نظرية البليلا والوطن
نيسان ـ نشر في 2023/01/22 الساعة 00:00
كان حريّاً بصاحب نظرية "الأمن الناعم" أن يكون ناعماً، وهو يتحدّث بسخرية عن "معارضة الخارج"، غير أنه آثر أن يُسخّفها، ظنّاً منه أنه بمثل هذه السخرية يسجّل هدفاً في شباكها، مستخدماً نظرية جديدة عن عربة "بليلا"، يمكنها أن تصبح وطناً إذا عاثت فيها معارضة الخارج فساداً.
أتحدث هنا عن مسؤول أردني سابق أجرت معه قناة فضائية محلية حواراً عن هموم وطنية عديدة، ووردت سخريته عندما سأله المحاور عن مدى خشية الحكومة من "معارضة الخارج"، التي اعتادت الطرح الجريء.
وكانت نظرية "الأمن الناعم" من بنات أفكار صاحبنا، عندما شغل منصبه السابق، ويقصد بها طريقة تعامله مع تظاهرات المعارضة التي كانت تندلع بين حين وآخر، احتجاجاً على قرارات حكومية عديدة، أبرزها الغلاء. وتمثلت "النعومة" بتجنّب فضّ التظاهرات بالقوة، وحراستها أحياناً، وتقديم الماء والعصائر للمتظاهرين، في رسالةٍ مبطّنة قوامها أن الدولة تحمي المعارضة، وتسمح لها بالتعبير عن آرائها بلا مضايقات.
للإنصاف، استهوت هذه النظرية أوساط المعارضة، وقوبلت بامتنانٍ كبير، خصوصاً أنها المرّة الأولى التي يشعر فيها المتظاهرون بالأمن وحرية التعبير، غير أن "الجمعة المشمشية" لم تدُم طويلاً، إذ عاد الأمن إلى خشونته الأولى، لاحقاً. آنذاك لم تكن المعارضة تدرك أن جمعتها المشمشية كانت وليدة ظرف إقليميّ تزامن مع سيل الربيع العربي نفسه، الذي كان جارفاً في بدايته، بفضل الجرأة التي تحلّى بها المتظاهرون الشباب، ما يعني أن أيّ محاولةٍ لصدّ السيل بالقوة والعنف ستكون معركة خاسرة، وتكلفتها قد تؤدّي إلى دمار أوطانٍ برمّتها، كما حدث في سورية، فاضطرّت أجهزة الأمن في دولٍ أزيد حكمة من غيرها إلى امتصاص السيل الجارف بتقديم بعض التنازلات في ما يخص التظاهرات والحرّيات، لكن ضمن حدود المثل "لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم"، ومنها بالطبع جهاز الأمن الأردني بقيادته الجديدة آنذاك، ونظريتها "الناعمة".
وكنّا نأمل، بعد تقاعد صاحبنا، أن يظلّ محافظاً على مرحلته الوردية التي تركها في الذهن الشعبي، فلا يقحم نفسه في نظرياتٍ مضادّة، على غرار تسخيفه معارضات الخارج، عندما قلّل من أثرها على الداخل، واستخدم في ذلك وصفاً يجعل من الوطن "دكّاناً" و"عربة بليلا" لو كان لتلك المعارضة تأثيرٌ بالداخل.
والحال أن تسخيف المعارضة نهج حكومي أردني غير معلن، منذ مرحلة الانفراج الديمقراطي نهاية الثمانينيات، عبر تهميشها، وتقليم أظفارها، وجعلها ديكوراً لمخاطبة الخارج ليس إلا. وربما لهذا السبب، ازدادت أعداد معارضي الخارج من الذين استهوتهم فكرة "الردّ بالمثل"، ما داموا محسوبين على "الديكور".
وبالنسبة إلى صاحبنا، لم يكن يدرك أن سخريته الموجهة إلى المعارضة، سترتدّ بمثلها وأزيد سخرية من الحكومة ذاتها، لأن المنطق يقول إن ضعف المعارضة أو عدم وجودها أصلاً، هو فضيحة الأنظمة ذاتها، وليس فضيحة المعارضة، فالدولة لا يكتمل نموّها بغير المعارضة الحقيقية القوية، القادرة على التأثير العميق، وإلا فسيكون نظامها السياسي أشبه بالطفل الخداج، الذي ينقصه كثير من الأكسجين والعناية المركزة، وإنْ قيّض له النجاة، فسيغدو طفلاً مشوّهاً، مصاباً بقصورٍ عقليّ على الأرجح.
كما فات صاحبنا أن المعارضة لا تقتصر على من يجهر برأيه، بل تشمل الأغلبية الصامتة، التي تعبّر عن نفسها أحياناً بإحصاءات وأرقام، على غرار استطلاعٍ نشر أخيراً، وأظهر أن الأردن يأتي أولاً بين الدول العربية، بنسبة الراغبين في الهجرة. فالمهاجر معارض، والفقير معارض، والعاطل من العمل معارض، والجائع معارض. وكان على صاحبنا أن يسأل نفسه قبل السخرية: لماذا لجأت المعارضة الخارجية إلى المنفى، أصلاً؟ بمعنى، هل كانت ستفعل ذلك لو وجدت في بلدها فضاءً رحباً لتوجيه النقد، ولا سيما في ظل ما يحدث لمعارضين آخرين، يُعتقلون ويمنعون من السفر.
عموماً، لست في معرض الجدال حول المحتوى الذي يقدّمه معارضو الخارج، فذلك يحتمل الأخذ والرد، غير أن الجدل لا ينتقص من حقهم وحقّ غيرهم بطرح أفكارهم، ولا تجوز السخرية منهم، بل كان حريّاً دعوتهم للعودة إلى أوطانهم والجهر بآرائهم في ميادينها وشوارعها ووسائل إعلامها الرسمية، ليكتمل الجنين السياسي في رحم الوطن. وبغير ذلك، سيكون الوطن عربة بليلا، فعلاً، ولكن بلا زبائن.
أتحدث هنا عن مسؤول أردني سابق أجرت معه قناة فضائية محلية حواراً عن هموم وطنية عديدة، ووردت سخريته عندما سأله المحاور عن مدى خشية الحكومة من "معارضة الخارج"، التي اعتادت الطرح الجريء.
وكانت نظرية "الأمن الناعم" من بنات أفكار صاحبنا، عندما شغل منصبه السابق، ويقصد بها طريقة تعامله مع تظاهرات المعارضة التي كانت تندلع بين حين وآخر، احتجاجاً على قرارات حكومية عديدة، أبرزها الغلاء. وتمثلت "النعومة" بتجنّب فضّ التظاهرات بالقوة، وحراستها أحياناً، وتقديم الماء والعصائر للمتظاهرين، في رسالةٍ مبطّنة قوامها أن الدولة تحمي المعارضة، وتسمح لها بالتعبير عن آرائها بلا مضايقات.
للإنصاف، استهوت هذه النظرية أوساط المعارضة، وقوبلت بامتنانٍ كبير، خصوصاً أنها المرّة الأولى التي يشعر فيها المتظاهرون بالأمن وحرية التعبير، غير أن "الجمعة المشمشية" لم تدُم طويلاً، إذ عاد الأمن إلى خشونته الأولى، لاحقاً. آنذاك لم تكن المعارضة تدرك أن جمعتها المشمشية كانت وليدة ظرف إقليميّ تزامن مع سيل الربيع العربي نفسه، الذي كان جارفاً في بدايته، بفضل الجرأة التي تحلّى بها المتظاهرون الشباب، ما يعني أن أيّ محاولةٍ لصدّ السيل بالقوة والعنف ستكون معركة خاسرة، وتكلفتها قد تؤدّي إلى دمار أوطانٍ برمّتها، كما حدث في سورية، فاضطرّت أجهزة الأمن في دولٍ أزيد حكمة من غيرها إلى امتصاص السيل الجارف بتقديم بعض التنازلات في ما يخص التظاهرات والحرّيات، لكن ضمن حدود المثل "لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم"، ومنها بالطبع جهاز الأمن الأردني بقيادته الجديدة آنذاك، ونظريتها "الناعمة".
وكنّا نأمل، بعد تقاعد صاحبنا، أن يظلّ محافظاً على مرحلته الوردية التي تركها في الذهن الشعبي، فلا يقحم نفسه في نظرياتٍ مضادّة، على غرار تسخيفه معارضات الخارج، عندما قلّل من أثرها على الداخل، واستخدم في ذلك وصفاً يجعل من الوطن "دكّاناً" و"عربة بليلا" لو كان لتلك المعارضة تأثيرٌ بالداخل.
والحال أن تسخيف المعارضة نهج حكومي أردني غير معلن، منذ مرحلة الانفراج الديمقراطي نهاية الثمانينيات، عبر تهميشها، وتقليم أظفارها، وجعلها ديكوراً لمخاطبة الخارج ليس إلا. وربما لهذا السبب، ازدادت أعداد معارضي الخارج من الذين استهوتهم فكرة "الردّ بالمثل"، ما داموا محسوبين على "الديكور".
وبالنسبة إلى صاحبنا، لم يكن يدرك أن سخريته الموجهة إلى المعارضة، سترتدّ بمثلها وأزيد سخرية من الحكومة ذاتها، لأن المنطق يقول إن ضعف المعارضة أو عدم وجودها أصلاً، هو فضيحة الأنظمة ذاتها، وليس فضيحة المعارضة، فالدولة لا يكتمل نموّها بغير المعارضة الحقيقية القوية، القادرة على التأثير العميق، وإلا فسيكون نظامها السياسي أشبه بالطفل الخداج، الذي ينقصه كثير من الأكسجين والعناية المركزة، وإنْ قيّض له النجاة، فسيغدو طفلاً مشوّهاً، مصاباً بقصورٍ عقليّ على الأرجح.
كما فات صاحبنا أن المعارضة لا تقتصر على من يجهر برأيه، بل تشمل الأغلبية الصامتة، التي تعبّر عن نفسها أحياناً بإحصاءات وأرقام، على غرار استطلاعٍ نشر أخيراً، وأظهر أن الأردن يأتي أولاً بين الدول العربية، بنسبة الراغبين في الهجرة. فالمهاجر معارض، والفقير معارض، والعاطل من العمل معارض، والجائع معارض. وكان على صاحبنا أن يسأل نفسه قبل السخرية: لماذا لجأت المعارضة الخارجية إلى المنفى، أصلاً؟ بمعنى، هل كانت ستفعل ذلك لو وجدت في بلدها فضاءً رحباً لتوجيه النقد، ولا سيما في ظل ما يحدث لمعارضين آخرين، يُعتقلون ويمنعون من السفر.
عموماً، لست في معرض الجدال حول المحتوى الذي يقدّمه معارضو الخارج، فذلك يحتمل الأخذ والرد، غير أن الجدل لا ينتقص من حقهم وحقّ غيرهم بطرح أفكارهم، ولا تجوز السخرية منهم، بل كان حريّاً دعوتهم للعودة إلى أوطانهم والجهر بآرائهم في ميادينها وشوارعها ووسائل إعلامها الرسمية، ليكتمل الجنين السياسي في رحم الوطن. وبغير ذلك، سيكون الوطن عربة بليلا، فعلاً، ولكن بلا زبائن.
نيسان ـ نشر في 2023/01/22 الساعة 00:00