القصة الطويلة للتنمية السياسية في الأردن .. معدلات متدنية للأمل
نيسان ـ نشر في 2023/05/23 الساعة 00:00
لا توجد حكومات متماثلة في العالم، لا في عدد الوزارات ولا في طبيعتها، فلكل دولة ظروفها الخاصة وهو ما يفسر وجود وزارة مستقلة للثروة السمكية في بلد مثل سريلانكا، وفي المقابل توجد وزارات لا تكاد تخلو أي حكومة في العالم منها، مثل الخارجية والداخلية والصحة والتعليم، باختلاف طفيف في المسميات من دولة إلى أخرى.
في الأردن توجد لدينا ظاهرة خاصة يمكن وصفها بالحكومة الكبيرة، أو الأكبر من اللازم، وبعد مجموعة من الحكومات الصغيرة نسبياً، عاودت الأردن مع حكومة هاني الملقي المجاورة لمتوسط يناهز ثلاثين وزيراً في الحكومة الواحدة، وهو المعدل الكبير مقارنة مع دولة ثرية مثل النرويج 15 وزارة، وأخرى كبيرة سكانياً وذات اقتصاد صاعد مثل تركيا 17 وزارة، وأخرى صناعية مثل كوريا الجنوبية 17 وزارة، نجد أن أي مبرر موضوعي لحجم الحكومة الأردنية خالياً من المنطق وحتى من الوجاهة الشكلية.
في دولة مثل كوريا الجنوبية توجد وزارة الوحدة التي تسعى إلى تهيئة الظروف الموضوعية، لعلها تتشكل يوماً، من أجل توحيد شطري كوريا، وتأتت هذه الوزارة ووجودها ومخصصاتها من سياق لا تشترك فيه دول عربية أخرى، وهو ما يمكن أن يفسر في لحظة ما أن تكون لدينا في المستقبل تختص بمشروع الشام الجديد، مع أن مؤشرات وجود وزارة تستهدف سياقاً معيناً عملية غير مشجعة في الأردن، ووزارة التنمية السياسية والتي ألحقت بعد ذلك بالشؤون البرلمانية أو دمجت معها، أياً يكن، نموذج غير مشجع.
الشعبوي، هو أن نحمل الوزراء الذين تتابعوا على الوزارة المسؤولية الكاملة، ولكن ذلك غير منصف، فالتنمية السياسية في بلد مثل الأردن مسألة صعبة وتعود جذور استغلاقها إلى أكثر من سبعين عاماً، وفي النهاية لم نتحصل في الأردن على نظام مركزي مثل دول الخليج العربي أو أنظمة الجمهوركيات العربية، بمعنى سعي الأجهزة كاملة لخلق البيئة المواتية لتنفيذ الأوامر العليا، ولا تحصلنا على حكومة منتخبة تتحمل المسؤولية لأن الظروف كانت أكثر تعقيداً من ذلك.
هنا نحتاج إلى بعض التفصيل، فمن يحمل العبارة المسكوكة التي يتداولها المسؤولون حين يقولون تنفيذاً للتوجيهات الملكية أو ترجمة للرؤية الملكية على محمل الجد، فإنه يتجاهل أن هذه العبارة تحديداً تمثل أقصى تجليات ظاهرة الاختباء وراء الملك، وكم من حكومات تحدثت عن رؤاها ومشاريعها وفي النهاية قامت بتصدير أسطوانة الولاية العامة، والملك، في اتخاذه القرار السياسي بتشكيل الحكومة ينظر إلى معروض سياسي يشابه ما يتلقاه المواطن من حيث النوع، ويفوقه بطبيعة الحال في المقدار، ولكنها نفس البيئة السياسية التي تشكلت خلال عقود من الزمن، وبذلك يمكن أن نتفهم مقولة (الضغط من فوق ومن الأسفل) وهي غير المفهومة في الثقافة السياسية العربية بشكل عام، والأردن ليس استثناءً.
الحديث هو عن نخبة سياسية تشكلت خلال سنوات طويلة، وتضافرت مع وقائع اقتصادية واجتماعية، وما هو متاح أمام الجميع، هو العمل على إصلاحها وتنظيمها وترويضها، وليس ضربها أو محاصرتها أو تفكيكها، فالفعل الثوري لحظي وليس صعباً، ولكن الإصلاح هو المسألة التي تتطلب بالفعل حكمة ومثابرة وصبراً.
كان الأردن من الدول العربية التي ذهبت لتجربة الحكومة المنتخبة مبكراً، ولكن التجربة كانت محبطة في بعض التفاصيل، ولا يمكن أن نعتبر الأمر مبالغة لو تحدثنا عن نتائج كارثية كانت ستنتجها حكومة قومية التوجه في فترة الصعود الناصري والمنافسة مع البعثين، وكانت المحطة الكارثية للخيبة تتمثل في حرب حزيران 1967، وللتوقف في مشهد لمعاينة النخبة الأردنية يمكن الحديث في مرحلة ما عن تواجد حزبين بعثيين كان أحدهما بغدادي الهوى والآخر دمشقياً.
الأرض الوعرة لم تسفر إلا عن مشهد حزبي مزدحم لا يفارق كثيراً المشهد السابق، وبعض الأمور كان يمكن معالجتها من الوزراء الذين تولوا المسؤولية خاصة أن معظمهم كانوا يمتلكون تجربة سياسية، فبعض الأحزاب من مبادئها وبرامجها كان يجب أن تكون حزباً واحداً، وهذه أمور كان يمكن للوزير المختص أن يعالجها من خلال التدخل والمتابعة والنقاش، وهي تمثل العمل الميداني بالنسبة لهذه الوزارة، فوزير الصحة لديه المستشفيات ليعاينها، ووزير التعليم المدارس، فما الذي كان يحول دون الدخول في المناقشات الضرورية من أجل البحث في تدشين عدد أقل من الأحزاب يمكن أن ينظم جانب العرض السياسي.
ربما يحمل ذلك بعض التجني على الوزارة ووزرائها، فالزحام يولد قدراً من الإزعاج بالضرورة، وعدد الذين يرضون عن الأمور في الأردن دائماً أقل بكثير من عدد الغاضبين، ووتيرة إنتاج المصطلحات والاتهامات والمظلوميات متصاعدة وضاغطة.
يتبقى أن الوزارة تعمل لوحدها شأن العديد من الوزارات الأخرى، والتخصصات تتداخل، ويمكن الرجوع إلى تقرير حالة البلاد 2021 وتأكيده الواضح على دور تعديل المناهج فيما يتعلق بالتربية المدنية والديمقراطية ومفاهيم المواطنة والحوار، وجميعها أمور كان وزير التربية والتعليم يسعى للعمل عليها عندما كان في المركز الوطني لتطوير المناهج، وكنت قريباً بصورة شخصية من الحملات التي تعرض لها المركز مع إقرار مناهج الرياضيات والعلوم للصفوف الأولى، وأؤمن أن المسألة ستبقى عرضة للإعاقة نتيجة الزحام ونزعة (البرامجية) مغلوطة الفهم في الأحزاب التي يفترض أن تتولى المسؤولية لأنها لم تتعرض للغربلة المطلوبة إلا في الجانب الإجرائي والتنظيمي.
قصة التنمية السياسية التي تحولت إلى الشؤون السياسية وتداخلت مع البرلمانية، تبقى أحد وجوه مشكلة الحكومات في الأردن من حيث رؤيتها للوظائف المناطة بها، وزحامها غير البناء، واجتهادات الدمج والفصل، بما يولد مزيداً من التداخل والإعاقة، وهي قصة متواصلة وستبقى ما دامت النخبة أو النخب السياسية تعتمد على السيولة وتحمل ما تحمله من ادعاءات وتصورات غير مختبرة على أرض الواقع.
الرأي
في الأردن توجد لدينا ظاهرة خاصة يمكن وصفها بالحكومة الكبيرة، أو الأكبر من اللازم، وبعد مجموعة من الحكومات الصغيرة نسبياً، عاودت الأردن مع حكومة هاني الملقي المجاورة لمتوسط يناهز ثلاثين وزيراً في الحكومة الواحدة، وهو المعدل الكبير مقارنة مع دولة ثرية مثل النرويج 15 وزارة، وأخرى كبيرة سكانياً وذات اقتصاد صاعد مثل تركيا 17 وزارة، وأخرى صناعية مثل كوريا الجنوبية 17 وزارة، نجد أن أي مبرر موضوعي لحجم الحكومة الأردنية خالياً من المنطق وحتى من الوجاهة الشكلية.
في دولة مثل كوريا الجنوبية توجد وزارة الوحدة التي تسعى إلى تهيئة الظروف الموضوعية، لعلها تتشكل يوماً، من أجل توحيد شطري كوريا، وتأتت هذه الوزارة ووجودها ومخصصاتها من سياق لا تشترك فيه دول عربية أخرى، وهو ما يمكن أن يفسر في لحظة ما أن تكون لدينا في المستقبل تختص بمشروع الشام الجديد، مع أن مؤشرات وجود وزارة تستهدف سياقاً معيناً عملية غير مشجعة في الأردن، ووزارة التنمية السياسية والتي ألحقت بعد ذلك بالشؤون البرلمانية أو دمجت معها، أياً يكن، نموذج غير مشجع.
الشعبوي، هو أن نحمل الوزراء الذين تتابعوا على الوزارة المسؤولية الكاملة، ولكن ذلك غير منصف، فالتنمية السياسية في بلد مثل الأردن مسألة صعبة وتعود جذور استغلاقها إلى أكثر من سبعين عاماً، وفي النهاية لم نتحصل في الأردن على نظام مركزي مثل دول الخليج العربي أو أنظمة الجمهوركيات العربية، بمعنى سعي الأجهزة كاملة لخلق البيئة المواتية لتنفيذ الأوامر العليا، ولا تحصلنا على حكومة منتخبة تتحمل المسؤولية لأن الظروف كانت أكثر تعقيداً من ذلك.
هنا نحتاج إلى بعض التفصيل، فمن يحمل العبارة المسكوكة التي يتداولها المسؤولون حين يقولون تنفيذاً للتوجيهات الملكية أو ترجمة للرؤية الملكية على محمل الجد، فإنه يتجاهل أن هذه العبارة تحديداً تمثل أقصى تجليات ظاهرة الاختباء وراء الملك، وكم من حكومات تحدثت عن رؤاها ومشاريعها وفي النهاية قامت بتصدير أسطوانة الولاية العامة، والملك، في اتخاذه القرار السياسي بتشكيل الحكومة ينظر إلى معروض سياسي يشابه ما يتلقاه المواطن من حيث النوع، ويفوقه بطبيعة الحال في المقدار، ولكنها نفس البيئة السياسية التي تشكلت خلال عقود من الزمن، وبذلك يمكن أن نتفهم مقولة (الضغط من فوق ومن الأسفل) وهي غير المفهومة في الثقافة السياسية العربية بشكل عام، والأردن ليس استثناءً.
الحديث هو عن نخبة سياسية تشكلت خلال سنوات طويلة، وتضافرت مع وقائع اقتصادية واجتماعية، وما هو متاح أمام الجميع، هو العمل على إصلاحها وتنظيمها وترويضها، وليس ضربها أو محاصرتها أو تفكيكها، فالفعل الثوري لحظي وليس صعباً، ولكن الإصلاح هو المسألة التي تتطلب بالفعل حكمة ومثابرة وصبراً.
كان الأردن من الدول العربية التي ذهبت لتجربة الحكومة المنتخبة مبكراً، ولكن التجربة كانت محبطة في بعض التفاصيل، ولا يمكن أن نعتبر الأمر مبالغة لو تحدثنا عن نتائج كارثية كانت ستنتجها حكومة قومية التوجه في فترة الصعود الناصري والمنافسة مع البعثين، وكانت المحطة الكارثية للخيبة تتمثل في حرب حزيران 1967، وللتوقف في مشهد لمعاينة النخبة الأردنية يمكن الحديث في مرحلة ما عن تواجد حزبين بعثيين كان أحدهما بغدادي الهوى والآخر دمشقياً.
الأرض الوعرة لم تسفر إلا عن مشهد حزبي مزدحم لا يفارق كثيراً المشهد السابق، وبعض الأمور كان يمكن معالجتها من الوزراء الذين تولوا المسؤولية خاصة أن معظمهم كانوا يمتلكون تجربة سياسية، فبعض الأحزاب من مبادئها وبرامجها كان يجب أن تكون حزباً واحداً، وهذه أمور كان يمكن للوزير المختص أن يعالجها من خلال التدخل والمتابعة والنقاش، وهي تمثل العمل الميداني بالنسبة لهذه الوزارة، فوزير الصحة لديه المستشفيات ليعاينها، ووزير التعليم المدارس، فما الذي كان يحول دون الدخول في المناقشات الضرورية من أجل البحث في تدشين عدد أقل من الأحزاب يمكن أن ينظم جانب العرض السياسي.
ربما يحمل ذلك بعض التجني على الوزارة ووزرائها، فالزحام يولد قدراً من الإزعاج بالضرورة، وعدد الذين يرضون عن الأمور في الأردن دائماً أقل بكثير من عدد الغاضبين، ووتيرة إنتاج المصطلحات والاتهامات والمظلوميات متصاعدة وضاغطة.
يتبقى أن الوزارة تعمل لوحدها شأن العديد من الوزارات الأخرى، والتخصصات تتداخل، ويمكن الرجوع إلى تقرير حالة البلاد 2021 وتأكيده الواضح على دور تعديل المناهج فيما يتعلق بالتربية المدنية والديمقراطية ومفاهيم المواطنة والحوار، وجميعها أمور كان وزير التربية والتعليم يسعى للعمل عليها عندما كان في المركز الوطني لتطوير المناهج، وكنت قريباً بصورة شخصية من الحملات التي تعرض لها المركز مع إقرار مناهج الرياضيات والعلوم للصفوف الأولى، وأؤمن أن المسألة ستبقى عرضة للإعاقة نتيجة الزحام ونزعة (البرامجية) مغلوطة الفهم في الأحزاب التي يفترض أن تتولى المسؤولية لأنها لم تتعرض للغربلة المطلوبة إلا في الجانب الإجرائي والتنظيمي.
قصة التنمية السياسية التي تحولت إلى الشؤون السياسية وتداخلت مع البرلمانية، تبقى أحد وجوه مشكلة الحكومات في الأردن من حيث رؤيتها للوظائف المناطة بها، وزحامها غير البناء، واجتهادات الدمج والفصل، بما يولد مزيداً من التداخل والإعاقة، وهي قصة متواصلة وستبقى ما دامت النخبة أو النخب السياسية تعتمد على السيولة وتحمل ما تحمله من ادعاءات وتصورات غير مختبرة على أرض الواقع.
الرأي
نيسان ـ نشر في 2023/05/23 الساعة 00:00