سيرة الحكم في لبنان في سيرة صائب سلام [5]
نيسان ـ نشر في 2022/12/13 الساعة 00:00
حديثنا هنا عن مذكّرات صائب سلام التي صدرت للتوّ في ثلاثة أجزاء بعنوان: «صائب سلام: أحداث وذكريات». وقلتُ من قبل إن الأجزاء الثلاثة هي يوميّات دوّنها صائب ونشرتها العائلة كما هي من دون تصحيح أو تنقيح أو تحرير، مع أنها تنقل صورة معبّرة عن مكنونات صائب سلام وتفكيره في محطات تاريخيّة هامّة شارك هو في صنع بعضها.
ختمتُ مقالة العدد الماضي بالحديث عن زيارة صائب للسعوديّة ولقائه بالملك عبد العزيز الذي عبّر عن إيمانه بضرورة منع الإعلام في بلاده: المفارقة أن بلاده اليوم وحكومة الإمارات القمعيّة باتتا تمنحان جوائز الصحافة العربيّة كأنهما تصلحان لإصدار أحكام في المهنة. ويذكرُ صائب أنه «قبل مغادرتنا الرياض، قدّموا لنا هدايا ملكيّة، هي عبارة عن ساعات مرصّعة بالأحجار، لي ولكلّ عضو في الوفد، مع سجادتيْن وعباءة، إضافة إلى عدّة حقائب تحوي أقمشة حرير وعباءات» (ص. 241، ج 1). قد نسجّل بدء علاقة صائب الرسميّة مع المملكة في تلك الزيارة. لكنه يعترف أن الطيّارة الخاصّة التي أمدّ بها الملك الوفدَ اللبناني كانت «أقلّ مستوى» من الطائرة اللبنانيّة التي أقلّتهم إلى الرياض.
وصائب لا ينسجم في مواقفه من الأشخاص في المذكّرات. بعدما كان قد كالَ شتّى التهم ورمى رياض الصلح بأقذع العبارات والأوصاف، يعود ليرثيه ويشيد بـ«دهاء رياض الصلح» (ص. 229، ج 1) بعد أن كان قد سخر من صفة دهائه التي لم يستحقّها (ص. 141، ج 1). ويشكو، في ما سبق المرثيّة، من تطبيل الإعلام الفاسد للصلح. أمّا في رثائه، فيقول إن اغتياله «آلمني كثيراً» وإنه بكى «بكاءً مرّاً» ويزعم أن العلاقة بينهما كانت «على خير ما يرام» عند وفاته. وكان صائب يريد، صراحة، أن يحضرَ مأتم الصلح وأن يشارك في تكريمه لكنّ طبيبه الخاص أصرّ على ضرورة خلوده «للراحة التامّة» بعد وعكة صحيّة ألمّت به نتيجة الإرهاق «الشديد».
ويتحدّث صائب عن زيارة له لإيران في عام 1953، ويرسم لنا صورة غير معروفة عن محمد مصدّق، الذي أقصته المخابرات الأميركيّة عن الحكم في نفس العام من أجل الحفاظ على نظام الشاه. يقول سلام إنه قصد قصراً يقطن فيه مصدّق لكن بعد طول انتظار اصطحبهم ابن مصدّق إلى غرفة صغيرة متواضعة «تحتوي على سرير حديدي صغير وبضعة مقاعد، وكان قد انتزع ملابسه المدنيّة وارتدى ثياب النوم» (ص. 244، ج 1). ويقول صائب إن المشهد، خصوصاً بعد إدخال المصوّرين إلى الغرفة في القصر، كان تمثيليّة صمّمها مصدّق كي يضفي صفة التواضع والزهد على شخصه وحكمه آنذاك. والذي يرى الصورة الفوتوغرافية التي تجمع بين مصدّق وسلام لا يستطيع إلا أن يوافق صائب على صفة المشهديّة المصطنعة.
وبعد خلاف مستحكم مع كميل شمعون، يؤلّف صائب الحكومة في عام 1953. ويذكر صائب أنها كانت تضمّ بين الوزراء محي الدين نصولي، الذي كان خصماً له ولأبيه لكنه—بصفته رئيساً للحكومة تلك—يرفض تحمّل مسؤوليّة تسمية أعضائها، بمن فيهم النصولي ويلقي باللائمة على أخيه محمد إذ يقول: «أما محي الدين نصولي فيعود أمر توزيره إلى شقيقي محمد على الرغم من أنه كان خصماً علنياً لي، وهو صاحب جريدة "بيروت"، أهم صحف بيروت العاصمة آنذاك، كما كان يتجنّى على والدي من قبل بقباحة غير مقبولة» (ص. 246، ج 1). لكن ما شأن أخيه محمد في تعيين الوزراء، وإذا كان محي الدين النصولي على هذه الدرجة من القباحة فلماذا قبلَ صائب بتوزيره، وهو كان قد ذمّه من قبل؟ لكن هو يعترف أنه هو وزّره إذ يقول: «ورغم توزيري إياه وإعطائه حقيبتي العدل والإعلام». أي أنه وزّره وقبل بمنحه وزارتيْن أساسيّتيْن (في حينه على الأقلّ إذ إن الوزارات باتت تُصنّف اليوم بناءً على قدرة الوزير على السرقة من مغانمها وجرّ مشاريعها إلى عائلته). (لا ينصفُ صائب شقيقه محمد إلا في جملة واحدة في الأجزاء الثلاثة في الكتاب عندما يعترف بأن محمد بذل «الجهد والتعب لتسيير شؤون جمعيّة المقاصد والسعي لتطويرها»، ص. 213، ج 1).
ويقول صائب إن الملك سعود ارتأى أن يخلف هو الحاج حسين العويني في منصب مُوزّع المكافآت (الرشاوى) السعوديّة الماليّة في لبنان، إذ يقول: «أرسل لي (أي سعود) سفيره في سوريا… عارضاً عليّ رغبة الملك في أن أتولّى مهمّة المكافآت التي تُصرف على الصحافيّين وغيرهم، والتي كان مكلّفاً بها حسين العويني» (هناك مقالة بالإنكليزيّة لفواز طرابلسي عن حسين العويني، راجع فواز طرابلسي، «التوسّع السعودي: الصلة اللبنانيّة، 1924-1952»، في مضاوي الرشيد، تحرير، «مملكة من دون حدود: الآفاق السعوديّة السياسية والدينيّة والإعلاميّة». وعقد طرابلسي المقارنة بين العويني وبين رفيق الحريري في جلسة في المؤتمر الذي حضرناه في لندن قبل سنوات، والذي تحوّلت أوراقه إلى فصول الكتاب). لكنّ صائب اعتذر عن المهمة ويقول، بشيء من الخبث، إنه أحال السفير على نقيب الصحافة، عفيف الطيبي (ص. 248)، ولم يكن الطيبي معروفاً بنزاهته أو بتعفّفه عن تمويل السفارات.
يروي صائب أن عبد الناصر أخبر عبدالله اليافي (وكان الأوّل وزيراً في حكومة الثاني في عام 1956) «نحن نراقب بسعادة ودقّة تصرّفات صائب سلام» (ص. 270، ج 1). وهنا يصبح سلام معتداً بأقوال اليافي الذي يقوله إنه كان يدافع عن حكومته لأنه كان يضطرب عندما تتعرّض الحكومة لهجومات في المجلس. لكن مديح عبد الناصر لم يكن عابراً، كما يكتشف صائب. يضيف صائب أن حملته ضد شركات البترول (أي حملة؟) ألهمت عبد الناصر وأنه «راقب المعركة ليستفيد من تطوّراتها ومن ردود الفعل عليها في معركته المقبلة مع إنكلترا» (ص. 270، ج 1). لكن لا يذكر أيّ من مراجع الثورة المصريّة أو الدراسات عن الظاهرة الناصريّة أو أي من الكتب عن معركة السويس أن صائب سلام، الزعيم البيروتي، ألهمَ عبد الناصر في معركته ضد تحالف ثلاثي جهنّمي. ويقول صائب إن شركات النفط تجنّدت للعمل ضدّه وإنها أغدقت المال على أصحاب الصحف للهجوم على صائب. ويقول إن جريدة «الحياة» أفردت صفحتيْن كاملتيْن لنقل وجهة نظر شركة «إي.بي.سي» البريطانيّة. وحاول مدير الشركة المذكورة رشوة صائب سلام لكنه في الاجتماع معه أفهمه أن «أسلوبه في شراء الضمائر لا يجديه نفعاً مع صائب سلام» لكنه يضيف بلطف أنه سعى «إلى الاتفاق الودّي دون التورّط في أي مشاكل» (ص. 271، ج 1). لكن كيف تقول إنك ألهمتَ عبد الناصر؟ عبد الناصر لم يكن يريد التورّط في أي مشاكل وهو الذي تصدّى لعدوان ثلاثي بسبب تأميم القناة؟ أين معركتك في بيروت—مهما كانت شرسة—من معركة عبد الناصر ضد العالم الغربي وإسرائيل وأنظمة الخليج؟
ويحدّثنا صائب عن لقاء غير معروف له مع أنطون سعادة، ووجده «مثقّفاً ومتزناً وواعياً» (ص. 215، ج 1). ويقول إن سعادة نصح محازبيه بتأييد صائب في انتخابات 1947 ولاقى ذلك التقدير والاستحسان من قبل سلام. واعتبر سلام أن إعدام سعادة، والطريقة التي تمّ بها الإعدام، كانا «جريمة كبرى». ويختلف صائب مع رياض الصلح في النظرة إلى الحزب القومي، ويقول إن الصلح طلب منه اتخاذ موقف عدائي نحوه (يظنّ البعض أن عداء الحزب القومي للصلح كان من جانب واحد فقط). ويروي صائب كيف أن الصلح اعترض عندما عيّن صائب رجلاً محاسباً ذا كفاءة في شركة «طيران الشرق الأوسط» وأرسل إلى صائب قائلاً: «كيف توظّفه في الشركة وهو قومي»؟ وأجابه صائب أن الانتماء الحزبي لا يلغي الكفاءة.
من فوائد هذه المذكّرات أنها تميط اللثام عن الكثير من رؤساء لبنان، خصوصاً فؤاد شهاب وكميل شمعون، لأن هناك هالة أحيطت بهما عبر السنوات، وبجهد من أجهزة دعاية
وصائب، في حديثه عن السعوديّة في مذكّراته، هو غير صائب رجل السياسة الذي عاصرناه على مدى عقود طويلة: هو—كما قيل عن سعاد حسني عندما غنّت ورقصت للمرّة الأولى في فيلم «خلّي بالك من زوزو»—صائب كما لم نرَه من قبل. يتحدّث عن أمراء وملوك آل سعود من دون تملّق أو تبجيل أو تفخيم أو تقدير، لا بل هو يتحدّث بصراحة عن وعود منكوثة ومقاصد خبيثة ومراوغة وعن تقتير وأساليب غير محترمة في التعاطي. وفي سياق ما يصفه صائب بصراعه مع شركات النفط التي اشترت رجال سياسة وصحافة في لبنان، يزور صائب في عام 1956 المملكة السعوديّة للقاء الملك سعود وباقي الأمراء. وأعدَّ صائب لهم خطّة بتروليّة تفصيليّة للموافقة عليها (لكنه لم يشرح لنا عن مضمون الخطة) وطلب موافقة خطيّة من الملك لتلي موافقته الشفهيّة. وأولمَ عدد من أمراء آل سعود النافذين لصائب (لكنه لم يذكر في هذه الزيارة أخباراً عن أحجار كريمة وأقمشة نفيسة وسجّاد فاخر) وكان هناك عشاء وداعيّ عند الأمير فهد في «قصر العزيزيّة». لكنّ صائب يُفاجأ بعد أيّام فقط من عودته إلى بيروت أن السعوديّة تعارض مشروعه رسميّاً (ص. 272، ج 1). ويقول صائب: «ولم يكن تغيير الموقف السعودي ليكون لولا تدخّل الأميركان في هذا الموضوع». لم يكن ممكناً أن يتهم صائب في حياته السياسية وفي العلن النظام السعودي بتغيير موقفه تماشياً مع أوامر أميركيّة. لكن هذا صائب المذكّرات، وليس صائب رجل السياسة العلني. ويقول صائب إن شمعون، الذي كان حُكماً مؤيّداً لشركة «إي.بي.سي» البريطانية، اغتبط من المعارضة السعوديّة لمشروع صائب. ويقول صائب إن اليافي لم يكن يُؤازره في جلسات مجلس الوزراء بل كان يتركه وحيداً ليواجه شمعون. هنا يتحدّث صائب عن موضوع معروف لكن غير متداول في صحافة «الزمن الجميل» (المتخيّل) حيث رسمت جريدة «النهار» صورة ورديّة عن لبنان ما قبل الحرب، خصوصاً في عصر كميل شمعون الذي وُصف بعهد الازدهار، كأن تدفّق أموال التأميمات إلى لبنان كان نتيجة سياسات أو لمسة خاصة لشمعون. الموضوع هنا هو عن الفساد الشخصي لكميل شمعون. ومن فوائد هذه المذكرات أن صائب يميط اللثام عن الكثير من رؤساء لبنان، خصوصاً فؤاد شهاب وكميل شمعون، لأن هناك هالة أحيطت بهما عبر السنوات، وبجهد من أجهزة دعاية ناشطة. لا يزال بعض الشباب اللبناني يتحدّث عن مجد عهد شمعون، فيما كان الرجل مُشعلاً للحرب الأهليّة (مرتيْن) لمآرب شخصية وتعصّب طائفي وهو الذي تورّط في صفقات فساد في الرئاسة وبعدها مروراً بسنوات الحرب الأهليّة عندما شغل منصب وزير الداخليّة في مطلع الحرب. وبدأ الكلام غير الهامس عن فساد شمعون إثر الزلزال المُدمِّر في عام 1956. يقول صائب إنه قيل آنذاك بأن شمعون كان يحوِّل إلى حسابه الخاص ما كان يرد الدولة من تبرّعات لإغاثة المنكوبين. ويعترف صائب بأن شمعون قدّم له شيكاً خاصاً كي يقوم بما كان يقوم به شمعون لكن صائب سأله عن السبب فما كان من شمعون إلا أن أشار إليه بتأجيل الحديث إلى ما بعد جلسة مجلس الوزراء، لكن صائب رفض تلقي الشيك الذي اشتمّ فيه رائحة رشوة من شمعون له (ص. 273، ج 1). وفي موضوع ردم البحر آنذاك كان شمعون يحاول تمرير المشروع في مجلس الوزراء بالرغم من معارضة له من قبل صائب وآخرين. ويقول صائب: «وحاول شمعون في تلك القضيّة شراء سكوتي وموافقتي على ردم البحر بمبلغ مليوني ليرة، وذلك خلال احتدام النقاش في جلسة لمجلس الوزراء. وإذ كنتُ أجلس إلى جانبه، همس في أذني قائلاً: أحد أصحابك مستعد لدفع مليوني ليرة لتمرير هذا المشروع». وينسبُ صائب فضل رفض المشروع إلى نفسه (وردم البحر تحقّق في سنوات الحرب الأهليّة والإعمار).
هناك الكثير في المذكّرات عن علاقة صائب بالنظام الناصري وعن صداقته مع شخصيّات في الثورة المصريّة. وللإنصاف، فإن صائب خلال الحقبة الناصريّة—بالرغم من التصاقه بالسياسة السعوديّة على مستوى الإقليم وفي لبنان—كان ثابتاً في الإشادة بعبد الناصر بالرغم من اصطدامه مع سفيره في بيروت، عبد الحميد غالب. وكان صائب—مثله مثل المرشحين لرئاسة الحكومة في لبنان—يطيرون في اللحظة المناسبة إلى القاهرة لأخذ صورة مع عبد الناصر، وهناك صورة لعبد الناصر مع صائب وتمام الشاب (لم يكن صائب وحيداً في اصطحاب ابنه لأخذ صورة مع عبد الناصر وقد فعل ذلك كمال جنبلاط وغيره من زعماء لبنان). يقول صائب إن عبد الناصر كان «من أعظم رجال العصر، ولا يمكن إنكار مآثره». وحافظ صائب على علاقة مع المتمرّد صلاح سالم لكنه كان يعترف أمامه بأنه يؤيّد عبد الناصر «بصورة كاملة» (ص. 279، ج 1). وسلام على حق في أن الضباط الأحرار ابتعدوا أو أُبعدوا عن عبد الناصر عبر السنوات وهذا أثّر على استقرار النظام وأضعف من سلطة عبد الناصر. قد يكون ذلك وراء اختيار عبد الناصر للسادات نائباً له وهو الذي والاه من دون اعتراض أو خلاف. يقول صائب عن السادات إنه عرف كيف «ينظّم علاقاته مع رئيسه بمهارة الفلاح الماكر» (ص. 279، ج 1–عبارة «الفلاح الماكر» فيها تحقير للفلاحين). وصائب محق أن عبد الحكيم عامر هو وحده الذي عرف السلطة أيام عبد الناصر، والكتب التي تصدر حديثاً عن الثورة المصريّة تؤكّد مدى ضعف سلطة عبد الناصر، في الجيش وقوى الأمن قبل هزيمة 1967.
يرد في الكتاب اسم إبراهيم قليلات، زعيم ميليشيا «المرابطون» الذي لعب دوراً هاماً في بيروت الغربيّة خلال الحرب. وهو كان ظاهرة مدعومة ومموّلة من النظام الليبي ومن حركة «فتح» أيضاً. كان العداء بين قليلات وسلام قويّاً وهو هجاه في الكتاب في الحقبة التي غطّت الحرب الأهليّة. لكن يعترف صائب في الكتاب أنه مسؤول عن خلق ظاهرة قليلات، وهي ظاهرة غير صحيّة في تاريخ الحركة الوطنيّة اللبنانية. وقد رافق مسيرة قليلات الكثير من الفساد، وحتى من الإجرام، ويقول صائب إنه صار من أصحاب الملايين «ويسكن في أوروبا متنقلاً بين مدنها ومنزله في إيطاليا قرب بحيرة "كومو"» (ص. 285، ج 1). ويوضّح صائب أن الصورة الشهيرة (والوحيدة) التي جمعت بين قليلات وعبد الناصر كانت بفضله وأنه كان واقفاً مع عبد الناصر في تلك الصورة، لكنّ قليلات عندما جعل من الصورة ملصقاً شهيراً اقتطع منها صورة صائب. يقول صائب إنه عرفَ قليلات عندما كان الأخير فتى يافعاً وإنه كان يكنّ له الإعجاب ويتودّد له وأصبح «من المقرّبين» لسلام. ويقول صائب إن زعامة الطريق الجديدة كانت معقودة لمحمود الدنا، لكن صائب أبعده بعد أن تقرّب الأوّل من فوزي الحصّ (الذي ناله الكثير من التشنيع في المذكّرات) ومن شمعون. ويقول صائب إن الضغط الشعبي عليه جعله (أي محمود الدنا) يضطرّ لمغادرة الطريق الجديدة واللجوء «إلى مصر لبضع سنوات». لكنّ الرواية لا تستقيم هنا: الرجل كان شمعونيّاً ثم اضطرّ تحت الضغط الشعبي أن يغادر طريق الجديدة فلم يجد من بلد يلجأ إليه إلا مصر التي كانت عاصمة معاداة الشمعونيّة؟ كيف هذه؟ وهذه—أي اختيار صائب لقليلات ودعمه—تتكرّر كثيراً في الكتاب: صائب ينسب فضل اختيار رجل أو وزير أو رئيس ثم يذمّه ويحمّله المسؤوليّة عن جرائم وآثام وفساد. لكن لماذا تختار هؤلاء الرجال، يا صائب؟
ملاحظة. ذكّرني المؤرّخ الفرنسي المختصّ في الشأن اللبناني، ستيفان مالزاغن، في الحديث عن سيَر رؤساء الحكومة في لبنان أن هناك سيرة للحاج حسين العويني. وكانت ابنة العويني، ندى، قد كلّفت روجيه جهشان، بكتابة «حسين العويني: خمسون عاماً من تاريخ لبنان والشرق الأوسط، 1920-1970» والذي صدر بالفرنسيّة في أوائل السبعينيّات، والسيرة هاغيوغرافيّة الطابع.
ملاحظة ثانية: أخطأتُ في حلقة سابقة عندما لم أعارض صائب عندما زعمَ أن انتخابات 1972 شهدت أول ترشيح لشيوعي فيما يظهر في مقالة نهاد حشيشو قبل أيّام في «الأخبار» (بعنوان «التدرّج التاريخي لهزائم اليسار اللبناني: الحزب الشيوعي… «القاطرة» نموذجاً») أن الشيوعيّين ترشّحوا في الانتخابات على مرّ عقود قبل انتخابات حكومة الشباب في عام 1972.
(يتبع)
ختمتُ مقالة العدد الماضي بالحديث عن زيارة صائب للسعوديّة ولقائه بالملك عبد العزيز الذي عبّر عن إيمانه بضرورة منع الإعلام في بلاده: المفارقة أن بلاده اليوم وحكومة الإمارات القمعيّة باتتا تمنحان جوائز الصحافة العربيّة كأنهما تصلحان لإصدار أحكام في المهنة. ويذكرُ صائب أنه «قبل مغادرتنا الرياض، قدّموا لنا هدايا ملكيّة، هي عبارة عن ساعات مرصّعة بالأحجار، لي ولكلّ عضو في الوفد، مع سجادتيْن وعباءة، إضافة إلى عدّة حقائب تحوي أقمشة حرير وعباءات» (ص. 241، ج 1). قد نسجّل بدء علاقة صائب الرسميّة مع المملكة في تلك الزيارة. لكنه يعترف أن الطيّارة الخاصّة التي أمدّ بها الملك الوفدَ اللبناني كانت «أقلّ مستوى» من الطائرة اللبنانيّة التي أقلّتهم إلى الرياض.
وصائب لا ينسجم في مواقفه من الأشخاص في المذكّرات. بعدما كان قد كالَ شتّى التهم ورمى رياض الصلح بأقذع العبارات والأوصاف، يعود ليرثيه ويشيد بـ«دهاء رياض الصلح» (ص. 229، ج 1) بعد أن كان قد سخر من صفة دهائه التي لم يستحقّها (ص. 141، ج 1). ويشكو، في ما سبق المرثيّة، من تطبيل الإعلام الفاسد للصلح. أمّا في رثائه، فيقول إن اغتياله «آلمني كثيراً» وإنه بكى «بكاءً مرّاً» ويزعم أن العلاقة بينهما كانت «على خير ما يرام» عند وفاته. وكان صائب يريد، صراحة، أن يحضرَ مأتم الصلح وأن يشارك في تكريمه لكنّ طبيبه الخاص أصرّ على ضرورة خلوده «للراحة التامّة» بعد وعكة صحيّة ألمّت به نتيجة الإرهاق «الشديد».
ويتحدّث صائب عن زيارة له لإيران في عام 1953، ويرسم لنا صورة غير معروفة عن محمد مصدّق، الذي أقصته المخابرات الأميركيّة عن الحكم في نفس العام من أجل الحفاظ على نظام الشاه. يقول سلام إنه قصد قصراً يقطن فيه مصدّق لكن بعد طول انتظار اصطحبهم ابن مصدّق إلى غرفة صغيرة متواضعة «تحتوي على سرير حديدي صغير وبضعة مقاعد، وكان قد انتزع ملابسه المدنيّة وارتدى ثياب النوم» (ص. 244، ج 1). ويقول صائب إن المشهد، خصوصاً بعد إدخال المصوّرين إلى الغرفة في القصر، كان تمثيليّة صمّمها مصدّق كي يضفي صفة التواضع والزهد على شخصه وحكمه آنذاك. والذي يرى الصورة الفوتوغرافية التي تجمع بين مصدّق وسلام لا يستطيع إلا أن يوافق صائب على صفة المشهديّة المصطنعة.
وبعد خلاف مستحكم مع كميل شمعون، يؤلّف صائب الحكومة في عام 1953. ويذكر صائب أنها كانت تضمّ بين الوزراء محي الدين نصولي، الذي كان خصماً له ولأبيه لكنه—بصفته رئيساً للحكومة تلك—يرفض تحمّل مسؤوليّة تسمية أعضائها، بمن فيهم النصولي ويلقي باللائمة على أخيه محمد إذ يقول: «أما محي الدين نصولي فيعود أمر توزيره إلى شقيقي محمد على الرغم من أنه كان خصماً علنياً لي، وهو صاحب جريدة "بيروت"، أهم صحف بيروت العاصمة آنذاك، كما كان يتجنّى على والدي من قبل بقباحة غير مقبولة» (ص. 246، ج 1). لكن ما شأن أخيه محمد في تعيين الوزراء، وإذا كان محي الدين النصولي على هذه الدرجة من القباحة فلماذا قبلَ صائب بتوزيره، وهو كان قد ذمّه من قبل؟ لكن هو يعترف أنه هو وزّره إذ يقول: «ورغم توزيري إياه وإعطائه حقيبتي العدل والإعلام». أي أنه وزّره وقبل بمنحه وزارتيْن أساسيّتيْن (في حينه على الأقلّ إذ إن الوزارات باتت تُصنّف اليوم بناءً على قدرة الوزير على السرقة من مغانمها وجرّ مشاريعها إلى عائلته). (لا ينصفُ صائب شقيقه محمد إلا في جملة واحدة في الأجزاء الثلاثة في الكتاب عندما يعترف بأن محمد بذل «الجهد والتعب لتسيير شؤون جمعيّة المقاصد والسعي لتطويرها»، ص. 213، ج 1).
ويقول صائب إن الملك سعود ارتأى أن يخلف هو الحاج حسين العويني في منصب مُوزّع المكافآت (الرشاوى) السعوديّة الماليّة في لبنان، إذ يقول: «أرسل لي (أي سعود) سفيره في سوريا… عارضاً عليّ رغبة الملك في أن أتولّى مهمّة المكافآت التي تُصرف على الصحافيّين وغيرهم، والتي كان مكلّفاً بها حسين العويني» (هناك مقالة بالإنكليزيّة لفواز طرابلسي عن حسين العويني، راجع فواز طرابلسي، «التوسّع السعودي: الصلة اللبنانيّة، 1924-1952»، في مضاوي الرشيد، تحرير، «مملكة من دون حدود: الآفاق السعوديّة السياسية والدينيّة والإعلاميّة». وعقد طرابلسي المقارنة بين العويني وبين رفيق الحريري في جلسة في المؤتمر الذي حضرناه في لندن قبل سنوات، والذي تحوّلت أوراقه إلى فصول الكتاب). لكنّ صائب اعتذر عن المهمة ويقول، بشيء من الخبث، إنه أحال السفير على نقيب الصحافة، عفيف الطيبي (ص. 248)، ولم يكن الطيبي معروفاً بنزاهته أو بتعفّفه عن تمويل السفارات.
يروي صائب أن عبد الناصر أخبر عبدالله اليافي (وكان الأوّل وزيراً في حكومة الثاني في عام 1956) «نحن نراقب بسعادة ودقّة تصرّفات صائب سلام» (ص. 270، ج 1). وهنا يصبح سلام معتداً بأقوال اليافي الذي يقوله إنه كان يدافع عن حكومته لأنه كان يضطرب عندما تتعرّض الحكومة لهجومات في المجلس. لكن مديح عبد الناصر لم يكن عابراً، كما يكتشف صائب. يضيف صائب أن حملته ضد شركات البترول (أي حملة؟) ألهمت عبد الناصر وأنه «راقب المعركة ليستفيد من تطوّراتها ومن ردود الفعل عليها في معركته المقبلة مع إنكلترا» (ص. 270، ج 1). لكن لا يذكر أيّ من مراجع الثورة المصريّة أو الدراسات عن الظاهرة الناصريّة أو أي من الكتب عن معركة السويس أن صائب سلام، الزعيم البيروتي، ألهمَ عبد الناصر في معركته ضد تحالف ثلاثي جهنّمي. ويقول صائب إن شركات النفط تجنّدت للعمل ضدّه وإنها أغدقت المال على أصحاب الصحف للهجوم على صائب. ويقول إن جريدة «الحياة» أفردت صفحتيْن كاملتيْن لنقل وجهة نظر شركة «إي.بي.سي» البريطانيّة. وحاول مدير الشركة المذكورة رشوة صائب سلام لكنه في الاجتماع معه أفهمه أن «أسلوبه في شراء الضمائر لا يجديه نفعاً مع صائب سلام» لكنه يضيف بلطف أنه سعى «إلى الاتفاق الودّي دون التورّط في أي مشاكل» (ص. 271، ج 1). لكن كيف تقول إنك ألهمتَ عبد الناصر؟ عبد الناصر لم يكن يريد التورّط في أي مشاكل وهو الذي تصدّى لعدوان ثلاثي بسبب تأميم القناة؟ أين معركتك في بيروت—مهما كانت شرسة—من معركة عبد الناصر ضد العالم الغربي وإسرائيل وأنظمة الخليج؟
ويحدّثنا صائب عن لقاء غير معروف له مع أنطون سعادة، ووجده «مثقّفاً ومتزناً وواعياً» (ص. 215، ج 1). ويقول إن سعادة نصح محازبيه بتأييد صائب في انتخابات 1947 ولاقى ذلك التقدير والاستحسان من قبل سلام. واعتبر سلام أن إعدام سعادة، والطريقة التي تمّ بها الإعدام، كانا «جريمة كبرى». ويختلف صائب مع رياض الصلح في النظرة إلى الحزب القومي، ويقول إن الصلح طلب منه اتخاذ موقف عدائي نحوه (يظنّ البعض أن عداء الحزب القومي للصلح كان من جانب واحد فقط). ويروي صائب كيف أن الصلح اعترض عندما عيّن صائب رجلاً محاسباً ذا كفاءة في شركة «طيران الشرق الأوسط» وأرسل إلى صائب قائلاً: «كيف توظّفه في الشركة وهو قومي»؟ وأجابه صائب أن الانتماء الحزبي لا يلغي الكفاءة.
من فوائد هذه المذكّرات أنها تميط اللثام عن الكثير من رؤساء لبنان، خصوصاً فؤاد شهاب وكميل شمعون، لأن هناك هالة أحيطت بهما عبر السنوات، وبجهد من أجهزة دعاية
وصائب، في حديثه عن السعوديّة في مذكّراته، هو غير صائب رجل السياسة الذي عاصرناه على مدى عقود طويلة: هو—كما قيل عن سعاد حسني عندما غنّت ورقصت للمرّة الأولى في فيلم «خلّي بالك من زوزو»—صائب كما لم نرَه من قبل. يتحدّث عن أمراء وملوك آل سعود من دون تملّق أو تبجيل أو تفخيم أو تقدير، لا بل هو يتحدّث بصراحة عن وعود منكوثة ومقاصد خبيثة ومراوغة وعن تقتير وأساليب غير محترمة في التعاطي. وفي سياق ما يصفه صائب بصراعه مع شركات النفط التي اشترت رجال سياسة وصحافة في لبنان، يزور صائب في عام 1956 المملكة السعوديّة للقاء الملك سعود وباقي الأمراء. وأعدَّ صائب لهم خطّة بتروليّة تفصيليّة للموافقة عليها (لكنه لم يشرح لنا عن مضمون الخطة) وطلب موافقة خطيّة من الملك لتلي موافقته الشفهيّة. وأولمَ عدد من أمراء آل سعود النافذين لصائب (لكنه لم يذكر في هذه الزيارة أخباراً عن أحجار كريمة وأقمشة نفيسة وسجّاد فاخر) وكان هناك عشاء وداعيّ عند الأمير فهد في «قصر العزيزيّة». لكنّ صائب يُفاجأ بعد أيّام فقط من عودته إلى بيروت أن السعوديّة تعارض مشروعه رسميّاً (ص. 272، ج 1). ويقول صائب: «ولم يكن تغيير الموقف السعودي ليكون لولا تدخّل الأميركان في هذا الموضوع». لم يكن ممكناً أن يتهم صائب في حياته السياسية وفي العلن النظام السعودي بتغيير موقفه تماشياً مع أوامر أميركيّة. لكن هذا صائب المذكّرات، وليس صائب رجل السياسة العلني. ويقول صائب إن شمعون، الذي كان حُكماً مؤيّداً لشركة «إي.بي.سي» البريطانية، اغتبط من المعارضة السعوديّة لمشروع صائب. ويقول صائب إن اليافي لم يكن يُؤازره في جلسات مجلس الوزراء بل كان يتركه وحيداً ليواجه شمعون. هنا يتحدّث صائب عن موضوع معروف لكن غير متداول في صحافة «الزمن الجميل» (المتخيّل) حيث رسمت جريدة «النهار» صورة ورديّة عن لبنان ما قبل الحرب، خصوصاً في عصر كميل شمعون الذي وُصف بعهد الازدهار، كأن تدفّق أموال التأميمات إلى لبنان كان نتيجة سياسات أو لمسة خاصة لشمعون. الموضوع هنا هو عن الفساد الشخصي لكميل شمعون. ومن فوائد هذه المذكرات أن صائب يميط اللثام عن الكثير من رؤساء لبنان، خصوصاً فؤاد شهاب وكميل شمعون، لأن هناك هالة أحيطت بهما عبر السنوات، وبجهد من أجهزة دعاية ناشطة. لا يزال بعض الشباب اللبناني يتحدّث عن مجد عهد شمعون، فيما كان الرجل مُشعلاً للحرب الأهليّة (مرتيْن) لمآرب شخصية وتعصّب طائفي وهو الذي تورّط في صفقات فساد في الرئاسة وبعدها مروراً بسنوات الحرب الأهليّة عندما شغل منصب وزير الداخليّة في مطلع الحرب. وبدأ الكلام غير الهامس عن فساد شمعون إثر الزلزال المُدمِّر في عام 1956. يقول صائب إنه قيل آنذاك بأن شمعون كان يحوِّل إلى حسابه الخاص ما كان يرد الدولة من تبرّعات لإغاثة المنكوبين. ويعترف صائب بأن شمعون قدّم له شيكاً خاصاً كي يقوم بما كان يقوم به شمعون لكن صائب سأله عن السبب فما كان من شمعون إلا أن أشار إليه بتأجيل الحديث إلى ما بعد جلسة مجلس الوزراء، لكن صائب رفض تلقي الشيك الذي اشتمّ فيه رائحة رشوة من شمعون له (ص. 273، ج 1). وفي موضوع ردم البحر آنذاك كان شمعون يحاول تمرير المشروع في مجلس الوزراء بالرغم من معارضة له من قبل صائب وآخرين. ويقول صائب: «وحاول شمعون في تلك القضيّة شراء سكوتي وموافقتي على ردم البحر بمبلغ مليوني ليرة، وذلك خلال احتدام النقاش في جلسة لمجلس الوزراء. وإذ كنتُ أجلس إلى جانبه، همس في أذني قائلاً: أحد أصحابك مستعد لدفع مليوني ليرة لتمرير هذا المشروع». وينسبُ صائب فضل رفض المشروع إلى نفسه (وردم البحر تحقّق في سنوات الحرب الأهليّة والإعمار).
هناك الكثير في المذكّرات عن علاقة صائب بالنظام الناصري وعن صداقته مع شخصيّات في الثورة المصريّة. وللإنصاف، فإن صائب خلال الحقبة الناصريّة—بالرغم من التصاقه بالسياسة السعوديّة على مستوى الإقليم وفي لبنان—كان ثابتاً في الإشادة بعبد الناصر بالرغم من اصطدامه مع سفيره في بيروت، عبد الحميد غالب. وكان صائب—مثله مثل المرشحين لرئاسة الحكومة في لبنان—يطيرون في اللحظة المناسبة إلى القاهرة لأخذ صورة مع عبد الناصر، وهناك صورة لعبد الناصر مع صائب وتمام الشاب (لم يكن صائب وحيداً في اصطحاب ابنه لأخذ صورة مع عبد الناصر وقد فعل ذلك كمال جنبلاط وغيره من زعماء لبنان). يقول صائب إن عبد الناصر كان «من أعظم رجال العصر، ولا يمكن إنكار مآثره». وحافظ صائب على علاقة مع المتمرّد صلاح سالم لكنه كان يعترف أمامه بأنه يؤيّد عبد الناصر «بصورة كاملة» (ص. 279، ج 1). وسلام على حق في أن الضباط الأحرار ابتعدوا أو أُبعدوا عن عبد الناصر عبر السنوات وهذا أثّر على استقرار النظام وأضعف من سلطة عبد الناصر. قد يكون ذلك وراء اختيار عبد الناصر للسادات نائباً له وهو الذي والاه من دون اعتراض أو خلاف. يقول صائب عن السادات إنه عرف كيف «ينظّم علاقاته مع رئيسه بمهارة الفلاح الماكر» (ص. 279، ج 1–عبارة «الفلاح الماكر» فيها تحقير للفلاحين). وصائب محق أن عبد الحكيم عامر هو وحده الذي عرف السلطة أيام عبد الناصر، والكتب التي تصدر حديثاً عن الثورة المصريّة تؤكّد مدى ضعف سلطة عبد الناصر، في الجيش وقوى الأمن قبل هزيمة 1967.
يرد في الكتاب اسم إبراهيم قليلات، زعيم ميليشيا «المرابطون» الذي لعب دوراً هاماً في بيروت الغربيّة خلال الحرب. وهو كان ظاهرة مدعومة ومموّلة من النظام الليبي ومن حركة «فتح» أيضاً. كان العداء بين قليلات وسلام قويّاً وهو هجاه في الكتاب في الحقبة التي غطّت الحرب الأهليّة. لكن يعترف صائب في الكتاب أنه مسؤول عن خلق ظاهرة قليلات، وهي ظاهرة غير صحيّة في تاريخ الحركة الوطنيّة اللبنانية. وقد رافق مسيرة قليلات الكثير من الفساد، وحتى من الإجرام، ويقول صائب إنه صار من أصحاب الملايين «ويسكن في أوروبا متنقلاً بين مدنها ومنزله في إيطاليا قرب بحيرة "كومو"» (ص. 285، ج 1). ويوضّح صائب أن الصورة الشهيرة (والوحيدة) التي جمعت بين قليلات وعبد الناصر كانت بفضله وأنه كان واقفاً مع عبد الناصر في تلك الصورة، لكنّ قليلات عندما جعل من الصورة ملصقاً شهيراً اقتطع منها صورة صائب. يقول صائب إنه عرفَ قليلات عندما كان الأخير فتى يافعاً وإنه كان يكنّ له الإعجاب ويتودّد له وأصبح «من المقرّبين» لسلام. ويقول صائب إن زعامة الطريق الجديدة كانت معقودة لمحمود الدنا، لكن صائب أبعده بعد أن تقرّب الأوّل من فوزي الحصّ (الذي ناله الكثير من التشنيع في المذكّرات) ومن شمعون. ويقول صائب إن الضغط الشعبي عليه جعله (أي محمود الدنا) يضطرّ لمغادرة الطريق الجديدة واللجوء «إلى مصر لبضع سنوات». لكنّ الرواية لا تستقيم هنا: الرجل كان شمعونيّاً ثم اضطرّ تحت الضغط الشعبي أن يغادر طريق الجديدة فلم يجد من بلد يلجأ إليه إلا مصر التي كانت عاصمة معاداة الشمعونيّة؟ كيف هذه؟ وهذه—أي اختيار صائب لقليلات ودعمه—تتكرّر كثيراً في الكتاب: صائب ينسب فضل اختيار رجل أو وزير أو رئيس ثم يذمّه ويحمّله المسؤوليّة عن جرائم وآثام وفساد. لكن لماذا تختار هؤلاء الرجال، يا صائب؟
ملاحظة. ذكّرني المؤرّخ الفرنسي المختصّ في الشأن اللبناني، ستيفان مالزاغن، في الحديث عن سيَر رؤساء الحكومة في لبنان أن هناك سيرة للحاج حسين العويني. وكانت ابنة العويني، ندى، قد كلّفت روجيه جهشان، بكتابة «حسين العويني: خمسون عاماً من تاريخ لبنان والشرق الأوسط، 1920-1970» والذي صدر بالفرنسيّة في أوائل السبعينيّات، والسيرة هاغيوغرافيّة الطابع.
ملاحظة ثانية: أخطأتُ في حلقة سابقة عندما لم أعارض صائب عندما زعمَ أن انتخابات 1972 شهدت أول ترشيح لشيوعي فيما يظهر في مقالة نهاد حشيشو قبل أيّام في «الأخبار» (بعنوان «التدرّج التاريخي لهزائم اليسار اللبناني: الحزب الشيوعي… «القاطرة» نموذجاً») أن الشيوعيّين ترشّحوا في الانتخابات على مرّ عقود قبل انتخابات حكومة الشباب في عام 1972.
(يتبع)
نيسان ـ نشر في 2022/12/13 الساعة 00:00