هل يجب أن يخضع العقل للدين؟ هل يجب أن يخضع الدين للعقل؟
نيسان ـ نشر في 2023/03/07 الساعة 00:00
تُقدّم هذه المقالة أساساً أفكار سبينوزا وتصوّراته للعلاقة بين الدين والعلم، وهو يرى أنّ اللّاهوت ليس خادماً للعقل، والعقل ليس خادماً للّاهوت، وهو سؤال يُطرح في عالم الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام؛ هل يجب إخضاع معنى الكتاب للعقل، أم إخضاع العقل للكتاب؟ ولأجل تمام الفائدة يعرض المقال أيضاً بعض آراء وأفكار الفيلسوف البريطاني برتراند راسل حول "الدين والعلم".
يقول سبينوزا: الكتاب (التوراة) لا يُعلّم الفلسفة، بل يدعو إلى التقوى وحدها، كما بَيّنّا أنّ مضمونه كله مُهيّأ على قدر فهم العامّة وأحكامهم المُسبَقة. وإذن فمن يريد إخضاع الكتاب للفلسفة، فإنّه ينسِب بخياله إلى الأنبياء أفكاراً لم تخطُر ببالِهم حتى في الحلم، ويُسيء تأويل فكرهم، وعلى العكس من ذلك، فإنّ من يجعل العقل والفلسفة خادِمَين للّاهوت، يُضطرُّ إلى قبول الأحكام المُسبقة للعامّة في العصور الماضية على أنّها أمور إلهية، بحيث تطغى هذه الأحكام المُسبقة على ذهنه وتُعميه كليّةً.
وكما في الإسلام هناك أيضاً في اليهودية، مثل يهوذا الفخار، من يرى أنّ كلّ ما يدعو له الكتاب بطريقة قطعية، وينصّ عليه بألفاظ صريحة، يجب قَبوله على أنّه حقٌّ مطلق، اعتماداً على سلطة الكتاب وحدها. ويجب نزول العقل على حُكم الكتاب وخضوعه له كليّةً. ولا يجوز تفسير الكتاب تفسيراً مجازيّاً بدعوى أنّ المعنى الحرفي مُناقض للعقل، هذا التفسير لا يجوز إلّا حين يتناقَض هذا المعنى مع الكتاب ذاته. على سبيل المثال (كما يقول الفخار) يدعو الكتاب صراحة في سفر التثنية (١٥ :٤) إلى أنّ الله لا جسم له، ومن ثَمَّ فنحن مُلزمون، بناءً على شهادة النصِّ القاطعة، لا على شهادة العقل، بالاعتقاد بأنَّ الله لا جسم له، ومن ثمَّ فإنَّنا مُلزَمون أيضاً، بناءً على سُلطة هذا النص وحده، بأنْ نُفسِّر تفسيراً مجازياً كلّ الفقرات التي تَنسِب إلى الله يَدَين وقدَمَين… إلخ، وهي الفقرات التي يبدو أنّ أسلوبها في التعبير ينطوي على نِسبة الجسمية إلى الله.
يردّ سبينوزا على الفخّار: "وإنّي على رغبته في تفسير الكتاب بالكتاب، ولكنِّي أعجب كيف يُحاول إنسان وُهِبَ نعمة العقل أن يهدم العقل؟ صحيح أنّه يجب تفسير الكتاب بالكتاب ما دُمنا نجد صعوبة في الاهتداء إلى معنى النصوص وفِكر الأنبياء، ولكن ما إن نجد المعنى الصحيح حتى يجِب أن نَستخدِم قُدرتنا على الحُكم، وأن نُعمِل عقلنا حتى يُمكِننا الموافقة على هذا الفكر. وإنّي لأتساءل: إذا كان على العقل أن يخضع للكتاب، بالرغم من مُعارضته له، فهل ينبغي أن يقوم هذا الخضوع على العقل، أم يكون خضوعاً أعمى؟ لو كان خضوعاً أعمى، فإنَّنا نسلُك كالبُلَهاء، بلا حكمة، ولو كان خضوعاً قائماً على العقل، فإنّنا نأخُذ جانب الكتاب بناءً على أمر العقل وحده، ومِن ثَمّ فلو عارض العقل، لَما سَلَّمنا به.
وإنّي لأتساءل مرّة أخرى: كيف يقبل المرء بفِكره مُعتَقَداً يُعارِضه العقل؟ وماذا يعني رفضُ أيِّ شيءٍ بالفكر سوى أنّ العقل يُعارضه؟ لذلك فإنّي لا أستطيع أن أكتُم دهشتي البالغة عندما أجد أحداً يريد إخضاع العقل، هذه الهِبة العُليا، وهذا النور الإلهي، لحرفٍ مائتٍ استطاع الفساد الإنساني تحريفه، وعندما أجد أحداً يعتقد أنّه لا يرتكِب جرماً حين يَحُطَّ من شأن العقل، وهو الوثيقة التي تشهد بحقٍّ على كلام الله، ويتَّهِمه بالفساد والعمى والسقوط، على حين أنّه يجعل من الحرف المائت، وصورة كلام الله صنماً معبوداً، ومِن ثَمَّ يعتقد أنّ أشنع الجرائم، هو وصف هذا الحرف بالصفات السابقة.
وهكذا، يظنُّ المرء نفسه تقيّاً حين يُبدي ارتيابه في العقل والحكم السليم، ويرى أنَّ الفسوق إنّما يكمُن في إبداء أقلّ قدر مِن الشكّ فيمن نقلوا لنا الكُتب المقدّسة، ولكن ما أبعد ذلك عن التقوى! إنّه هو الخبل المَحْض! وإنّي لأتساءل: ما هذا القلق الذي استولى عليهم؟ ماذا يخافون؟ هل يلزم للدفاع عن الدين والإيمان أن يبذُل الناس جهدهم من أجل الجهل بكلّ شيء، وأن يُلغوا عقولهم نهائياً؟ الحقُّ أنَّ من يعتقد هذا الرأي يخاف من الكتاب أكثر مِمَّا يثِقُ فيه، فلنرفُض إذن على نحوٍ قاطعٍ هذه الفكرة القائلة إنَّ الدين والتقوى يُريدان أن يجعلا من العقل خادماً، أو أنّ العقل يُريد إخضاع الدين له، ولنرفُض أيضاً الفكرة القائلة إنّ العقل والإيمان لا يستطيعان العيش في سلام ووئام، كلٌّ في ميدانه الخاص. فالواجب افتراض صحَّة هذه النصوص كلها، كما يدّعي هذا الكتاب، لأنّنا لا ينبغي أن نُحكِّم العقل في مثل هذه الأمور. ومن الخطأ البَيِّن أنْ يُريد المرء إقامة سلطة الكتاب على براهين رياضية؛ ذلك لأنَّ سلطة الكتاب تتوقَّف على سُلطة الأنبياء، فلا يمكن إذن البرهنة عليها بحُجَج أقوى من تلك التي اعتاد الأنبياء استعمالها لإقناع الناس بسُلطتهم، بل إنَّ يقيننا نفسه بهذا الموضوع لا يُمكن أن يرتكز على أيّ أساس سوى هذا الذي أقام عليه الأنبياء أنفسهم يقينهم وسُلطتهم الخاصة.
ويختم سبينوزا بالقول: إنّ الكتاب يُقدِّم عزاءً كبيراً للناس، إذ يستطيع الجميع طاعته، على حين تستطيع فئة ضئيلة للغاية من البشر أن تَصِل إلى حالة الفضيلة عن طريق العقل، وعلى ذلك فلو لم تكن لدينا شهادة الكتاب، لتملَّكَنا الشكُّ في خلاص السَّواد الأعظم من الناس.
يبدو واضحاً أنّ سبينوزا، وإن كان يُقدّم مقاربة فلسفية عقلانية للعلاقة بين العلم والدين، فإنّه ينطلق في الوقت نفسه من منطلق الإيمان بالله والكتاب، أو هو يبحث عن سبيل للمؤمنين كيف يوفقون بين إيمانهم وبين العلم، دون أن يتعارض إيمانهم بالله مع العقل، وفي الوقت نفسه يظلون على التزامهم بالعقل باعتباره أداة الإنسان الأساسية للمعرفة والتمييز بين الخير والشرّ، وهو بالطبع جدل طويل لا يتوقف.
يتتبع الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتاب "الدين والعلم" الصراعات التي نشبت بين علماء اللاهوت والعلماء في القرون الـ4 الماضية، ويلاحظ أنّ النصر كان دائماً حليف العلم في كلّ مرة اختلف فيها مع اللاهوت، وقد انتصر العلم للتقدّم والتخفيف من آلام البشر، ويجد راسل أنّ الحرب بين العلم واللّاهوت كادت تنتهي، ولم يعد الدين هو الخطر على الحرّيات والتقدّم، ولكنّها الحكومات والأنظمة السياسية الاستبدادية.
لقد شُغلت الإنسانية على مدى تاريخها بالعلاقة بين الدين والعلم، وكان الجدل بين العلم والدين موضوعاً لصراعات ومحاكمات طويلة في عصر النهضة الأوروبية، وما يزال كتاب راسل "الدين والعلم" مهمّاً في فهم هذه العلاقة، حيث يقدّم راسل تحليلاً لهذا الجدل، وما يتضمنه من اختلاف واتفاق.
يتتبع الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتاب "الدين والعلم" الصراعات التي نشبت بين علماء اللاهوت والعلماء
العلم محاولة عن طريق الملاحظة وإعمال العقل -القائم على هذه الملاحظة- لاكتشاف الحقائق الخاصة بالعلم، ثم اكتشاف القوانين التي تربط الحقائق ببعضها بعضاً، وتستخدم التقنية المعرفة العلمية لتوفير الراحة ووسائل الترف التي كان يستحيل تحقيقها فيما مضى، أو كانت تحتاج إلى تكاليف باهظة. ولكنّ الدين، كما يقول راسل، ظاهرة أشدّ تعقيداً من العلم، فجميع الأديان التاريخية لها (3) وجوه: المؤسسة، والعقيدة، ونظام يحكم الأخلاق الشخصية.
التدين الشخصي البحت يمكن أن يبقى، حتى في أكثر العصور علمية، بدون أن يعكّر صفوه شيء، طالما أنّه يتجنب التورط في تأكيدات يمكن للعلم أن يدحضها، وبالنسبة إلى العالم المسيحي، كان هناك نوعان من الصراع، حين تصدى العلم لبعض المسلمات المسيحية المهمّة، أو بعض المذاهب الفلسفية الضرورية للفكر الديني، وقد استخدم توماس الإكويني العلم والمنطق لإثبات محتويات الكتاب المقدّس بالدليل العلمي، من مثل الخالق.
يأخذ العلم صدقيته من فرص تطبيقه تقنياً، فالنظريات المؤدية إلى اختراعات وتطبيقات تصدق النظريات العلمية الأخرى، وهكذا تتوقف المعرفة عن أن تكون مجرّد مرآة للكون، لتصبح أداة علمية في تناول المادة ومعالجتها.
اضطر اللّاهوت أن يؤقلم نفسه مع العلم، ولهذا بدأ تفسير نصوص الكتاب المقدّس التي لا تساير العلم على نحو رمزي، ثم قام البروتستانت بنقل مركز السلطة الدينية من الكنيسة إلى الكتاب المقدّس وحده، ثم التركيز على روح الفرد. وفي جميع الأحوال، فالدين مرتبط بالحياة الخاصة التي يشعر بها المؤمنون. وطالما أنّ الدين يتلخص في طريقة الشعور، وليس فقط في مجموعة من المعتقدات، فإنّ العلم لا يستطيع أن يتعرّض له.
ومن الصراعات التاريخية المشهورة بين الدين والعلم مقولة نيكولاس كوبرنيكوس (1473ـ 1543) بمركزية الشمس بدلاً من الأرض. ثم طوّر يوهانس كبلر (1571-1630) النظرية على أساس أنّ الكواكب تدور حول الشمس في مدار إهليلجي بيضاوي. وتحتل قوانين كبلر الـ3 أهمية عظمى في تاريخ العلم، لأنّها وفرت لإسحق نيوتن (1642-1727) الدليل الذي اعتمد عليه لإثبات قانون الجاذبية، وجاءت قصة غاليليو غاليلي (1564ـ1642) الذي قدّم دراسة للقوانين التي تحكم حركة الأجسام، واستفاد من التلسكوب.
وقد حظرت الكنيسة الكتب التي تقول بدوران الأرض، وصارت الهندسة رجساً من عمل الشيطان. وسُجن غاليليو، وأدين كوبرنيكوس بعد وفاته، وفرّ رينيه ديكارت إلى هولندا. واستمر هذا الحظر حتى العام 1835، فلم يكن في العصور الوسطى إيمان بسيادة قوانين الطبيعة مثل الآن، واعتقدت العصور الوسطى أنّ أيّ شيء فوق الغلاف الجوي للأرض لا يفنى ولا يُستحدث.
وأثارت نظرية التطور لتشارلز دارون جدلاً ما يزال قائماً، وقد ركّز علماء اللاهوت في هجومهم على نظرية التطور على فكرة أنّ الإنسان ينحدر من الحيوانات الأدنى، ولكن مع الزمن، تطور موقف إيجابي من التطور.
وكان وما يزال ثمّة ربط بين المرض والشياطين والأرواح الشريرة، ونحن نعلم الآن علمياً (يقول راسل) أنّ الإيمان قادر على شفاء بعض الأمراض، في حين يعجز عن شفاء بعضها الآخر. وقد أصبحت دراسة وظائف الأعضاء علماً على يد ويليام هارفي (1578ـ1657)، مكتشف الدورة الدموية. واستمرّت الجامعات الإنسانية تحظر تدريس الدورة الدموية حتى نهاية القرن الـ18، واستُبعد التشريح من أيّ تعليم طبي، وأثار التلقيح ضدّ الجدري عاصفة اعتراض من قبل رجال الدين، واعترضوا أيضاً في القرن الـ19على استخدام التخدير في العمليات الطبية، ولكنّ الطب انتصر على "اللاهوت" في جميع معاركه تقريباً، فمن المؤكد أنّ النتائج العملية التي تحققت بفعل التطعيم والتخدير والجراحة والتشريح تفوق على نحو حاسم دعاوى ومقولات "اللاهوت"، والتحسّن في صحة الإنسان وارتفاع معدلات العمر مسائل تدعو إلى الإعجاب والامتنان الى العلم.
وفي علم النفس والروح والجدل يقول رسل: "ليس هناك دليل على وجود خلاف جوهري بين مكوّنات علمي الفيزياء والنفس، ونحن نعرف القليل حول العلمين مقارنة بما كنّا نعتقد أنّنا نعرفه فيما مضى، ولكنّنا نعرف ما يكفينا كي نتأكد أنّه لا مكان للروح أو الجسد في العلم الحديث".
والإيمان ببقاء الروح بعد فناء الجسد مذهب شائع في كثير من الأديان ولدى الشعوب المتحضرة والبدائية، وكان بعض اليهود ينكرون الخلود وبعضهم يؤمن به، ولكنّ المسيحيين يضعون الإيمان بالأبدية في مكانة عالية في الدين والإيمان، وأنّ الناس سوف يذهبون بعد الموت إلى النعيم أو العذاب، ويؤمن بعض المسيحيين الليبراليين بأنّ الجحيم ليس أبدياً، وهو ما يؤمن به أيضاً بعض رجال الكنيسة الإنجليزية، واليوم يؤكد المتدينون على ارتباط الدين بالحياة وتحسينها أكثر ممّا يؤكدون على اليوم الآخر، وما يمكن للعلم قوله في موضوع خلود الروح ليس واضحاً أو محدداً.
يمكننا تعريف الشخص بأنّه سلسلة من الأحداث الذهنية المتصلة بجسد ما، هذا هو التعريف القانوني، فإذا قام جسد شخص ما بارتكاب جريمة قتل ويلقي البوليس القبض عليه، فإنّ الشخص الذي يسكن هذا الجسد في وقت القبض عليه يكون قاتلاً.
وإذا اعتقدنا في بقاء الشخصية بعد موت الجسد، فيجب علينا أن نفترض وجود استمرارية في الذكريات، أو على أقلّ تقدير في العادات، لأنّه بدون ذلك لا يوجد سبب يدعونا إلى الافتراض باستمرار الشخص نفسه.
ولكنّ علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) يرى أنّ العادات والذكريات تنمحي وتزول بفعل الموت والفناء، ومن العسير أن نتصوّر كيف يمكن نقل هذه الآثار إلى جسد جديد مثل الجسد الذي يفترض أنّنا سنسكنه في الآخرة، وسوف يزداد الأمر عسراً لو أنّنا صرنا أرواحاً بلا أجسام، ولعلّ انتقال شخص إلى السماء لا يقلّ في صعوبته عن نقل مجرى مائي إليها بدون أن يفقد هذا المجرى هويته، وإنّ تصور بقاء الشخص بعد وفاة المخ يشبه تصور بقاء نادي ألعاب الكريكيت بعد وفاة جميع المشتركين.
ولكنّ علم النفس ـ يقول راسل ـ بدأ لتوّه في أن يصبح علماً، ومن الممكن أن تتحرر السببية النفسية من اعتمادها الحالي على الجسد، ولكن في الحالة الراهنة لعلمي النفس والفسيولوجيا لا يمكن على أيّ حال للإيمان بالخلود أن يجد في العلم ما يدعمه ويسانده.
وفي مسألة الغاية الكونية يقول راسل: إنّنا نواجه المشكلة القديمة، ولكنّها حقيقية، إنّ الكائن القادر على كلّ شيء الذي خلق عالماً يحتوي على الشر الذي لا يرجع إلى الخطيئة، لا بدّ أن يحتوي هو نفسه على قدر من الشر.
وفي الأخلاق فإنّ العلم لا يملك الكفاية ليقدّم بشأن القيم، ولكنّه يملك بالتأكيد ما يقدّمه في علم الأخلاق. إنّ دراسة علم الأخلاق تتكوّن من جزأين؛ أحدهما يتعلق بقواعد الأخلاق، والآخر يتعلق بما هو خير في حدّ ذاته، وهناك (3) معانٍ مختلفة يمكن لأيّ فعل من الأفعال بفضلها أن ينال المدح والثناء، اتفاق هذا الفعل مع المفاهيم الأخلاقية السائدة، والاعتقاد المخلص بأنّ النية من وراء الفعل هي إحداث النتائج الطيبة، وأن يكون للفعل آثار طيبة. والحال أنّ المسائل المرتبطة بالقيم؛ أي المرتبطة بما هو خير أو شر في حدّ ذاته بغضّ النظر عن نتائجه، تقع خارج نطاق العلم، كما يؤكد بشدّة المدافعون عن الدين، وهم في نظر راسل محقون في هذا الشأن.
والحال أنّنا نحتاج إلى التمييز في التدين بين (3) منظومات لا يصحّ أن نتعامل معها بالدرجة نفسها أو بالاعتبار نفسه؛ أولاها الإيمان بالله والكتاب المنزل وسائر أركان الإيمان، وعبادة الله على النحو الذي أنزله في كتابه، وهي معتقدات وأعمال فردية بين الله والإنسان يتّبعها الإنسان بقلبه مصدقاً بها كما بلغته عن الرسل، ولا يملك أحد سلطاناً عليها، ويتحمّل المسلم مسؤوليتها وحده فرداً.
والمستوى الثاني هو الخطاب، بمعنى تنزيل الدين وتطبيقه في الحياة كما أمر الله ورسوله، وهنا يحدث الخطأ والصواب وتعدّد الفهم والتأويل، ويتعدد الخطاب حسب اختلاف المجتمعات والأزمنة والأمكنة والمستويات العلمية والثقافية والحضارية والاجتماعية. وأصعب ما في ذلك وأشقه القدرة على التمييز بين الديني والإنساني، وما هو من عند الله وما هو ليس من عند الله، ولكنّه يبقى خطاباً للمسلمين ينشئونه حسب ما يتمثلون من الحكمة والمصالح، وما يقدرون على إنشائه وإبداعه متبعين ما يعتقدون أنّه الحق والخير والجمال، الحق بمعنى الخطأ والصواب أو العدل والظلم، والخير بمعنى المفيد والضار، والتمييز بين النفع والضرر، والنفع الأكبر والنفع الأصغر، والضرر الأكبر والضرر الأصغر، والجمال بمعنى التمييز بين القبيح والحسن.
والمستوى الثالث هو العلوم الدينية، مثل الفقه والتفسير وسائر فروع العلم، وهي علوم إنسانية بحتة يشارك في تعلمها وتعليمها جميع الناس من المسلمين وغيرهم، مثلها مثل علوم الاجتماع واللغة والفلسفة والتاريخ، وتخضع لمناهج البحث، وهي قابلة (كشرط حتمي) لإثبات خطئها وصوابها، فليس علماً إلّا ما يمكن إثبات زيفه.
هذا التمييز ضروري، ونحتاجه لتقييم الأفكار والمواقف ووزنها، وقبولها ورفضها، فليس كلّ شأن من الدين بمستوى غيره، وبعضها قابل للردّ والنقاش والقبول، وبعضها لا يقبل، وليس كلّ خطأ في الدين عدواناً عليه يستوجب الخصام والعداء، وليس كلّ فهم قضية يحتاج إلى دعوة وتصحيح، ففي الخطاب تتعدد الاجتهادات ويتعدد الصواب أيضاً، وذلك متروك لقبول الناس واطمئنانهم. وأمّا العلوم الدينية، فهي شأن علمي خالص يجري بحثها وإثباتها ودحضها كما يجري في تقاليد ومؤسسات العلم والبحث العلمي، وليست شأناً دينياً أو جماهيرياً أو سياسياً، ولا تستوجب التحزب والعداوة والتأييد، إلّا بمقدار ما نحشد المظاهرات والجماهير تأييداً أو رفضاً لنظرية النسبية، أو التفاعلية الرمزية، أو الشبكية، على سبيل المثال.
بالنسبة للدين والعلم لا يحتاج العالم المتدين أن ينحاز إلى أحدهما أو يتخلى عن أحدهما
إنّ القدرة على تمييز الديني والإنساني، حتى في أقوال الرسول وأفعاله، هي مدخل التقدّم الديني وملاءمته المتواصلة للحياة والعصور، وفي الحديث النبوي: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِمَا يَقُولُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلَا يَأْخُذْهَا".
وبالنسبة إلى التوفيق بين العلم والإيمان، يتساءل المتدينون في عالم الإسلام، وكذلك في اليهودية والمسيحية، كيف يرد الاختلاف، أو ما يبدو اختلافاً، بين العلم والدين؟ هل يملك أهل العلم بالدين القول أو الحكم ببطلان مقولة علمية تناقض الدين أو تبدو مناقضة له؟ وهل يملك أهل العلم القول أو الحكم ببطلان مقولة دينية تبدو مناقضة للعلم؟
حسم المسألة ببساطة يقوم على مسألة بدهية: الاستقلال الحتمي والتأسيسي بين الدين والعلم، والتقاؤهما في بعض الأحيان، لا يعني أنّهما شيء واحد، ولا يعني أنّه التقاء حتمي أو ضروري، كما لا يعني اختلافهما أنّ أحدهما خاطئ بالضرورة؛ فالدين تصديق بالقلب، والعلم عمليات عقلية وتجريبية. والدين لا يمكن إثبات خطئه، والعلم يجب أن يكون قابلاً لإثبات خطئه؛ هو عمليات ونتائج غير يقينية...، هي صحيحة في اللحظة القائمة إلى أن يثبت خطؤها، وهي موضع مراجعة واختبار دائمين.
لا حرج في الاختلاف بين الدين والعلم وتناقضهما في المسائل والنتائج، ولا يحتاج العالم المتدين أن ينحاز إلى أحدهما أو يتخلى عن أحدهما، كما لا يحتاج أيضاً إلى التوفيق بينهما. والأهمّ من ذلك أنّه لا يحتاج العالِم أو المهني أن يستمدّ من الدين المعرفة العلمية أو المهنية، ولا أن يطبّق الدين على عمله العلمي أو المهني؛ إنّه بذلك يشوّه الدين والعلم والمهن معاً، ويلحق بها ضرراً كبيراً.
يقول سبينوزا: الكتاب (التوراة) لا يُعلّم الفلسفة، بل يدعو إلى التقوى وحدها، كما بَيّنّا أنّ مضمونه كله مُهيّأ على قدر فهم العامّة وأحكامهم المُسبَقة. وإذن فمن يريد إخضاع الكتاب للفلسفة، فإنّه ينسِب بخياله إلى الأنبياء أفكاراً لم تخطُر ببالِهم حتى في الحلم، ويُسيء تأويل فكرهم، وعلى العكس من ذلك، فإنّ من يجعل العقل والفلسفة خادِمَين للّاهوت، يُضطرُّ إلى قبول الأحكام المُسبقة للعامّة في العصور الماضية على أنّها أمور إلهية، بحيث تطغى هذه الأحكام المُسبقة على ذهنه وتُعميه كليّةً.
وكما في الإسلام هناك أيضاً في اليهودية، مثل يهوذا الفخار، من يرى أنّ كلّ ما يدعو له الكتاب بطريقة قطعية، وينصّ عليه بألفاظ صريحة، يجب قَبوله على أنّه حقٌّ مطلق، اعتماداً على سلطة الكتاب وحدها. ويجب نزول العقل على حُكم الكتاب وخضوعه له كليّةً. ولا يجوز تفسير الكتاب تفسيراً مجازيّاً بدعوى أنّ المعنى الحرفي مُناقض للعقل، هذا التفسير لا يجوز إلّا حين يتناقَض هذا المعنى مع الكتاب ذاته. على سبيل المثال (كما يقول الفخار) يدعو الكتاب صراحة في سفر التثنية (١٥ :٤) إلى أنّ الله لا جسم له، ومن ثَمَّ فنحن مُلزمون، بناءً على شهادة النصِّ القاطعة، لا على شهادة العقل، بالاعتقاد بأنَّ الله لا جسم له، ومن ثمَّ فإنَّنا مُلزَمون أيضاً، بناءً على سُلطة هذا النص وحده، بأنْ نُفسِّر تفسيراً مجازياً كلّ الفقرات التي تَنسِب إلى الله يَدَين وقدَمَين… إلخ، وهي الفقرات التي يبدو أنّ أسلوبها في التعبير ينطوي على نِسبة الجسمية إلى الله.
يردّ سبينوزا على الفخّار: "وإنّي على رغبته في تفسير الكتاب بالكتاب، ولكنِّي أعجب كيف يُحاول إنسان وُهِبَ نعمة العقل أن يهدم العقل؟ صحيح أنّه يجب تفسير الكتاب بالكتاب ما دُمنا نجد صعوبة في الاهتداء إلى معنى النصوص وفِكر الأنبياء، ولكن ما إن نجد المعنى الصحيح حتى يجِب أن نَستخدِم قُدرتنا على الحُكم، وأن نُعمِل عقلنا حتى يُمكِننا الموافقة على هذا الفكر. وإنّي لأتساءل: إذا كان على العقل أن يخضع للكتاب، بالرغم من مُعارضته له، فهل ينبغي أن يقوم هذا الخضوع على العقل، أم يكون خضوعاً أعمى؟ لو كان خضوعاً أعمى، فإنَّنا نسلُك كالبُلَهاء، بلا حكمة، ولو كان خضوعاً قائماً على العقل، فإنّنا نأخُذ جانب الكتاب بناءً على أمر العقل وحده، ومِن ثَمّ فلو عارض العقل، لَما سَلَّمنا به.
وإنّي لأتساءل مرّة أخرى: كيف يقبل المرء بفِكره مُعتَقَداً يُعارِضه العقل؟ وماذا يعني رفضُ أيِّ شيءٍ بالفكر سوى أنّ العقل يُعارضه؟ لذلك فإنّي لا أستطيع أن أكتُم دهشتي البالغة عندما أجد أحداً يريد إخضاع العقل، هذه الهِبة العُليا، وهذا النور الإلهي، لحرفٍ مائتٍ استطاع الفساد الإنساني تحريفه، وعندما أجد أحداً يعتقد أنّه لا يرتكِب جرماً حين يَحُطَّ من شأن العقل، وهو الوثيقة التي تشهد بحقٍّ على كلام الله، ويتَّهِمه بالفساد والعمى والسقوط، على حين أنّه يجعل من الحرف المائت، وصورة كلام الله صنماً معبوداً، ومِن ثَمَّ يعتقد أنّ أشنع الجرائم، هو وصف هذا الحرف بالصفات السابقة.
وهكذا، يظنُّ المرء نفسه تقيّاً حين يُبدي ارتيابه في العقل والحكم السليم، ويرى أنَّ الفسوق إنّما يكمُن في إبداء أقلّ قدر مِن الشكّ فيمن نقلوا لنا الكُتب المقدّسة، ولكن ما أبعد ذلك عن التقوى! إنّه هو الخبل المَحْض! وإنّي لأتساءل: ما هذا القلق الذي استولى عليهم؟ ماذا يخافون؟ هل يلزم للدفاع عن الدين والإيمان أن يبذُل الناس جهدهم من أجل الجهل بكلّ شيء، وأن يُلغوا عقولهم نهائياً؟ الحقُّ أنَّ من يعتقد هذا الرأي يخاف من الكتاب أكثر مِمَّا يثِقُ فيه، فلنرفُض إذن على نحوٍ قاطعٍ هذه الفكرة القائلة إنَّ الدين والتقوى يُريدان أن يجعلا من العقل خادماً، أو أنّ العقل يُريد إخضاع الدين له، ولنرفُض أيضاً الفكرة القائلة إنّ العقل والإيمان لا يستطيعان العيش في سلام ووئام، كلٌّ في ميدانه الخاص. فالواجب افتراض صحَّة هذه النصوص كلها، كما يدّعي هذا الكتاب، لأنّنا لا ينبغي أن نُحكِّم العقل في مثل هذه الأمور. ومن الخطأ البَيِّن أنْ يُريد المرء إقامة سلطة الكتاب على براهين رياضية؛ ذلك لأنَّ سلطة الكتاب تتوقَّف على سُلطة الأنبياء، فلا يمكن إذن البرهنة عليها بحُجَج أقوى من تلك التي اعتاد الأنبياء استعمالها لإقناع الناس بسُلطتهم، بل إنَّ يقيننا نفسه بهذا الموضوع لا يُمكن أن يرتكز على أيّ أساس سوى هذا الذي أقام عليه الأنبياء أنفسهم يقينهم وسُلطتهم الخاصة.
ويختم سبينوزا بالقول: إنّ الكتاب يُقدِّم عزاءً كبيراً للناس، إذ يستطيع الجميع طاعته، على حين تستطيع فئة ضئيلة للغاية من البشر أن تَصِل إلى حالة الفضيلة عن طريق العقل، وعلى ذلك فلو لم تكن لدينا شهادة الكتاب، لتملَّكَنا الشكُّ في خلاص السَّواد الأعظم من الناس.
يبدو واضحاً أنّ سبينوزا، وإن كان يُقدّم مقاربة فلسفية عقلانية للعلاقة بين العلم والدين، فإنّه ينطلق في الوقت نفسه من منطلق الإيمان بالله والكتاب، أو هو يبحث عن سبيل للمؤمنين كيف يوفقون بين إيمانهم وبين العلم، دون أن يتعارض إيمانهم بالله مع العقل، وفي الوقت نفسه يظلون على التزامهم بالعقل باعتباره أداة الإنسان الأساسية للمعرفة والتمييز بين الخير والشرّ، وهو بالطبع جدل طويل لا يتوقف.
يتتبع الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتاب "الدين والعلم" الصراعات التي نشبت بين علماء اللاهوت والعلماء في القرون الـ4 الماضية، ويلاحظ أنّ النصر كان دائماً حليف العلم في كلّ مرة اختلف فيها مع اللاهوت، وقد انتصر العلم للتقدّم والتخفيف من آلام البشر، ويجد راسل أنّ الحرب بين العلم واللّاهوت كادت تنتهي، ولم يعد الدين هو الخطر على الحرّيات والتقدّم، ولكنّها الحكومات والأنظمة السياسية الاستبدادية.
لقد شُغلت الإنسانية على مدى تاريخها بالعلاقة بين الدين والعلم، وكان الجدل بين العلم والدين موضوعاً لصراعات ومحاكمات طويلة في عصر النهضة الأوروبية، وما يزال كتاب راسل "الدين والعلم" مهمّاً في فهم هذه العلاقة، حيث يقدّم راسل تحليلاً لهذا الجدل، وما يتضمنه من اختلاف واتفاق.
يتتبع الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتاب "الدين والعلم" الصراعات التي نشبت بين علماء اللاهوت والعلماء
العلم محاولة عن طريق الملاحظة وإعمال العقل -القائم على هذه الملاحظة- لاكتشاف الحقائق الخاصة بالعلم، ثم اكتشاف القوانين التي تربط الحقائق ببعضها بعضاً، وتستخدم التقنية المعرفة العلمية لتوفير الراحة ووسائل الترف التي كان يستحيل تحقيقها فيما مضى، أو كانت تحتاج إلى تكاليف باهظة. ولكنّ الدين، كما يقول راسل، ظاهرة أشدّ تعقيداً من العلم، فجميع الأديان التاريخية لها (3) وجوه: المؤسسة، والعقيدة، ونظام يحكم الأخلاق الشخصية.
التدين الشخصي البحت يمكن أن يبقى، حتى في أكثر العصور علمية، بدون أن يعكّر صفوه شيء، طالما أنّه يتجنب التورط في تأكيدات يمكن للعلم أن يدحضها، وبالنسبة إلى العالم المسيحي، كان هناك نوعان من الصراع، حين تصدى العلم لبعض المسلمات المسيحية المهمّة، أو بعض المذاهب الفلسفية الضرورية للفكر الديني، وقد استخدم توماس الإكويني العلم والمنطق لإثبات محتويات الكتاب المقدّس بالدليل العلمي، من مثل الخالق.
يأخذ العلم صدقيته من فرص تطبيقه تقنياً، فالنظريات المؤدية إلى اختراعات وتطبيقات تصدق النظريات العلمية الأخرى، وهكذا تتوقف المعرفة عن أن تكون مجرّد مرآة للكون، لتصبح أداة علمية في تناول المادة ومعالجتها.
اضطر اللّاهوت أن يؤقلم نفسه مع العلم، ولهذا بدأ تفسير نصوص الكتاب المقدّس التي لا تساير العلم على نحو رمزي، ثم قام البروتستانت بنقل مركز السلطة الدينية من الكنيسة إلى الكتاب المقدّس وحده، ثم التركيز على روح الفرد. وفي جميع الأحوال، فالدين مرتبط بالحياة الخاصة التي يشعر بها المؤمنون. وطالما أنّ الدين يتلخص في طريقة الشعور، وليس فقط في مجموعة من المعتقدات، فإنّ العلم لا يستطيع أن يتعرّض له.
ومن الصراعات التاريخية المشهورة بين الدين والعلم مقولة نيكولاس كوبرنيكوس (1473ـ 1543) بمركزية الشمس بدلاً من الأرض. ثم طوّر يوهانس كبلر (1571-1630) النظرية على أساس أنّ الكواكب تدور حول الشمس في مدار إهليلجي بيضاوي. وتحتل قوانين كبلر الـ3 أهمية عظمى في تاريخ العلم، لأنّها وفرت لإسحق نيوتن (1642-1727) الدليل الذي اعتمد عليه لإثبات قانون الجاذبية، وجاءت قصة غاليليو غاليلي (1564ـ1642) الذي قدّم دراسة للقوانين التي تحكم حركة الأجسام، واستفاد من التلسكوب.
وقد حظرت الكنيسة الكتب التي تقول بدوران الأرض، وصارت الهندسة رجساً من عمل الشيطان. وسُجن غاليليو، وأدين كوبرنيكوس بعد وفاته، وفرّ رينيه ديكارت إلى هولندا. واستمر هذا الحظر حتى العام 1835، فلم يكن في العصور الوسطى إيمان بسيادة قوانين الطبيعة مثل الآن، واعتقدت العصور الوسطى أنّ أيّ شيء فوق الغلاف الجوي للأرض لا يفنى ولا يُستحدث.
وأثارت نظرية التطور لتشارلز دارون جدلاً ما يزال قائماً، وقد ركّز علماء اللاهوت في هجومهم على نظرية التطور على فكرة أنّ الإنسان ينحدر من الحيوانات الأدنى، ولكن مع الزمن، تطور موقف إيجابي من التطور.
وكان وما يزال ثمّة ربط بين المرض والشياطين والأرواح الشريرة، ونحن نعلم الآن علمياً (يقول راسل) أنّ الإيمان قادر على شفاء بعض الأمراض، في حين يعجز عن شفاء بعضها الآخر. وقد أصبحت دراسة وظائف الأعضاء علماً على يد ويليام هارفي (1578ـ1657)، مكتشف الدورة الدموية. واستمرّت الجامعات الإنسانية تحظر تدريس الدورة الدموية حتى نهاية القرن الـ18، واستُبعد التشريح من أيّ تعليم طبي، وأثار التلقيح ضدّ الجدري عاصفة اعتراض من قبل رجال الدين، واعترضوا أيضاً في القرن الـ19على استخدام التخدير في العمليات الطبية، ولكنّ الطب انتصر على "اللاهوت" في جميع معاركه تقريباً، فمن المؤكد أنّ النتائج العملية التي تحققت بفعل التطعيم والتخدير والجراحة والتشريح تفوق على نحو حاسم دعاوى ومقولات "اللاهوت"، والتحسّن في صحة الإنسان وارتفاع معدلات العمر مسائل تدعو إلى الإعجاب والامتنان الى العلم.
وفي علم النفس والروح والجدل يقول رسل: "ليس هناك دليل على وجود خلاف جوهري بين مكوّنات علمي الفيزياء والنفس، ونحن نعرف القليل حول العلمين مقارنة بما كنّا نعتقد أنّنا نعرفه فيما مضى، ولكنّنا نعرف ما يكفينا كي نتأكد أنّه لا مكان للروح أو الجسد في العلم الحديث".
والإيمان ببقاء الروح بعد فناء الجسد مذهب شائع في كثير من الأديان ولدى الشعوب المتحضرة والبدائية، وكان بعض اليهود ينكرون الخلود وبعضهم يؤمن به، ولكنّ المسيحيين يضعون الإيمان بالأبدية في مكانة عالية في الدين والإيمان، وأنّ الناس سوف يذهبون بعد الموت إلى النعيم أو العذاب، ويؤمن بعض المسيحيين الليبراليين بأنّ الجحيم ليس أبدياً، وهو ما يؤمن به أيضاً بعض رجال الكنيسة الإنجليزية، واليوم يؤكد المتدينون على ارتباط الدين بالحياة وتحسينها أكثر ممّا يؤكدون على اليوم الآخر، وما يمكن للعلم قوله في موضوع خلود الروح ليس واضحاً أو محدداً.
يمكننا تعريف الشخص بأنّه سلسلة من الأحداث الذهنية المتصلة بجسد ما، هذا هو التعريف القانوني، فإذا قام جسد شخص ما بارتكاب جريمة قتل ويلقي البوليس القبض عليه، فإنّ الشخص الذي يسكن هذا الجسد في وقت القبض عليه يكون قاتلاً.
وإذا اعتقدنا في بقاء الشخصية بعد موت الجسد، فيجب علينا أن نفترض وجود استمرارية في الذكريات، أو على أقلّ تقدير في العادات، لأنّه بدون ذلك لا يوجد سبب يدعونا إلى الافتراض باستمرار الشخص نفسه.
ولكنّ علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) يرى أنّ العادات والذكريات تنمحي وتزول بفعل الموت والفناء، ومن العسير أن نتصوّر كيف يمكن نقل هذه الآثار إلى جسد جديد مثل الجسد الذي يفترض أنّنا سنسكنه في الآخرة، وسوف يزداد الأمر عسراً لو أنّنا صرنا أرواحاً بلا أجسام، ولعلّ انتقال شخص إلى السماء لا يقلّ في صعوبته عن نقل مجرى مائي إليها بدون أن يفقد هذا المجرى هويته، وإنّ تصور بقاء الشخص بعد وفاة المخ يشبه تصور بقاء نادي ألعاب الكريكيت بعد وفاة جميع المشتركين.
ولكنّ علم النفس ـ يقول راسل ـ بدأ لتوّه في أن يصبح علماً، ومن الممكن أن تتحرر السببية النفسية من اعتمادها الحالي على الجسد، ولكن في الحالة الراهنة لعلمي النفس والفسيولوجيا لا يمكن على أيّ حال للإيمان بالخلود أن يجد في العلم ما يدعمه ويسانده.
وفي مسألة الغاية الكونية يقول راسل: إنّنا نواجه المشكلة القديمة، ولكنّها حقيقية، إنّ الكائن القادر على كلّ شيء الذي خلق عالماً يحتوي على الشر الذي لا يرجع إلى الخطيئة، لا بدّ أن يحتوي هو نفسه على قدر من الشر.
وفي الأخلاق فإنّ العلم لا يملك الكفاية ليقدّم بشأن القيم، ولكنّه يملك بالتأكيد ما يقدّمه في علم الأخلاق. إنّ دراسة علم الأخلاق تتكوّن من جزأين؛ أحدهما يتعلق بقواعد الأخلاق، والآخر يتعلق بما هو خير في حدّ ذاته، وهناك (3) معانٍ مختلفة يمكن لأيّ فعل من الأفعال بفضلها أن ينال المدح والثناء، اتفاق هذا الفعل مع المفاهيم الأخلاقية السائدة، والاعتقاد المخلص بأنّ النية من وراء الفعل هي إحداث النتائج الطيبة، وأن يكون للفعل آثار طيبة. والحال أنّ المسائل المرتبطة بالقيم؛ أي المرتبطة بما هو خير أو شر في حدّ ذاته بغضّ النظر عن نتائجه، تقع خارج نطاق العلم، كما يؤكد بشدّة المدافعون عن الدين، وهم في نظر راسل محقون في هذا الشأن.
والحال أنّنا نحتاج إلى التمييز في التدين بين (3) منظومات لا يصحّ أن نتعامل معها بالدرجة نفسها أو بالاعتبار نفسه؛ أولاها الإيمان بالله والكتاب المنزل وسائر أركان الإيمان، وعبادة الله على النحو الذي أنزله في كتابه، وهي معتقدات وأعمال فردية بين الله والإنسان يتّبعها الإنسان بقلبه مصدقاً بها كما بلغته عن الرسل، ولا يملك أحد سلطاناً عليها، ويتحمّل المسلم مسؤوليتها وحده فرداً.
والمستوى الثاني هو الخطاب، بمعنى تنزيل الدين وتطبيقه في الحياة كما أمر الله ورسوله، وهنا يحدث الخطأ والصواب وتعدّد الفهم والتأويل، ويتعدد الخطاب حسب اختلاف المجتمعات والأزمنة والأمكنة والمستويات العلمية والثقافية والحضارية والاجتماعية. وأصعب ما في ذلك وأشقه القدرة على التمييز بين الديني والإنساني، وما هو من عند الله وما هو ليس من عند الله، ولكنّه يبقى خطاباً للمسلمين ينشئونه حسب ما يتمثلون من الحكمة والمصالح، وما يقدرون على إنشائه وإبداعه متبعين ما يعتقدون أنّه الحق والخير والجمال، الحق بمعنى الخطأ والصواب أو العدل والظلم، والخير بمعنى المفيد والضار، والتمييز بين النفع والضرر، والنفع الأكبر والنفع الأصغر، والضرر الأكبر والضرر الأصغر، والجمال بمعنى التمييز بين القبيح والحسن.
والمستوى الثالث هو العلوم الدينية، مثل الفقه والتفسير وسائر فروع العلم، وهي علوم إنسانية بحتة يشارك في تعلمها وتعليمها جميع الناس من المسلمين وغيرهم، مثلها مثل علوم الاجتماع واللغة والفلسفة والتاريخ، وتخضع لمناهج البحث، وهي قابلة (كشرط حتمي) لإثبات خطئها وصوابها، فليس علماً إلّا ما يمكن إثبات زيفه.
هذا التمييز ضروري، ونحتاجه لتقييم الأفكار والمواقف ووزنها، وقبولها ورفضها، فليس كلّ شأن من الدين بمستوى غيره، وبعضها قابل للردّ والنقاش والقبول، وبعضها لا يقبل، وليس كلّ خطأ في الدين عدواناً عليه يستوجب الخصام والعداء، وليس كلّ فهم قضية يحتاج إلى دعوة وتصحيح، ففي الخطاب تتعدد الاجتهادات ويتعدد الصواب أيضاً، وذلك متروك لقبول الناس واطمئنانهم. وأمّا العلوم الدينية، فهي شأن علمي خالص يجري بحثها وإثباتها ودحضها كما يجري في تقاليد ومؤسسات العلم والبحث العلمي، وليست شأناً دينياً أو جماهيرياً أو سياسياً، ولا تستوجب التحزب والعداوة والتأييد، إلّا بمقدار ما نحشد المظاهرات والجماهير تأييداً أو رفضاً لنظرية النسبية، أو التفاعلية الرمزية، أو الشبكية، على سبيل المثال.
بالنسبة للدين والعلم لا يحتاج العالم المتدين أن ينحاز إلى أحدهما أو يتخلى عن أحدهما
إنّ القدرة على تمييز الديني والإنساني، حتى في أقوال الرسول وأفعاله، هي مدخل التقدّم الديني وملاءمته المتواصلة للحياة والعصور، وفي الحديث النبوي: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِمَا يَقُولُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلَا يَأْخُذْهَا".
وبالنسبة إلى التوفيق بين العلم والإيمان، يتساءل المتدينون في عالم الإسلام، وكذلك في اليهودية والمسيحية، كيف يرد الاختلاف، أو ما يبدو اختلافاً، بين العلم والدين؟ هل يملك أهل العلم بالدين القول أو الحكم ببطلان مقولة علمية تناقض الدين أو تبدو مناقضة له؟ وهل يملك أهل العلم القول أو الحكم ببطلان مقولة دينية تبدو مناقضة للعلم؟
حسم المسألة ببساطة يقوم على مسألة بدهية: الاستقلال الحتمي والتأسيسي بين الدين والعلم، والتقاؤهما في بعض الأحيان، لا يعني أنّهما شيء واحد، ولا يعني أنّه التقاء حتمي أو ضروري، كما لا يعني اختلافهما أنّ أحدهما خاطئ بالضرورة؛ فالدين تصديق بالقلب، والعلم عمليات عقلية وتجريبية. والدين لا يمكن إثبات خطئه، والعلم يجب أن يكون قابلاً لإثبات خطئه؛ هو عمليات ونتائج غير يقينية...، هي صحيحة في اللحظة القائمة إلى أن يثبت خطؤها، وهي موضع مراجعة واختبار دائمين.
لا حرج في الاختلاف بين الدين والعلم وتناقضهما في المسائل والنتائج، ولا يحتاج العالم المتدين أن ينحاز إلى أحدهما أو يتخلى عن أحدهما، كما لا يحتاج أيضاً إلى التوفيق بينهما. والأهمّ من ذلك أنّه لا يحتاج العالِم أو المهني أن يستمدّ من الدين المعرفة العلمية أو المهنية، ولا أن يطبّق الدين على عمله العلمي أو المهني؛ إنّه بذلك يشوّه الدين والعلم والمهن معاً، ويلحق بها ضرراً كبيراً.
نيسان ـ نشر في 2023/03/07 الساعة 00:00