تفكيك المجتمعات
نيسان ـ نشر في 2023/09/26 الساعة 00:00
صابر العبادي
في السابق كان لكل قرية وتجمع بشري في بلادنا، شخص يتولى أمور الناس ويقضي حاجاتهم عند السلطة، والناس تعتبره يسدي لهم جميلاً كبيراً، كونه يقوم بحاجاتهم، ويعلم ما لا يعلمون جراء ذهابه للمدينة، واختلافه إلى مؤسسات الدولة، إذ إن العلم عند المجتمعات المغلقة هو: اطلاع الشخص على أماكن بعيدة ومجتمعات مختلفة، لذلك السؤال الاول الذي يسأله البدوي أو القروي لكل من يأتيهم من خارج مجتمعهم هو: اعطينا علومك؟ فهم يثبتون التفوق ويعطون القيادة لمن يخرج من إطار مجتمعهم، ويدخل إلى دوائر الدولة المجهولة لهم (حتى أن خيالهم رسم صورة للمسؤول غير بشرية، فإذا رأوه يتصرف كبشر، كالضحك أو يتأثر أو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، يتعجبون) فإذا تعامل الشيخ أو المختار مع مجاهيل الحكومة وكفاهم شرها صار كبيراً في نظرهم وأطاعوه، رغم معرفتهم بانحرافاته وجشعه وانتقاصه من حقوقهم، لأنهم لا يفضلون التعامل مع السلطة، فهم لا يستطيعون ترك أعمالهم ومراجعة الدوائر، عدا عن جهلهم بزواريبها.. وقد يزدريهم الموظفون، لعدم معرفتهم في التعامل مع الموظف لطول انشغالهم بأعمالهم التي لا يعرفون غيرها، وتفضل السلطة التعامل مع المختار "البراغماتي" المنفتح والذي يتقبل أي شيء يصب في مصلحته الشخصية ومستعد على إقناع البسطاء بأي أمر تريده من الناس، ما جعل السلطة تتعامل معه وحده وتعتبر الانسان البسيط إذا راجع دوائر السلطة، تجاوز مرجعاً "المختار"..
الغريب في الأمر، أن صورة المختار المتسلط، أو "الشيخ الشرير" في مسلسلاتنا أو في الممارسات التي شهدتها الأجيال في آخر مئة سنة تثبت أن هذه الشخصية "الجدلية" لا تفرق بين السلطات التي تتعامل معها (لا يوجد ثوابت)، فلا يهمها إن كانت السلطة شرعية أم سلطة احتلال، المهم أنها تحافظ على وضعها الاجتماعي بتسلطها على الناس، ولا يهمها لو أن الناس التي تتولى عليهم يعانون من الجور والظلم، وسرقة محاصيلهم وذبح اغنامهم، أو يهجرون من أراضيهم إرضاء للسلطة الغاصبة، المهم يبقى مختاراً!! وقد تجلى هذا النموذج في رائعة الدكتور وليد سيف والمخرج الراحل حاتم علي،(التغريبة الفلسطينية).
في المجتمعات القديمة -حسب الدراما العربية- التي كان "الشيخ الشرير" و "المختار النذل" هما من "يبيع بها ويشتري"، ويتآمر على أهله، وينحاز إلى كل معتدٍ أثيم ليحافظ على قيمته الاجتماعية التي يستمدها من أي سلطة متغلبة.
هذه الصور السابقة أصبحت لا تقارن مع مجتمعاتنا الآن، فقد تفشت وتوالدت شخصية المختار في المجتمع كالنار في الهشيم بلا سند قانوني، وصار طلاب الحضوة عند أي سلطة كثير لمجرد الاستعراض، فالكل يسعى إلى الحضوة على حساب العامة الذين فقدوا خاصية الفلاح البسيط الذي يعمل في حقله وترك للمختار رعاية شؤونه مع السلطة، أو البدوي صاحب الأغنام الذي يعتمد على الشيخ في ما يحتاجه من السوق، وصار الناس أكثر التصاقاً بالسلطة (كموظفين)، أكثر من طالب الحضوة وهو الذي يجهل طبيعة السلطة!! فصار الامر مقلوباً..
رغم انتهاء واقع المختار والشيخ في مجتمعاتنا، لانتهاء مبرر وجودهم، إلا أنه عاد بصورة أخرى! فالمئات من أفراد المجتمع يدور في نفوسهم إعادة ذلك النموذج البائد، فلبسوا له و"تطقموا" وتعرضوا للعامة، مع أن العامة استأنسوا بالسلطة وانشغلوا بوظائفهم و نشاطاتهم الحياتية، مع تغيُر نمط الحياة، جراء ثورة المواصلات والاتصالات، لكن طلاب الحضوة تجاهلوا أو جهلوا ذلك وتوجهوا إلى الدولة يبحثون عن الماضي، فأخذوا صورة مع مسؤول صغر أو كبر، ليعيدوا الزمان الذي مات في الأرض، إلا في نفوسهم ليقنعوا الناس أنهم جزء من الدولة وقريبون منها، وهذا في نظرهم يكفي ليقر الناس بسلطتهم، ولكن الدولة لا تستطيع توفير شواغر لهم أو تعيد الناس إلى النمط الفلاحي والرعوي، فلم ييأسوا بل راحوا الى المناسبات والتجمعات يبحثون عن زمن المخاتير الذي تولى إلى غير رجعة، ونشطوا في أي أمر يلحظون فيه وجود الناس، حتى أن بعضهم داهم المدارس وعرض نفسه على الأطفال والنساء، ليمارس هوسه في أداء دور المختار والشيخ والوجيه..
سبب التطرق لهذه الظاهرة، ليس ترف انتقاد أفراد يمارسون رغباتهم في الحياة، بل من اجل النبيه لظاهرة خطيرة على المجتمع الذي تفكك جراء هذه الممارسات، ولن يستطيع النهوض أو الدفاع عن ثوابته أو حتى لقمة عيشه، بوجود هذه الآفة التي تنخر فيه من جميع أطرافه، والأخطر أن أصحاب هذه الظاهرة يفرضون أنفسهم في كل محفل، حتى صاروا هم الواجهة وأخفوا وراءهم الناهضين الحقيقيين بل همشوهم لشدة تزاحمهم على الظهور للدولة، وقدرتهم على التلون لكل موقف، وابتعادهم عن الحاجات العامة التي تمس المجتمع، واقترابهم من الاجتماعيات الفردية التي لا تنفع المجتمع بل تضره..
في السابق كان لكل قرية وتجمع بشري في بلادنا، شخص يتولى أمور الناس ويقضي حاجاتهم عند السلطة، والناس تعتبره يسدي لهم جميلاً كبيراً، كونه يقوم بحاجاتهم، ويعلم ما لا يعلمون جراء ذهابه للمدينة، واختلافه إلى مؤسسات الدولة، إذ إن العلم عند المجتمعات المغلقة هو: اطلاع الشخص على أماكن بعيدة ومجتمعات مختلفة، لذلك السؤال الاول الذي يسأله البدوي أو القروي لكل من يأتيهم من خارج مجتمعهم هو: اعطينا علومك؟ فهم يثبتون التفوق ويعطون القيادة لمن يخرج من إطار مجتمعهم، ويدخل إلى دوائر الدولة المجهولة لهم (حتى أن خيالهم رسم صورة للمسؤول غير بشرية، فإذا رأوه يتصرف كبشر، كالضحك أو يتأثر أو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، يتعجبون) فإذا تعامل الشيخ أو المختار مع مجاهيل الحكومة وكفاهم شرها صار كبيراً في نظرهم وأطاعوه، رغم معرفتهم بانحرافاته وجشعه وانتقاصه من حقوقهم، لأنهم لا يفضلون التعامل مع السلطة، فهم لا يستطيعون ترك أعمالهم ومراجعة الدوائر، عدا عن جهلهم بزواريبها.. وقد يزدريهم الموظفون، لعدم معرفتهم في التعامل مع الموظف لطول انشغالهم بأعمالهم التي لا يعرفون غيرها، وتفضل السلطة التعامل مع المختار "البراغماتي" المنفتح والذي يتقبل أي شيء يصب في مصلحته الشخصية ومستعد على إقناع البسطاء بأي أمر تريده من الناس، ما جعل السلطة تتعامل معه وحده وتعتبر الانسان البسيط إذا راجع دوائر السلطة، تجاوز مرجعاً "المختار"..
الغريب في الأمر، أن صورة المختار المتسلط، أو "الشيخ الشرير" في مسلسلاتنا أو في الممارسات التي شهدتها الأجيال في آخر مئة سنة تثبت أن هذه الشخصية "الجدلية" لا تفرق بين السلطات التي تتعامل معها (لا يوجد ثوابت)، فلا يهمها إن كانت السلطة شرعية أم سلطة احتلال، المهم أنها تحافظ على وضعها الاجتماعي بتسلطها على الناس، ولا يهمها لو أن الناس التي تتولى عليهم يعانون من الجور والظلم، وسرقة محاصيلهم وذبح اغنامهم، أو يهجرون من أراضيهم إرضاء للسلطة الغاصبة، المهم يبقى مختاراً!! وقد تجلى هذا النموذج في رائعة الدكتور وليد سيف والمخرج الراحل حاتم علي،(التغريبة الفلسطينية).
في المجتمعات القديمة -حسب الدراما العربية- التي كان "الشيخ الشرير" و "المختار النذل" هما من "يبيع بها ويشتري"، ويتآمر على أهله، وينحاز إلى كل معتدٍ أثيم ليحافظ على قيمته الاجتماعية التي يستمدها من أي سلطة متغلبة.
هذه الصور السابقة أصبحت لا تقارن مع مجتمعاتنا الآن، فقد تفشت وتوالدت شخصية المختار في المجتمع كالنار في الهشيم بلا سند قانوني، وصار طلاب الحضوة عند أي سلطة كثير لمجرد الاستعراض، فالكل يسعى إلى الحضوة على حساب العامة الذين فقدوا خاصية الفلاح البسيط الذي يعمل في حقله وترك للمختار رعاية شؤونه مع السلطة، أو البدوي صاحب الأغنام الذي يعتمد على الشيخ في ما يحتاجه من السوق، وصار الناس أكثر التصاقاً بالسلطة (كموظفين)، أكثر من طالب الحضوة وهو الذي يجهل طبيعة السلطة!! فصار الامر مقلوباً..
رغم انتهاء واقع المختار والشيخ في مجتمعاتنا، لانتهاء مبرر وجودهم، إلا أنه عاد بصورة أخرى! فالمئات من أفراد المجتمع يدور في نفوسهم إعادة ذلك النموذج البائد، فلبسوا له و"تطقموا" وتعرضوا للعامة، مع أن العامة استأنسوا بالسلطة وانشغلوا بوظائفهم و نشاطاتهم الحياتية، مع تغيُر نمط الحياة، جراء ثورة المواصلات والاتصالات، لكن طلاب الحضوة تجاهلوا أو جهلوا ذلك وتوجهوا إلى الدولة يبحثون عن الماضي، فأخذوا صورة مع مسؤول صغر أو كبر، ليعيدوا الزمان الذي مات في الأرض، إلا في نفوسهم ليقنعوا الناس أنهم جزء من الدولة وقريبون منها، وهذا في نظرهم يكفي ليقر الناس بسلطتهم، ولكن الدولة لا تستطيع توفير شواغر لهم أو تعيد الناس إلى النمط الفلاحي والرعوي، فلم ييأسوا بل راحوا الى المناسبات والتجمعات يبحثون عن زمن المخاتير الذي تولى إلى غير رجعة، ونشطوا في أي أمر يلحظون فيه وجود الناس، حتى أن بعضهم داهم المدارس وعرض نفسه على الأطفال والنساء، ليمارس هوسه في أداء دور المختار والشيخ والوجيه..
سبب التطرق لهذه الظاهرة، ليس ترف انتقاد أفراد يمارسون رغباتهم في الحياة، بل من اجل النبيه لظاهرة خطيرة على المجتمع الذي تفكك جراء هذه الممارسات، ولن يستطيع النهوض أو الدفاع عن ثوابته أو حتى لقمة عيشه، بوجود هذه الآفة التي تنخر فيه من جميع أطرافه، والأخطر أن أصحاب هذه الظاهرة يفرضون أنفسهم في كل محفل، حتى صاروا هم الواجهة وأخفوا وراءهم الناهضين الحقيقيين بل همشوهم لشدة تزاحمهم على الظهور للدولة، وقدرتهم على التلون لكل موقف، وابتعادهم عن الحاجات العامة التي تمس المجتمع، واقترابهم من الاجتماعيات الفردية التي لا تنفع المجتمع بل تضره..
نيسان ـ نشر في 2023/09/26 الساعة 00:00