فيدرا 'المرأة الأولى' عند يوريبيدس وراسين وكورناي
نيسان ـ نشر في 2023/05/06 الساعة 00:00
ليس هناك ما هو أكثر من تاريخ الحياة الثقافية الفرنسية امتلاء بالمعارك بين الكبار بقدر امتلائه بتلك المعارك التي يخوضها الكبار مدافعين عن القضايا الكبرى وغالباً ضد الرقابات والسلطات وربما المجتمع ككل، وكما يحدث غالباً، تبقى معارك كثيرة في الذاكرة فيما تغيب عن هذه الأخيرة معارك أكثر عدداً، ولئن كانت المعارك التي دارت طويلاً بين كاتبي المسرح التراجيدي الكبيرين جان راسين وبيار كورناي في ما يسمى "العصر الذهب للمسرح الكبير" في فرنسا أيام الملك لويس الرابع عشر، لا تزال حية حتى اليوم، ثمة في مقابلها معركة منسية على رغم أنها بالغة الأهمية، بين الكاتبين، يمكننا أن نسميها "معركة فيدرا" ويمكننا على أية حال أن نفهم بسرعة سبب غيابها عن الذاكرة، فهي على رغم أنها كانت معركة بينهما إلا أنها كانت في جانب منها على الأقل، معركة بالواسطة. صحيح أن راسين كان الطرف الأساس فيها هو الذي سيخرج منها منتصراً، لكن الطرف الثاني لم يكن عدوه اللدود ومنافسه الأشرس كورناي، بل كان المنافس تلميذاً لهذا الأخير شاء الكاتب الكبير كورناي أن يخوض به تلك المعركة، وربما على أية حال، لأنه كان واثقاً من أن راسين سيكون في نهاية الأمر المنتصر فيها، أما لماذا نسميها معركة "فيدرا" فالجواب بسيط، لأن موضوعها كان مسرحية "فيدرا" للكاتب الإغريقي يوريبيدس، التي كان راسين في تلك الأزمنة الفرنسية الزاهية قد اقتبسها مفتتحاً بها الحداثة المسرحية ليس في فرنسا وحدها، بل في عالم المسرح ككل.
الاقتباس الأعظم
أما موضوعنا فهو هنا بالتحديد، فمسرحية راسين التي سوف تعد منذ عروضها الأولى أعظم اقتباس تحقق عن عمل مسرحي إغريقي على الإطلاق، كانت قد اختيرت لتفتتح بها فرقة "الكوميدي فرانسيز" ما إن تأسست، موسمها الأول في يوم الأول من شهر يناير (كانون الثاني) 1677 في "أوتيل بورغونيْ". وتم الافتتاح في موعده تماماً لتخلق "فيدرا" خلقاً جديدة وتنهال مقالات وتعابير الثناء على راسين الذي "عرف كيف يسبغ على الشخصية ومسرحيتها ومن خلالهما على المسرح الإغريقي بأسره حياة وحيوية جديدتين" بحسب إجماع النقاد، لكن كورناي لم يهن عليه أن يترك المناسبة وردود الفعل تمر، دون أن يشاغب على منافسه، فأوعز إلى تلميذ ومساعد له هو نيكولا برادون أن يسارع على الفور إلى تقديم اقتباس للمسرحية الإغريقية نفسها تحت عنوانها الأصلي "فيدرا وهيبوليت" على خشبة صالة غينيغو غير بعيد من مكان تقديم راسين مسرحيته، وما كان يمكن لتلك المبادرة إلا أن تندلع كمعركة شرسة وسط حياة فنية وأدبية كانت صاخبة في باريس ذلك الحين، والحقيقة أنه لم يكن يخفى لا عن راسين ولا عن أنصاره أن "المعركة" هي معركة مع كورناي على اعتبار أن برادون كان مجرد دمية بين يدي هذا الأخير وينتمي إلى الغرب الفرنسي دون أن يكون مطلعاً على خفايا الحياة الباريسية، غير أن راسين بقي على صمته مهتماً بتقديم مسرحيته غير مبال بكل اللغط الذي راح يدور في مجابهات بين أنصاره وأنصار كورناي الذين تحولوا في تلك المناسبة فقط إلى أنصار لبرادون، ولسوف يتبين بسرعة أن راسين كان على حق وحكمة في لامبالاته، إذ ما إن مرت أسابيع قليلة حتى سحبت "فيدرا برادون" من العرض وذابت في مهب النسيان، فيما توالت عروض "فيدرا راسين" وقد راح الجمهور يتزاحم لمشاهدتها طول عشرات بل مئات العروض التالية، معتبراً إياها أعظم تحفة كتبها راسين ومن أعظم ما قدم المسرح التراجيدي الفرنسي على مدار تاريخه، وهي على أية حال لا تزال تعد كذلك حتى اليوم، بخاصة بعد أن أعادت سارة برنار إحياءها من جديد في قيامها بالدور عام 1893 في تعاون بينها وبين "الكوميدي فرانسيز" اعتبر دائماً علامة في تاريخ المسرح الفرنسي.
ولكن ما هي هذه المسرحية ولمَ تراها تحظى بكل هذه الأهمية الفنية والتاريخية؟ في الحقيقة أن الخطوط الظاهرة لـ"أحداث" المسرحية سواء في أصلها الإغريقي أو في تحولاتها التالية التي تعد "فيدرا" راسين قمتها، خطوط بسيطة تكاد لا تتجاوز كونها دراما عائلية، ففيدرا ملكة أثينا تشعر بوطأة غياب زوجها منذ ستة أشهر دون أن يعرف أحد أين هو وما مصيره ومتى يعود، وتشعر بآلام نفسية هائلة تكاد تقعدها ولا تصرح لأحد بحرف حول جذورها وأسبابها حتى اليوم الذي تشعر فيه وقد تراكمت عليها الآلام المبرحة أنها مساقة لقول حقيقة ما بها لوصيفتها الأمينة ومستودع أسرارها إينوني، معترفة لها بأنها تشعر بهيام سفاح "تقريباً" تجاه ابن زوجها الفاتن هيبوليت، لكن هيبوليت لا يبادلها ذلك الهوى الشغوف رافضاً الموضوع جملة وتفصيلاً، ما يزيد من عذابها. والحقيقة أن ليس في المسرحية سوى خبر ذلك الهيام المستحيل والرفض الحارق علماً بأن ما يجدّ عليه بعد اعتراف فيدرا لخادمتها، انتقال تلك الآلام إلى الخادمة دافعة إياها إلى سلوك سبيل الانتحار، بالتالي نحن هنا أمام مسرحية عن الحب والشغف والعواطف لعل في إمكاننا حسبانها الأولى من هذا النسغ في تاريخ المسرح العالمي.
لكننا حين نقول شغفاً وحباً وعواطف يتعين علينا على الفور أن نفترض أعداداً لا تحصى من التفسيرات والتحليلات للشخصيات والمواقف تصل في معظم الأحيان إلى هاوية التناقض، ولعل انتصار جان راسين (1639 – 1699) يكمن هنا بالتحديد إذ كثف المواقف والتحليلات المضمرة إلى درجة عرف معها كيف يخلق كل التناقضات المفترضة ليودعها جوّانية فيدرا فتصبح بالتالي نساء كثيرات في امرأة واحدة وكل عاشقات التاريخ في عاشقة واحدة، فهو أوصل العواطف إلى ذروة تجعل من الصعب علينا العثور في تاريخ الفن، وفن المسرح بشكل خاص، على إمرأة تضاهي المرأة فيدرا وتحمل من التناقض ما تحمله فيدرا، وهذا ما يجعل المتابع للشخصية ودوافعها وانفعالاتها وآلامها يتوه مهما حاول أن يعثر على دروب يسلكها للتواصل مع هذه الشخصية. صحيح أننا للوهلة الأولى أمام حدث مفرط في عاديته: زوجة أب تعشق ابن زوجها الذي يصغرها بالتأكيد، لكن فيدرا لها مبرراتها، فهي الأخرى لا تزال في شرخ الصبا، وهي زُوّجت من تيزيوس رغماً عنها هو الذي يفوق سنه ضعفي سنها، ثم ها هو الآن غائب منذ نصف عام تاركاً ابنه الوسيم في عهدة الزوجة الشابة، ترى هل يمكن أحد حقاً لوم فيدرا على ما تشعر به؟ مبدئياً لا يلومها أحد، لكن هيبوليت لا يلومها فقط، بل يرفضها تماماً، وهذا ما يجعلها أشبه بمراهقة عذراء تتشوق إلى فارس أحلامها و"تكتشف في داخلها كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه، تلك الكهرباء الجوّانية التي تلسعها دون هوادة ولا تبدو قادرة على إبداء أية مقاومة لها". ولعل ما يكشف تلك اللوعة كلها ذلك المشهد الرهيب حين تقرر أن تعترف أخيراً بما بها لهيبوليت مباشرة فلا تجد لديه من رد يتجاوز تعبيره عن احتقاره لها فلا يكون منها إلا أن تقول له "ببساطة مرعبة"، "إذا لم يكن بإمكانك أن تمد إلي يد الخلاص، مد إلي بسيفك ينقذني مما أنا فيه!". لكن هيبوليت لا يمد لها، كما نعرف، لا يد الخلاص ولا السيف البتار المنقذ. ويقيناً أن راسين أوصل الأمور والعواطف والتناقضات هنا إلى أقصى ما يستطيعه كاتب، أي إلى تلك المشاعر المتطرفة التي تجعل كل فنانة مسرح كبيرة تحلم بأن تؤدي ولو مرة في حياتها دور "فيدرا" في صيغته الراسينية على خشبة ما. وحسبنا في هذا السياق أن نذكر أن الكبيرة ساره برنار التصق بها طوال حياتها دورها في فيدرا بأكثر مما التصق بها أي دور آخر قامت به... فقالت مرات ومرات إنها لا تشعر ولو دقيقة في حياتها أنها غير راغبة في أن ترى فيدرا ولو في أحلامها.
الاقتباس الأعظم
أما موضوعنا فهو هنا بالتحديد، فمسرحية راسين التي سوف تعد منذ عروضها الأولى أعظم اقتباس تحقق عن عمل مسرحي إغريقي على الإطلاق، كانت قد اختيرت لتفتتح بها فرقة "الكوميدي فرانسيز" ما إن تأسست، موسمها الأول في يوم الأول من شهر يناير (كانون الثاني) 1677 في "أوتيل بورغونيْ". وتم الافتتاح في موعده تماماً لتخلق "فيدرا" خلقاً جديدة وتنهال مقالات وتعابير الثناء على راسين الذي "عرف كيف يسبغ على الشخصية ومسرحيتها ومن خلالهما على المسرح الإغريقي بأسره حياة وحيوية جديدتين" بحسب إجماع النقاد، لكن كورناي لم يهن عليه أن يترك المناسبة وردود الفعل تمر، دون أن يشاغب على منافسه، فأوعز إلى تلميذ ومساعد له هو نيكولا برادون أن يسارع على الفور إلى تقديم اقتباس للمسرحية الإغريقية نفسها تحت عنوانها الأصلي "فيدرا وهيبوليت" على خشبة صالة غينيغو غير بعيد من مكان تقديم راسين مسرحيته، وما كان يمكن لتلك المبادرة إلا أن تندلع كمعركة شرسة وسط حياة فنية وأدبية كانت صاخبة في باريس ذلك الحين، والحقيقة أنه لم يكن يخفى لا عن راسين ولا عن أنصاره أن "المعركة" هي معركة مع كورناي على اعتبار أن برادون كان مجرد دمية بين يدي هذا الأخير وينتمي إلى الغرب الفرنسي دون أن يكون مطلعاً على خفايا الحياة الباريسية، غير أن راسين بقي على صمته مهتماً بتقديم مسرحيته غير مبال بكل اللغط الذي راح يدور في مجابهات بين أنصاره وأنصار كورناي الذين تحولوا في تلك المناسبة فقط إلى أنصار لبرادون، ولسوف يتبين بسرعة أن راسين كان على حق وحكمة في لامبالاته، إذ ما إن مرت أسابيع قليلة حتى سحبت "فيدرا برادون" من العرض وذابت في مهب النسيان، فيما توالت عروض "فيدرا راسين" وقد راح الجمهور يتزاحم لمشاهدتها طول عشرات بل مئات العروض التالية، معتبراً إياها أعظم تحفة كتبها راسين ومن أعظم ما قدم المسرح التراجيدي الفرنسي على مدار تاريخه، وهي على أية حال لا تزال تعد كذلك حتى اليوم، بخاصة بعد أن أعادت سارة برنار إحياءها من جديد في قيامها بالدور عام 1893 في تعاون بينها وبين "الكوميدي فرانسيز" اعتبر دائماً علامة في تاريخ المسرح الفرنسي.
ولكن ما هي هذه المسرحية ولمَ تراها تحظى بكل هذه الأهمية الفنية والتاريخية؟ في الحقيقة أن الخطوط الظاهرة لـ"أحداث" المسرحية سواء في أصلها الإغريقي أو في تحولاتها التالية التي تعد "فيدرا" راسين قمتها، خطوط بسيطة تكاد لا تتجاوز كونها دراما عائلية، ففيدرا ملكة أثينا تشعر بوطأة غياب زوجها منذ ستة أشهر دون أن يعرف أحد أين هو وما مصيره ومتى يعود، وتشعر بآلام نفسية هائلة تكاد تقعدها ولا تصرح لأحد بحرف حول جذورها وأسبابها حتى اليوم الذي تشعر فيه وقد تراكمت عليها الآلام المبرحة أنها مساقة لقول حقيقة ما بها لوصيفتها الأمينة ومستودع أسرارها إينوني، معترفة لها بأنها تشعر بهيام سفاح "تقريباً" تجاه ابن زوجها الفاتن هيبوليت، لكن هيبوليت لا يبادلها ذلك الهوى الشغوف رافضاً الموضوع جملة وتفصيلاً، ما يزيد من عذابها. والحقيقة أن ليس في المسرحية سوى خبر ذلك الهيام المستحيل والرفض الحارق علماً بأن ما يجدّ عليه بعد اعتراف فيدرا لخادمتها، انتقال تلك الآلام إلى الخادمة دافعة إياها إلى سلوك سبيل الانتحار، بالتالي نحن هنا أمام مسرحية عن الحب والشغف والعواطف لعل في إمكاننا حسبانها الأولى من هذا النسغ في تاريخ المسرح العالمي.
لكننا حين نقول شغفاً وحباً وعواطف يتعين علينا على الفور أن نفترض أعداداً لا تحصى من التفسيرات والتحليلات للشخصيات والمواقف تصل في معظم الأحيان إلى هاوية التناقض، ولعل انتصار جان راسين (1639 – 1699) يكمن هنا بالتحديد إذ كثف المواقف والتحليلات المضمرة إلى درجة عرف معها كيف يخلق كل التناقضات المفترضة ليودعها جوّانية فيدرا فتصبح بالتالي نساء كثيرات في امرأة واحدة وكل عاشقات التاريخ في عاشقة واحدة، فهو أوصل العواطف إلى ذروة تجعل من الصعب علينا العثور في تاريخ الفن، وفن المسرح بشكل خاص، على إمرأة تضاهي المرأة فيدرا وتحمل من التناقض ما تحمله فيدرا، وهذا ما يجعل المتابع للشخصية ودوافعها وانفعالاتها وآلامها يتوه مهما حاول أن يعثر على دروب يسلكها للتواصل مع هذه الشخصية. صحيح أننا للوهلة الأولى أمام حدث مفرط في عاديته: زوجة أب تعشق ابن زوجها الذي يصغرها بالتأكيد، لكن فيدرا لها مبرراتها، فهي الأخرى لا تزال في شرخ الصبا، وهي زُوّجت من تيزيوس رغماً عنها هو الذي يفوق سنه ضعفي سنها، ثم ها هو الآن غائب منذ نصف عام تاركاً ابنه الوسيم في عهدة الزوجة الشابة، ترى هل يمكن أحد حقاً لوم فيدرا على ما تشعر به؟ مبدئياً لا يلومها أحد، لكن هيبوليت لا يلومها فقط، بل يرفضها تماماً، وهذا ما يجعلها أشبه بمراهقة عذراء تتشوق إلى فارس أحلامها و"تكتشف في داخلها كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه، تلك الكهرباء الجوّانية التي تلسعها دون هوادة ولا تبدو قادرة على إبداء أية مقاومة لها". ولعل ما يكشف تلك اللوعة كلها ذلك المشهد الرهيب حين تقرر أن تعترف أخيراً بما بها لهيبوليت مباشرة فلا تجد لديه من رد يتجاوز تعبيره عن احتقاره لها فلا يكون منها إلا أن تقول له "ببساطة مرعبة"، "إذا لم يكن بإمكانك أن تمد إلي يد الخلاص، مد إلي بسيفك ينقذني مما أنا فيه!". لكن هيبوليت لا يمد لها، كما نعرف، لا يد الخلاص ولا السيف البتار المنقذ. ويقيناً أن راسين أوصل الأمور والعواطف والتناقضات هنا إلى أقصى ما يستطيعه كاتب، أي إلى تلك المشاعر المتطرفة التي تجعل كل فنانة مسرح كبيرة تحلم بأن تؤدي ولو مرة في حياتها دور "فيدرا" في صيغته الراسينية على خشبة ما. وحسبنا في هذا السياق أن نذكر أن الكبيرة ساره برنار التصق بها طوال حياتها دورها في فيدرا بأكثر مما التصق بها أي دور آخر قامت به... فقالت مرات ومرات إنها لا تشعر ولو دقيقة في حياتها أنها غير راغبة في أن ترى فيدرا ولو في أحلامها.
نيسان ـ نشر في 2023/05/06 الساعة 00:00