عام النَّهَابة
نيسان ـ نشر في 2022/12/13 الساعة 00:00
عام النَّهَابة
لم يتجاوز عمري العاشرة، حين كنت ألعب مع أقراني.. نتراكض بمقربة من مجلس مسائي لكبار الحي، فاجلستني الصدفة في طرف المجلس، لأرتاح قليلاً، سمعتهم يتحدثون عن زمانهم وما مر عليهم من بؤس ومشقة، كنت ألقي لهم سمعي وعيني ترقب أقراني في اللعب، إلى أن قال من يظن أنه أكبرهم سناً: أنا شهدت يوم "النهابة"!!، شدتني الكلمة فمنحتها انتباهي وجلست أستمع.. بادره آخر: وكم كان عمرك؟ قال: كنت رجلاً "مباردي" أكثر من ست عشرة سنة، -وقوله مباردي أي يستطيع استخدام البارودة..-، نظر بعيداً كأنه ينظر إلى شاشة تعيد له تلك اللحظات التي عاشها، وقال: كنت أقف فوق التل ورأيت قطعاناً من الناس يهاجمون مستودعاً للطحين خلّفه الجيش العثماني المنسحب، ورأيت من ينهب السلاح والخيل والبغال والصناديق، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى سلب الجندي المنهك الجائع وأخذ ملابسه..
كان ذلك العام الذي شهد سقوط الدولة العثمانية، هو "عام النهابة" كما سماه "الختيار"، كان كل شخص تقع عينه على شيء ينهبه ويمضي به إلى بيته الخاوي من أي مظهر للحياة الانسانية..
عندما استعدت ذكريات تلك الجلسة التي أصبح كلُّ أبطالها تحت التراب إلا الفتى الصغير الجالس على طرف "الفرشة" ليلتقط أنفاسه، ولا يعبأ به المتكلمون!! قلت في نفسي: ما كان يدري ذلك النّهاب البائس أن نهبه لسقط المتاع لا يساوي شيئاً أمام النّهب الذي ستتعرض له البلاد بأسرها، وجيله والأجيال القادمة، إلى وقت الصحوة الكبرى.
كانوا يتحدثون في الماضي وصوره المؤلمة في ذلك الحين، وأنا الآن أتخيل النهب الذي نتعرض له منذ أن سقطت الدولة العثمانية، نهبوا منا السيادة والقرار السياسي، ونهبوا الأرض وما فوقها وما تحتها، وسلمونا لعصابات منحطة وقحة أوصلتنا إلى الحضيض وهي تنهب كل شيء يقع عليه بصرها، لا تشبع ولا تقنع، ولا تعرف بناء دولة ولا سيادة شعب.
المشكلة أن الذئاب تتوالد، وكل يوم يزداد القطيع، وكلما زاد زاد شرههم وانقضوا على ما في أيدي الناس بكل صفاقة! لا يردها دين ولا أصل ولا حياء، حتى أخذوا اللقمة من فم الأطفال، وسرقوا مستقبلهم قبل حاضرهم، سرقوا السعادة والدفء من البيوت..
ثم يقولون لنا نحن نبني لكم دولة وهم ينهبوننا باسم الدولة، هي تنهبنا وهي منهبوبة!! باسم الدولة وأجهزتها مقدراتنا تُنهب، وحريتنا تُنهب، أصبحنا منهكين مشوشين والنهب مستمر، مثل الجندي العثماني المهزوم والمنسحب في قلب الوادي الموحش..
الجندي العثماني المنهك المنهوب، في الوادي المقفر يفكر بأرضه البعيدة ويتجرع مرارة الهزيمة الداخلية قبل الهزيمة من العدو الخارجي، و الانتهازيون يسلبون منه سلاحه بشربة ماء ويسلبونه بدلته العسكرية، أصبح الجندي هو ذلك الشعب الغافل المنهوب، وما كان يدرك يومها أنه في عام النهابة كان يقتل نفسه ويسلب نفسه ويؤسس لانتهازية النهب الذي يتعرض لها منذ أن نُهب مستودع الطحين العثماني في الطور..
لم يتجاوز عمري العاشرة، حين كنت ألعب مع أقراني.. نتراكض بمقربة من مجلس مسائي لكبار الحي، فاجلستني الصدفة في طرف المجلس، لأرتاح قليلاً، سمعتهم يتحدثون عن زمانهم وما مر عليهم من بؤس ومشقة، كنت ألقي لهم سمعي وعيني ترقب أقراني في اللعب، إلى أن قال من يظن أنه أكبرهم سناً: أنا شهدت يوم "النهابة"!!، شدتني الكلمة فمنحتها انتباهي وجلست أستمع.. بادره آخر: وكم كان عمرك؟ قال: كنت رجلاً "مباردي" أكثر من ست عشرة سنة، -وقوله مباردي أي يستطيع استخدام البارودة..-، نظر بعيداً كأنه ينظر إلى شاشة تعيد له تلك اللحظات التي عاشها، وقال: كنت أقف فوق التل ورأيت قطعاناً من الناس يهاجمون مستودعاً للطحين خلّفه الجيش العثماني المنسحب، ورأيت من ينهب السلاح والخيل والبغال والصناديق، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى سلب الجندي المنهك الجائع وأخذ ملابسه..
كان ذلك العام الذي شهد سقوط الدولة العثمانية، هو "عام النهابة" كما سماه "الختيار"، كان كل شخص تقع عينه على شيء ينهبه ويمضي به إلى بيته الخاوي من أي مظهر للحياة الانسانية..
عندما استعدت ذكريات تلك الجلسة التي أصبح كلُّ أبطالها تحت التراب إلا الفتى الصغير الجالس على طرف "الفرشة" ليلتقط أنفاسه، ولا يعبأ به المتكلمون!! قلت في نفسي: ما كان يدري ذلك النّهاب البائس أن نهبه لسقط المتاع لا يساوي شيئاً أمام النّهب الذي ستتعرض له البلاد بأسرها، وجيله والأجيال القادمة، إلى وقت الصحوة الكبرى.
كانوا يتحدثون في الماضي وصوره المؤلمة في ذلك الحين، وأنا الآن أتخيل النهب الذي نتعرض له منذ أن سقطت الدولة العثمانية، نهبوا منا السيادة والقرار السياسي، ونهبوا الأرض وما فوقها وما تحتها، وسلمونا لعصابات منحطة وقحة أوصلتنا إلى الحضيض وهي تنهب كل شيء يقع عليه بصرها، لا تشبع ولا تقنع، ولا تعرف بناء دولة ولا سيادة شعب.
المشكلة أن الذئاب تتوالد، وكل يوم يزداد القطيع، وكلما زاد زاد شرههم وانقضوا على ما في أيدي الناس بكل صفاقة! لا يردها دين ولا أصل ولا حياء، حتى أخذوا اللقمة من فم الأطفال، وسرقوا مستقبلهم قبل حاضرهم، سرقوا السعادة والدفء من البيوت..
ثم يقولون لنا نحن نبني لكم دولة وهم ينهبوننا باسم الدولة، هي تنهبنا وهي منهبوبة!! باسم الدولة وأجهزتها مقدراتنا تُنهب، وحريتنا تُنهب، أصبحنا منهكين مشوشين والنهب مستمر، مثل الجندي العثماني المهزوم والمنسحب في قلب الوادي الموحش..
الجندي العثماني المنهك المنهوب، في الوادي المقفر يفكر بأرضه البعيدة ويتجرع مرارة الهزيمة الداخلية قبل الهزيمة من العدو الخارجي، و الانتهازيون يسلبون منه سلاحه بشربة ماء ويسلبونه بدلته العسكرية، أصبح الجندي هو ذلك الشعب الغافل المنهوب، وما كان يدرك يومها أنه في عام النهابة كان يقتل نفسه ويسلب نفسه ويؤسس لانتهازية النهب الذي يتعرض لها منذ أن نُهب مستودع الطحين العثماني في الطور..
نيسان ـ نشر في 2022/12/13 الساعة 00:00