نازي". لكن هذا الفيلم الذي صور في فرنسا وإنجلترا من بطولة فيليب نواريه وجولييت غريكو، مر يومها مرور الكرام لأنه أتى سابقاً لزمنه، ويبدو أنه لا يزال حتى اليوم في انتظار إعادة اعتبار ما بدوره.
نيسان ـ نشر في 2022/12/02 الساعة 00:00