العمل والتثقيف في عالم متغير
نيسان ـ نشر في 2023/05/17 الساعة 00:00
يسألني أصدقاء وشباب عن الاتجاهات المقترحة والمرغوبة في القراءة والتعلم والتثقيف وفي التخصصات والأعمال والمهن. والحال أنّنا جميعاً على اختلاف أعمارنا وأعمالنا ومعرفتنا وتجاربنا نواجه مرحلة من عدم اليقين، ولا يكاد أحد يكون قادراً على الإجابة، ولا نملك سوى اكتساب المهارات الفكرية العامة التي تساعدنا على الاختيار وإدارة الأزمة والقلق الذي يعصف بالعالم.
ونصيحتي للشباب المقدمين على اختيار التخصصات في الدراسة والعمل والحياة أن يجمعوا في وقت واحد بين اتجاهات معرفية وعملية عدة برغم الجهود والتضحيات المطلوبة؛ لأنّ التقدم العلمي والمهني صار يكمن في تداخلات التخصصات والأعمال وعلى تخومها المشتركة.
ومهما كان التخصص الرئيسي الذي يختاره أحدنا للدراسة (سأعود إلى فكرة التخصص في نهاية المقال)، فإنّه يحتاج إلى معرفة ومهارات متقدمة إضافة إلى تخصصه، ومنها: الحاسوب والبرمجة، والفلسفة وعلم النفس والفنون والآداب والتاريخ؛ لأنّها معارف تعلّم الإنسان، مهما كان تخصصه وعمله، الإبداع والتفكير النقدي والقدرة على تقدير المستقبل وإدراك الواقع والارتقاء بالذات، وأن يكون ذاتاً فاعلة ومؤثرة، ويعيش في سلام وانسجام، ويحمي نفسه من الهشاشة والاكتئاب والأوهام والأزمات النفسية.
ويحتاج كلّ إنسان مهما كان تخصصه العلمي والمعرفي أن يعلّم نفسه الصيانة والمهارات التي تساعده في بيته وسيارته وحياته وشأنه الخاص، ويمكن أيضاً أن يعتمد عليها في العمل الإضافي، إن لم يكن الرئيسي، مثل النجارة والحدادة والصيانة وأعمال البناء والزراعة والمهارات التكنولوجية المتقدمة.
وهناك انشغالات ذاتية أو مهنية لكلّ واحد منا، ويحتاج أن يثقف نفسه فيها، مثل الاقتصاد والإصلاح والتنمية والمشاركة والرعاية الصحية والاجتماعية والانتماء والفنون والثقافة والرياضة والانتخابات والنقابات والبلديات والأحزاب والحكم والسياسة والبيئة والتغير المناخي.
نحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضي لنعلّم أنفسنا كثيراً من المعارف والمهارات، لنكون في الحدّ الأدنى قادرين على أن نعيش حياتنا أصحاء، وقادرين على البقاء والاستيعاب في مرحلة لا مكان فيها للجهلة ولا عذر للضعفاء
وتنشأ اتجاهات وتحديات جديدة مشتركة يجب الاهتمام بها على مستوى الأفراد والمجتمعات والسلطات، ويجب الانشغال بها على نحو يعلم الأفراد والمؤسسات التكيّف مع التحوّلات والفرص الجديدة الناشئة، ومن ذلك:
1- الصحة والتعليم والتكامل الاجتماعي تتحول إلى أولويات كبرى للأمم بكلّ مكوناتها (أفراد ومجتمعات وحكومات وأسواق ومؤسسات، وقيم ومجال عمومي...)، وببساطة نحتاج أن نسأل أنفسنا على كلّ مستوى، كيف نعيش أطول حياة ممكنة في صحة جيدة، ونكتسب بكفاءة المعارف والمهارات التي نحتاجها لنعمل ونحيا حياة أفضل؟
2- أسلوب الحياة الجديد الناشئ عن فرص وتحديات العمل والتعليم من بُعد، وما تتيحه التكنولوجيا الشبكية من آفاق ومجالات، ومن ذلك الدور الجديد للأفراد والأسر والمجتمعات، وتخطيط المدن والأحياء والبيوت لتلائم التحولات، والدور الجديد للمدارس والمعلمين.
3- الذات الفاعلة، ففي هذه التحولات يصعد الفرد باعتباره الضامن للعقد الاجتماعي الجديد، كما أنّه حجر الأساس في العمل والمؤسسات، وباختصار نحتاج أن نفكر على كلّ مستوى في الإنسان الذي يُعلّم نفسه بنفسه، ويعمل بنفسه لنفسه، ويداوي نفسه بنفسه.
4- أصبح التكامل الاجتماعي قضية سياسية واجتماعية وفردية أيضاً، وباختصار يجب أن نجيب عن سؤال كيف ندمج كبار السن والمعوقين والمرضى في المجتمع والحياة والأعمال؟ وكيف نتجنب التحديات الاجتماعية مثل الجريمة والاكتئاب والإدمان والانتحار وحوادث السير؟
5- السلوك الاجتماعي يتكرس كإطار أساسي للمجال العام والحياة على النحو الذي يحمي من حوادث السير والضغوط النفسية والأزمات والتفكك الاجتماعي والعداء الشخصي والعنصرية والتعصب والكراهية والعجز عن التعايش والاندماج والمشاركة.
6- يصعد دور الثقافة والفنون والآداب والمسرح والموسيقى كإطار داعم للأفراد والمجتمعات والعلاقات بين الناس يرتقي بالحياة وينشئ بديلاً أو شريكاً للمؤسسات التعليمية والمهنية والإرشادية والأسر والمدارس، ويعوّض غياب علاقات العمل والزمالة والجيرة والقرابة المتجهة إلى الانحسار والتشتت.
بالنسبة إلى التخصصات والأعمال الجديدة؛ الموضوع محير ومُربك؛ لأنّنا نمرّ بمرحلة انتقالية، ولا نعرف ما الذي سيبقى من الأعمال والتخصصات والمهن، وما الذي سيختفي، وما الذي سيتغير، وما سوف يتغير، لا نعرف إلى أين يتغير أو يمضي؟
لقد نشأت الجامعات وتطوّرت التخصصات العلمية والمهنية وتقاليد البحث العلمي والدراسة، في سياق (3) بيئات مؤسسية منشئة، وهي:
1- المؤسسات الدينية؛ إذ نشأت كلّ الجامعات العريقة والتاريخية لأغراض التعليم الديني أو برعاية المؤسسات الدينية، مثل؛ أكسفورد وكامبريدج والأزهر والزيتونة وبولونيا وهارفارد والقديس يوسف وأمّ القرى والإسلامية في المدينة المنورة وتلمسان والأمير عبد القادر الجزائري والقرويين والمحمدية (الهند) وأم درمان في السودان، وتدير المؤسسات الكاثوليكية وتملك حوالي (1400) جامعة، وينطبق الأمر على الكنائس الأرثوذكسية والإنجيلية.
2- الأرستقراطية في العصور الوسطى، التي رعت الفلسفة والآداب والفنون والموسيقى والمسرح.
3- النقابات والشركات والأسواق التي أنشأت الدراسات العلمية والتقنية والمهنية في الطب والهندسة والمحاماة والقضاء والصيدلة والتمريض والإدارة والمحاسبة والأعمال، والتدريس والتدريب.
ويبدو واضحاً أنّها بيئة أو بيئات تتعرّض لتغيير عميق، بل زوال وانحسار، كما هو شأن الأرستقراطية، ويتغير دورها وأثرها ومستقبلها أيضاً، فالتعليم الديني يواجه تحوّلاً كبيراً في الدور الديني للدولة، وكذلك دور المؤسسات الدينية في المجتمع، ويتحوّل الدين إلى شأن فردي، وفي المجال العام يتحوّل إلى فكر وعمل إنساني واجتماعي وثقافي، ومن ثم فإنّ رجل الدين الجديد أو المطلوب أصبح مختلفاً عمّا تنتجه وتعمل لأجله المؤسسات الدينية التعليمية أو التعليم الديني في المدارس والجامعات. إنّ المرشد الديني أو المعلم أو العامل في المجال الديني يخضع اليوم إلى مراجعات إستراتيجية تغيّر جذرياً في المؤسسات وفي التعليم وفي التخصصات، وأمّا الدور الديني في المجال العام، مثل الاقتصاد والتشريع والقضاء، فإنّه ينتقل إلى الكليّات المتخصصة في القانون والاقتصاد، وأمّا الدين كظاهرة اجتماعية وثقافية، فإنّه أصبح جزءاً من الدراسات والتخصصات الإنسانية والاجتماعية، مثل السوسيولوجي والإنثروبولوجي والتاريخ والسياسة وعلم النفس، بل إنّ العلوم البحتة والتطبيقية، وخاصة البيولوجيا والطب، أصبحت تهتم بالسلوك الديني.
وهكذا فإنّ الدراسات الدينية تتجزأ وتتداخل وتتعقد أيضاً حسب أغراضها وأهدافها، كاللاهوت والتعليم والإرشاد والتشريع والاقتصاد والعلوم الإنسانية والاجتماعية والبحتة.
وبانحسار أو زوال الطبقة الأرستقراطية، فإنّ الفلسفة والآداب والفنون والموسيقى والمسرح اقتسمتها المؤسسات الوريثة من الحكومات والشركات والأسواق والطبقات البورجوازية الناشئة من رحم الأعمال والمهن والعلوم والتكنولوجيا أكثر ممّا هي مرتبطة بالأرض والزراعة والفروسية المنشئة للأرستقراطية والإقطاع.
تنشأ اتجاهات وتحديات جديدة مشتركة يجب الاهتمام بها على مستوى الأفراد والمجتمعات والسلطات، ويجب الانشغال بها على نحو يعلم الأفراد والمؤسسات التكيّف مع التحوّلات والفرص الجديدة الناشئة
وهكذا، فإنّ ثمّة حاجة للتساؤل والإجابة العملية كما التنظيرية عن موقع العلوم الاجتماعية والإنسانية (الاجتماع والسياسة والقانون والفلسفة والتاريخ والفنون والآداب واللغات والموسيقى والمسرح) في التعليم والإدارة والأسواق والمهن والتنظيم الاجتماعي والسياسي للأمم.
وأمّا العلوم والتكنولوجيا التي ازدهرت وصعدت في عصر الثورة الصناعية حتى إنّها طغت على كلّ ما عداها، فإنّها تواجه اليوم تحديات ناشئة عن الحوسبة والشبكية تعيد تعريفها ودورها، وما سوف يبقى منها وما يتغير وما ينحسر أو يختفي.
لقد غيرت تكنولوجيا المعرفة في المهن والأعمال على نحو جذري، وأصبح ثمّة حاجة لتعريف الطبيب والمهندس والمحامي والمترجم والمعلم والمرشد والمحاسب والبيروقراطي، وأنشأت أيضاً تخصصات وأعمالاً جديدة تحتاج إلى تأسيس وتنظيم واستيعاب، مثل البرمجة والحوسبة والفضاء الشبكي بما يجري فيه من أعمال.
إنّ موضوع التخصصات الجامعية والمهنية يحتاج إلى مقالة مستقلة، ربما أعود إليها، ولكن ما أختم به مقالتي هذه، إنّنا جميعاً، وخاصة الشباب، نحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضي لنعلّم أنفسنا كثيراً من المعارف والمهارات، لنكون في الحدّ الأدنى قادرين على أن نعيش حياتنا أصحاء، وقادرين على البقاء والاستيعاب في مرحلة لا مكان فيها للجهلة ولا عذر للضعفاء.
ونصيحتي للشباب المقدمين على اختيار التخصصات في الدراسة والعمل والحياة أن يجمعوا في وقت واحد بين اتجاهات معرفية وعملية عدة برغم الجهود والتضحيات المطلوبة؛ لأنّ التقدم العلمي والمهني صار يكمن في تداخلات التخصصات والأعمال وعلى تخومها المشتركة.
ومهما كان التخصص الرئيسي الذي يختاره أحدنا للدراسة (سأعود إلى فكرة التخصص في نهاية المقال)، فإنّه يحتاج إلى معرفة ومهارات متقدمة إضافة إلى تخصصه، ومنها: الحاسوب والبرمجة، والفلسفة وعلم النفس والفنون والآداب والتاريخ؛ لأنّها معارف تعلّم الإنسان، مهما كان تخصصه وعمله، الإبداع والتفكير النقدي والقدرة على تقدير المستقبل وإدراك الواقع والارتقاء بالذات، وأن يكون ذاتاً فاعلة ومؤثرة، ويعيش في سلام وانسجام، ويحمي نفسه من الهشاشة والاكتئاب والأوهام والأزمات النفسية.
ويحتاج كلّ إنسان مهما كان تخصصه العلمي والمعرفي أن يعلّم نفسه الصيانة والمهارات التي تساعده في بيته وسيارته وحياته وشأنه الخاص، ويمكن أيضاً أن يعتمد عليها في العمل الإضافي، إن لم يكن الرئيسي، مثل النجارة والحدادة والصيانة وأعمال البناء والزراعة والمهارات التكنولوجية المتقدمة.
وهناك انشغالات ذاتية أو مهنية لكلّ واحد منا، ويحتاج أن يثقف نفسه فيها، مثل الاقتصاد والإصلاح والتنمية والمشاركة والرعاية الصحية والاجتماعية والانتماء والفنون والثقافة والرياضة والانتخابات والنقابات والبلديات والأحزاب والحكم والسياسة والبيئة والتغير المناخي.
نحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضي لنعلّم أنفسنا كثيراً من المعارف والمهارات، لنكون في الحدّ الأدنى قادرين على أن نعيش حياتنا أصحاء، وقادرين على البقاء والاستيعاب في مرحلة لا مكان فيها للجهلة ولا عذر للضعفاء
وتنشأ اتجاهات وتحديات جديدة مشتركة يجب الاهتمام بها على مستوى الأفراد والمجتمعات والسلطات، ويجب الانشغال بها على نحو يعلم الأفراد والمؤسسات التكيّف مع التحوّلات والفرص الجديدة الناشئة، ومن ذلك:
1- الصحة والتعليم والتكامل الاجتماعي تتحول إلى أولويات كبرى للأمم بكلّ مكوناتها (أفراد ومجتمعات وحكومات وأسواق ومؤسسات، وقيم ومجال عمومي...)، وببساطة نحتاج أن نسأل أنفسنا على كلّ مستوى، كيف نعيش أطول حياة ممكنة في صحة جيدة، ونكتسب بكفاءة المعارف والمهارات التي نحتاجها لنعمل ونحيا حياة أفضل؟
2- أسلوب الحياة الجديد الناشئ عن فرص وتحديات العمل والتعليم من بُعد، وما تتيحه التكنولوجيا الشبكية من آفاق ومجالات، ومن ذلك الدور الجديد للأفراد والأسر والمجتمعات، وتخطيط المدن والأحياء والبيوت لتلائم التحولات، والدور الجديد للمدارس والمعلمين.
3- الذات الفاعلة، ففي هذه التحولات يصعد الفرد باعتباره الضامن للعقد الاجتماعي الجديد، كما أنّه حجر الأساس في العمل والمؤسسات، وباختصار نحتاج أن نفكر على كلّ مستوى في الإنسان الذي يُعلّم نفسه بنفسه، ويعمل بنفسه لنفسه، ويداوي نفسه بنفسه.
4- أصبح التكامل الاجتماعي قضية سياسية واجتماعية وفردية أيضاً، وباختصار يجب أن نجيب عن سؤال كيف ندمج كبار السن والمعوقين والمرضى في المجتمع والحياة والأعمال؟ وكيف نتجنب التحديات الاجتماعية مثل الجريمة والاكتئاب والإدمان والانتحار وحوادث السير؟
5- السلوك الاجتماعي يتكرس كإطار أساسي للمجال العام والحياة على النحو الذي يحمي من حوادث السير والضغوط النفسية والأزمات والتفكك الاجتماعي والعداء الشخصي والعنصرية والتعصب والكراهية والعجز عن التعايش والاندماج والمشاركة.
6- يصعد دور الثقافة والفنون والآداب والمسرح والموسيقى كإطار داعم للأفراد والمجتمعات والعلاقات بين الناس يرتقي بالحياة وينشئ بديلاً أو شريكاً للمؤسسات التعليمية والمهنية والإرشادية والأسر والمدارس، ويعوّض غياب علاقات العمل والزمالة والجيرة والقرابة المتجهة إلى الانحسار والتشتت.
بالنسبة إلى التخصصات والأعمال الجديدة؛ الموضوع محير ومُربك؛ لأنّنا نمرّ بمرحلة انتقالية، ولا نعرف ما الذي سيبقى من الأعمال والتخصصات والمهن، وما الذي سيختفي، وما الذي سيتغير، وما سوف يتغير، لا نعرف إلى أين يتغير أو يمضي؟
لقد نشأت الجامعات وتطوّرت التخصصات العلمية والمهنية وتقاليد البحث العلمي والدراسة، في سياق (3) بيئات مؤسسية منشئة، وهي:
1- المؤسسات الدينية؛ إذ نشأت كلّ الجامعات العريقة والتاريخية لأغراض التعليم الديني أو برعاية المؤسسات الدينية، مثل؛ أكسفورد وكامبريدج والأزهر والزيتونة وبولونيا وهارفارد والقديس يوسف وأمّ القرى والإسلامية في المدينة المنورة وتلمسان والأمير عبد القادر الجزائري والقرويين والمحمدية (الهند) وأم درمان في السودان، وتدير المؤسسات الكاثوليكية وتملك حوالي (1400) جامعة، وينطبق الأمر على الكنائس الأرثوذكسية والإنجيلية.
2- الأرستقراطية في العصور الوسطى، التي رعت الفلسفة والآداب والفنون والموسيقى والمسرح.
3- النقابات والشركات والأسواق التي أنشأت الدراسات العلمية والتقنية والمهنية في الطب والهندسة والمحاماة والقضاء والصيدلة والتمريض والإدارة والمحاسبة والأعمال، والتدريس والتدريب.
ويبدو واضحاً أنّها بيئة أو بيئات تتعرّض لتغيير عميق، بل زوال وانحسار، كما هو شأن الأرستقراطية، ويتغير دورها وأثرها ومستقبلها أيضاً، فالتعليم الديني يواجه تحوّلاً كبيراً في الدور الديني للدولة، وكذلك دور المؤسسات الدينية في المجتمع، ويتحوّل الدين إلى شأن فردي، وفي المجال العام يتحوّل إلى فكر وعمل إنساني واجتماعي وثقافي، ومن ثم فإنّ رجل الدين الجديد أو المطلوب أصبح مختلفاً عمّا تنتجه وتعمل لأجله المؤسسات الدينية التعليمية أو التعليم الديني في المدارس والجامعات. إنّ المرشد الديني أو المعلم أو العامل في المجال الديني يخضع اليوم إلى مراجعات إستراتيجية تغيّر جذرياً في المؤسسات وفي التعليم وفي التخصصات، وأمّا الدور الديني في المجال العام، مثل الاقتصاد والتشريع والقضاء، فإنّه ينتقل إلى الكليّات المتخصصة في القانون والاقتصاد، وأمّا الدين كظاهرة اجتماعية وثقافية، فإنّه أصبح جزءاً من الدراسات والتخصصات الإنسانية والاجتماعية، مثل السوسيولوجي والإنثروبولوجي والتاريخ والسياسة وعلم النفس، بل إنّ العلوم البحتة والتطبيقية، وخاصة البيولوجيا والطب، أصبحت تهتم بالسلوك الديني.
وهكذا فإنّ الدراسات الدينية تتجزأ وتتداخل وتتعقد أيضاً حسب أغراضها وأهدافها، كاللاهوت والتعليم والإرشاد والتشريع والاقتصاد والعلوم الإنسانية والاجتماعية والبحتة.
وبانحسار أو زوال الطبقة الأرستقراطية، فإنّ الفلسفة والآداب والفنون والموسيقى والمسرح اقتسمتها المؤسسات الوريثة من الحكومات والشركات والأسواق والطبقات البورجوازية الناشئة من رحم الأعمال والمهن والعلوم والتكنولوجيا أكثر ممّا هي مرتبطة بالأرض والزراعة والفروسية المنشئة للأرستقراطية والإقطاع.
تنشأ اتجاهات وتحديات جديدة مشتركة يجب الاهتمام بها على مستوى الأفراد والمجتمعات والسلطات، ويجب الانشغال بها على نحو يعلم الأفراد والمؤسسات التكيّف مع التحوّلات والفرص الجديدة الناشئة
وهكذا، فإنّ ثمّة حاجة للتساؤل والإجابة العملية كما التنظيرية عن موقع العلوم الاجتماعية والإنسانية (الاجتماع والسياسة والقانون والفلسفة والتاريخ والفنون والآداب واللغات والموسيقى والمسرح) في التعليم والإدارة والأسواق والمهن والتنظيم الاجتماعي والسياسي للأمم.
وأمّا العلوم والتكنولوجيا التي ازدهرت وصعدت في عصر الثورة الصناعية حتى إنّها طغت على كلّ ما عداها، فإنّها تواجه اليوم تحديات ناشئة عن الحوسبة والشبكية تعيد تعريفها ودورها، وما سوف يبقى منها وما يتغير وما ينحسر أو يختفي.
لقد غيرت تكنولوجيا المعرفة في المهن والأعمال على نحو جذري، وأصبح ثمّة حاجة لتعريف الطبيب والمهندس والمحامي والمترجم والمعلم والمرشد والمحاسب والبيروقراطي، وأنشأت أيضاً تخصصات وأعمالاً جديدة تحتاج إلى تأسيس وتنظيم واستيعاب، مثل البرمجة والحوسبة والفضاء الشبكي بما يجري فيه من أعمال.
إنّ موضوع التخصصات الجامعية والمهنية يحتاج إلى مقالة مستقلة، ربما أعود إليها، ولكن ما أختم به مقالتي هذه، إنّنا جميعاً، وخاصة الشباب، نحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضي لنعلّم أنفسنا كثيراً من المعارف والمهارات، لنكون في الحدّ الأدنى قادرين على أن نعيش حياتنا أصحاء، وقادرين على البقاء والاستيعاب في مرحلة لا مكان فيها للجهلة ولا عذر للضعفاء.
نيسان ـ نشر في 2023/05/17 الساعة 00:00