'المناضلون' في أبراجهم الحمراء العالية
نيسان ـ نشر في 2023/09/09 الساعة 00:00
سألت أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي قبل أيام عن أسباب تكرار الانقلابات العسكرية في البلدان الإفريقية، فأجابني بإسهاب ودقة، عرض فيهما للعوامل الداخلية؛ أي الوضع السياسي للأنظمة، بين ديموقراطيات هشة، وولاءات خارجية، وفساد يضرب أجهزة الدول، واعتقاد الجنرالات من قادة الجيوش ورؤوساء أركانها بأنهم وحدهم من يستطيع حفظ بلدانهم من خطر التفكك والحروب الأهلية.
وجاء في العوامل الخارجية التي عرضها التطبيق أن ظروف الإقليم المضطربة في علاقته مع دول الاستعمار السابق، وهي هنا فرنسا على وجه الدقة، تنعكس على الوضع الداخلي ولاسيما آليات استثمار الثروات، والتوزيع العادل لعائداتها، ما يؤدي إلى قرارات حاسمة لدى فئات من الشباب الثوري، تذهب صوب تغيير الحكومات القائمة، واستبدالها بأخرى تسعى إلى إحلال العدالة الاجتماعية وغير ذلك، إلخ.
سرررتُ جداً بطريقة الذكاء الاصطناعي في التحليل العام لجوهر المشكلة، لكن إجابته الموضّبة بإتقان ذكّرتني بالمناضلين الحزبيين الذين كنت وغيري ألجأ إليهم، حين يستعصي على عقولنا فهم جانب ما من المادية الجدلية أو شقيقتها التاريخية! حيث كان المناضل أو المناضلة يشمّر عن أدواته، ويبدأ بحفر الإجابة على سطوح عقولنا اللينة، وهو متأكد من أن ما يقوله سيبقى محفوظاً فيها طالما أننا ولسبب ما، وفي إطار سعينا إلى النضوج الأيديولوجي والسياسي، سنفقد طراوتنا الذهنية، وسنتحول شيئاً فشيئاً إلى التصلب والثبات على المبادئ، التي تتضمنها فلسفة الأيديولوجيا اليسارية!
كانت الأفكار تُقرأ وكأنها مُنزّلة، غير قابلة للتغيير، وإذا شاء أحدنا أن يجتهد قليلاً في تحري أسبابٍ، أو دوافع لا يعرف بها مسؤول الخلية الحزبية، فإن العصا جاهزةٌ من أجل إعادته إلى مسار المجموع المنتمي!
ومقابل الإصرار على سلوك درب مختلف، فإن الوصمة جاهزة لتلصق بمن يعصي، وهي محددة بالنزعة التحريفية، ومن بعدها الخيانة الطبقية، وصولاً إلى الاتهام بالعمالة للبرجوازية العفنة، والرجعية البائدة!
لم يقنعني تطبيق الذكاء الاصطناعي وهو يحاول تقديم أفضل الإجابات المدروسة، التي لا تخرج عن المنطق والمنهج المبرمج وفقهما.
وكذلك بقيت في نفسي حسرة أنني لم أواجه الرفيق الحزبي بما كنت أعرفه، من أن التحليل الذي يتبع المنهج بدقة وبإيمان كامل سيفضي إلى الديماغوجيا والجمود، وأن الحالة الخاصة لكل واحد منا تجعله يرى الأمور بطريقة مغايرة، وأن إعادة الضخ في الأفكار الثابتة دون تجديد وتلمس للمختلف، ستقضي على بذور الإبداع لدى أي رفيق في الحزب أو الجبهة، أو عند أي فرد في الجامعة والمدرسة!
يحتاج المرء دائماً لأن ينظر بطريقة مختلفة للأشياء، وأن يجرب استخدام منهجيات مختلفة عما اعتاده، لعل ذلك يسهم في وصوله إلى أهدافه التي تعثّر في مسار الوصول إليها، وتبعاً لهذا فإن ما غاب عن الذكاء الاصطناعي في تحليله للقضية الراهنة في دول الساحل الإفريقي إنما هو احتمال وجود مسعى مافيوي روسي للاستيلاء على ثروات هذه البلاد، ومناكفة الغرب من خلال "تشليح" دولة مناجم ثروات معدنية تعتمد عليها في اقتصادها، ولاسيما منها تلك التي تسهم في صناعة الطاقة، كاليورانيوم الذي تحتاجه كل أوروبا من أجل مفاعلاتها النووية التي تزودها بما تحتاجه، بعد انتهاء اعتمادها على الغاز الروسي.
وأيضاً فإن عدم قراءة النوازع النفسية ودراسة بنى الشخصيات التي تخرج من أطر مؤسسات الاستئثار بالقوة كالأمن والجيش وحتى الشرطة الوطنية، في كل المجتمعات، ستكون جزءاً من الفشل الذي يحيق بأي تحليل لا ينظر بين سطور نوايا أي ضابط يضع النجوم على كتفيه ويزين صدره بالنياشين!
فأي يد تمتلك أدوات القتل دون ضوابط أخلاقية مقوننة، لابد من أن تُفقد العقل بعضاً من حكمته، ورويته، وقبل هذا، تستهتر بالواجبات الأساسية التي تقتضيها المهنة العسكرية، وفي أولها الانضواء ضمن الحالة الدستورية التي تفترض أن تكون الدولة مدنية وديموقراطية!
فعلياً ومن دون تزويق للكلام، لا يمكن لأي عاقل أن يثق بالعسكر الذين يخرجون على قوانين الدولة التي يعملون تحت مظلتها!
لكن من أين نأتي للذكاء الاصطناعي بمثل هذه الأفكار، طالما أن من صنع لورغارتيماته افترض بأن سقف الكمال فيما يصنع إنما هو مضاهاة تفكير التطبيق لتفكير البشر؟! دون أن يترك له فرصة تأمل أخطاء هؤلاء في التفكير وفي التحليل! ولعل المصيبة الكبرى التي لم يحسب لها أحد من هؤلاء المبرمجين حساباً تكمن في أن يصبح هدف الذكاء الاصطناعي امتلاك وعي طبقي راسخ وثابت، يرمي به على الطاولة كلما سأله سائل عن أزمة هنا ومشكلة هناك!
مشكلة اليساريين عموماً والسوريين خصوصاً، وأنا أعني على وجه التحديد، أولئك الذين يتنطحون هذه الآونة لتقديم النصائح والتوصيات للثائرين على الأرض في ساحة الكرامة في مدينة السويداء المنتفضة، هي شعورهم بالامتلاء الفكري الفائق القدرة، فهم يرون أنفسهم ماكينات ذكاء طبيعي، لا يمكن لوصفتهم أن تفشل في علاج استعصاءات التجربة الثورية، وأن سبب فشل الثورة السورية إنما هو عدم اتباعها لتعليماتهم، ونزوع الفاعلين فيها إلى اتباع أساليب أخرى!
لا بل إن بعضهم يعتقد بأن الثورة قد سُرقت منهم، وها قد سنحت لهم الفرصة مرة ثانية لأن يقدموا وصفتهم للنجاح الثوري!
هذه واحدة من أطرف الاختلالات العقلية التي واجهها السوريون خلال السنوات الماضية، والتي يجب أن تُعالج من خلال إصلاح العطب النفسي الكامن لدى الفاعلين فيها، ولعل ذلك يبدأ من خلال المباغتة بصدمة السؤال؛ هل من أحد يخبرنا متى حدث أن نجحت الوصفة اليسارية في حل المشكلات المزمنة للمجتمعات التي تشبه مجتمعنا؟
ألا تكفي الجمهور معرفة التاريخ المديد من الفشل السياسي والإداري لدى اليسار حول العالم، حتى يغلق أفراده آذانهم عن سماع أي نصيحة ثورية يسارية توجه لهم وهم يهتفون بمطالب الحرية والدولة المدنية الديموقراطية؟!
وأن يهزأ هؤلاء بمن يطالبونهم بتشكيل قيادة ثورية، وكأن الجمهور الطليعي الذي غامر بكل شيء ووقف في وجه النظام تحت طائلة القنص والاستهداف بالطيران وبالبراميل المتفجرة، أميٌ، يمكن لكلمة أن تأخذه يميناً وأخرى شمالاً!
ألا تكمن وراء مطالبة الجماهير باختراع قيادتها نزعاتٌ فوقية، لا تثق بالناس وبخياراتها، ستؤدي في المحصلة إلى توسيع الهوة بين الحزب السياسي وبين الجمهور العفوي غير المنظم سياسياً، ولكنه يعي أساسيات الحل لأزمة بلده المديدة؟!
هل يمكن للرفاق الشيوعيين أن يتواضعوا، وأن يهبطوا أحياناً من أبراجهم العالية، كي يسمعوا بعض ما يهمسه الناس، خارج المناهج والجدليات والدراسات والتحليلات؟
وجاء في العوامل الخارجية التي عرضها التطبيق أن ظروف الإقليم المضطربة في علاقته مع دول الاستعمار السابق، وهي هنا فرنسا على وجه الدقة، تنعكس على الوضع الداخلي ولاسيما آليات استثمار الثروات، والتوزيع العادل لعائداتها، ما يؤدي إلى قرارات حاسمة لدى فئات من الشباب الثوري، تذهب صوب تغيير الحكومات القائمة، واستبدالها بأخرى تسعى إلى إحلال العدالة الاجتماعية وغير ذلك، إلخ.
سرررتُ جداً بطريقة الذكاء الاصطناعي في التحليل العام لجوهر المشكلة، لكن إجابته الموضّبة بإتقان ذكّرتني بالمناضلين الحزبيين الذين كنت وغيري ألجأ إليهم، حين يستعصي على عقولنا فهم جانب ما من المادية الجدلية أو شقيقتها التاريخية! حيث كان المناضل أو المناضلة يشمّر عن أدواته، ويبدأ بحفر الإجابة على سطوح عقولنا اللينة، وهو متأكد من أن ما يقوله سيبقى محفوظاً فيها طالما أننا ولسبب ما، وفي إطار سعينا إلى النضوج الأيديولوجي والسياسي، سنفقد طراوتنا الذهنية، وسنتحول شيئاً فشيئاً إلى التصلب والثبات على المبادئ، التي تتضمنها فلسفة الأيديولوجيا اليسارية!
كانت الأفكار تُقرأ وكأنها مُنزّلة، غير قابلة للتغيير، وإذا شاء أحدنا أن يجتهد قليلاً في تحري أسبابٍ، أو دوافع لا يعرف بها مسؤول الخلية الحزبية، فإن العصا جاهزةٌ من أجل إعادته إلى مسار المجموع المنتمي!
ومقابل الإصرار على سلوك درب مختلف، فإن الوصمة جاهزة لتلصق بمن يعصي، وهي محددة بالنزعة التحريفية، ومن بعدها الخيانة الطبقية، وصولاً إلى الاتهام بالعمالة للبرجوازية العفنة، والرجعية البائدة!
لم يقنعني تطبيق الذكاء الاصطناعي وهو يحاول تقديم أفضل الإجابات المدروسة، التي لا تخرج عن المنطق والمنهج المبرمج وفقهما.
وكذلك بقيت في نفسي حسرة أنني لم أواجه الرفيق الحزبي بما كنت أعرفه، من أن التحليل الذي يتبع المنهج بدقة وبإيمان كامل سيفضي إلى الديماغوجيا والجمود، وأن الحالة الخاصة لكل واحد منا تجعله يرى الأمور بطريقة مغايرة، وأن إعادة الضخ في الأفكار الثابتة دون تجديد وتلمس للمختلف، ستقضي على بذور الإبداع لدى أي رفيق في الحزب أو الجبهة، أو عند أي فرد في الجامعة والمدرسة!
يحتاج المرء دائماً لأن ينظر بطريقة مختلفة للأشياء، وأن يجرب استخدام منهجيات مختلفة عما اعتاده، لعل ذلك يسهم في وصوله إلى أهدافه التي تعثّر في مسار الوصول إليها، وتبعاً لهذا فإن ما غاب عن الذكاء الاصطناعي في تحليله للقضية الراهنة في دول الساحل الإفريقي إنما هو احتمال وجود مسعى مافيوي روسي للاستيلاء على ثروات هذه البلاد، ومناكفة الغرب من خلال "تشليح" دولة مناجم ثروات معدنية تعتمد عليها في اقتصادها، ولاسيما منها تلك التي تسهم في صناعة الطاقة، كاليورانيوم الذي تحتاجه كل أوروبا من أجل مفاعلاتها النووية التي تزودها بما تحتاجه، بعد انتهاء اعتمادها على الغاز الروسي.
وأيضاً فإن عدم قراءة النوازع النفسية ودراسة بنى الشخصيات التي تخرج من أطر مؤسسات الاستئثار بالقوة كالأمن والجيش وحتى الشرطة الوطنية، في كل المجتمعات، ستكون جزءاً من الفشل الذي يحيق بأي تحليل لا ينظر بين سطور نوايا أي ضابط يضع النجوم على كتفيه ويزين صدره بالنياشين!
فأي يد تمتلك أدوات القتل دون ضوابط أخلاقية مقوننة، لابد من أن تُفقد العقل بعضاً من حكمته، ورويته، وقبل هذا، تستهتر بالواجبات الأساسية التي تقتضيها المهنة العسكرية، وفي أولها الانضواء ضمن الحالة الدستورية التي تفترض أن تكون الدولة مدنية وديموقراطية!
فعلياً ومن دون تزويق للكلام، لا يمكن لأي عاقل أن يثق بالعسكر الذين يخرجون على قوانين الدولة التي يعملون تحت مظلتها!
لكن من أين نأتي للذكاء الاصطناعي بمثل هذه الأفكار، طالما أن من صنع لورغارتيماته افترض بأن سقف الكمال فيما يصنع إنما هو مضاهاة تفكير التطبيق لتفكير البشر؟! دون أن يترك له فرصة تأمل أخطاء هؤلاء في التفكير وفي التحليل! ولعل المصيبة الكبرى التي لم يحسب لها أحد من هؤلاء المبرمجين حساباً تكمن في أن يصبح هدف الذكاء الاصطناعي امتلاك وعي طبقي راسخ وثابت، يرمي به على الطاولة كلما سأله سائل عن أزمة هنا ومشكلة هناك!
مشكلة اليساريين عموماً والسوريين خصوصاً، وأنا أعني على وجه التحديد، أولئك الذين يتنطحون هذه الآونة لتقديم النصائح والتوصيات للثائرين على الأرض في ساحة الكرامة في مدينة السويداء المنتفضة، هي شعورهم بالامتلاء الفكري الفائق القدرة، فهم يرون أنفسهم ماكينات ذكاء طبيعي، لا يمكن لوصفتهم أن تفشل في علاج استعصاءات التجربة الثورية، وأن سبب فشل الثورة السورية إنما هو عدم اتباعها لتعليماتهم، ونزوع الفاعلين فيها إلى اتباع أساليب أخرى!
لا بل إن بعضهم يعتقد بأن الثورة قد سُرقت منهم، وها قد سنحت لهم الفرصة مرة ثانية لأن يقدموا وصفتهم للنجاح الثوري!
هذه واحدة من أطرف الاختلالات العقلية التي واجهها السوريون خلال السنوات الماضية، والتي يجب أن تُعالج من خلال إصلاح العطب النفسي الكامن لدى الفاعلين فيها، ولعل ذلك يبدأ من خلال المباغتة بصدمة السؤال؛ هل من أحد يخبرنا متى حدث أن نجحت الوصفة اليسارية في حل المشكلات المزمنة للمجتمعات التي تشبه مجتمعنا؟
ألا تكفي الجمهور معرفة التاريخ المديد من الفشل السياسي والإداري لدى اليسار حول العالم، حتى يغلق أفراده آذانهم عن سماع أي نصيحة ثورية يسارية توجه لهم وهم يهتفون بمطالب الحرية والدولة المدنية الديموقراطية؟!
وأن يهزأ هؤلاء بمن يطالبونهم بتشكيل قيادة ثورية، وكأن الجمهور الطليعي الذي غامر بكل شيء ووقف في وجه النظام تحت طائلة القنص والاستهداف بالطيران وبالبراميل المتفجرة، أميٌ، يمكن لكلمة أن تأخذه يميناً وأخرى شمالاً!
ألا تكمن وراء مطالبة الجماهير باختراع قيادتها نزعاتٌ فوقية، لا تثق بالناس وبخياراتها، ستؤدي في المحصلة إلى توسيع الهوة بين الحزب السياسي وبين الجمهور العفوي غير المنظم سياسياً، ولكنه يعي أساسيات الحل لأزمة بلده المديدة؟!
هل يمكن للرفاق الشيوعيين أن يتواضعوا، وأن يهبطوا أحياناً من أبراجهم العالية، كي يسمعوا بعض ما يهمسه الناس، خارج المناهج والجدليات والدراسات والتحليلات؟
نيسان ـ نشر في 2023/09/09 الساعة 00:00