القمع...ثقافتنا السائدة وخبزنا اليومي
نيسان ـ نشر في 2023/09/27 الساعة 00:00
ترتبط أكثر ما ترتبط مفردة القمع بالجانب السياسي والأمني، وتعني "اضطهاد فرد أو مجموعة لأسباب سياسية، بهدف تقييدهم أو منعهم من المشاركة في الحياة السياسية في المجتمع، يمكن أن يتجلى الكبت السياسي بسياسات تمييزية، أو انتهاكات لحقوق الإنسان".
ولا شكّ، في نظري، بأنّ هذا القمع هو أبسط وأهون أنواع القمع التي يعيشها الإنسان، وذلك لأن القمع السياسي، إنْ وجد، قد يكون نتيجة حتمية، للقمع الناتج عن أنواع القمع الأخرى التي نمارسها بشكل يومي، سواء أكنا قامعين أم مقموعين، من مثل: القمع الأسري، القمع المدرسي، القمع الجامعي، القمع الاجتماعي، القمع العشائري، القمع الحزبي، القمع الفكري، القمع الطائفي والمذهبي.
وهكذا، فإن أحدنا يمر، منذ ولادته، بمراحل لا تحصى من القمع، فينشأ على القمع الأسري، من والدته ووالده، من باب افعل ولا تفعل، "هذا عيب"، "هذا لا يجوز"، "هذا خطأ"، "ماذا تعرف من الحياة حتى تُستشار أو تفكر أو تبدي وجهة نظرك"، "فأنت ما زلت صغيرا"، "ما زلت طفلا"، بعدك "ما بتعرف شي"، "شو مفهمك بهيك أمور"، "ولك اخرس، اسكت، انكب، ضع حذاء في فمك"، وما شابه ذلك من عبارات القمع والتحطيم النفسي. وإذا كان لدى الواحد إخوة أكبر منه يتضاعف القمع الأسري عليه، من كثرة الأوامر والتهديد والضرب والمنع والتهميش والظلم، تحت عبارات من مثل: "هذا أخوك أكبر منك، الأولوية للكبير، أخوك الكبير بعرف أكثر منك"، فتكون للأخ الأكبر حصة الأسد على حساب هذا الذي قُدّر له أن يكون أصغرهم.
ثم ينتقل للمرحلة الأسوأ والأخطر على الإطلاق في مسيرته القمعية، فهي الأساس الذي يُبنى عليه القمع بأشكاله وأنواعه، وهي مرحلة المدرسة، فهو قمع رباعي الأبعاد، ( المدير، المعلم، ولي الأمر، الطالب المتنمر). فالطالب في مدرسته لا يختلف كثيرا عن السجين في سجنه، أو العبد في عبوديته فهو عبد مأمور في كل تصرفاته وسلوكاته وأقواله ومشاعره، وتمارس في حقه أبشع صور القمع والتحقير والتهميش، فممنوع عليه أن يعبر عن رغباته وطموحاته وأفكاره ومشاعره، ولا يحق له أن يدافع عن سلوكه أو فكرته أو وجوده، ولا يُنادى الطالب من قبلهم، غالبا، إلا بـ "يا حمار، يا غبي، يا لوح، يا بهيم، يا كلب، يا جحش"، وغير ذلك مما هو أفظع وأبشع.
ثم ينتقل بعد ذلك، لمرحلة القمع الجامعي، القمع الأشد تعصبا وتخلفا وتحجرا، فلا يحقّ للطالب الجامعي أن ينقد بعض أساتذته أو يناقشهم أو يحاورهم أو يعبر لهم عن فكرته المناقضة لفكرة بعضهم، والويل له إن فعل هذا، وإن فعل، فقد يتكالب عليه بعض زملاء الأستاذ الجامعي كتكالب الناس على قصعتهم، دفاعا عن زميلهم الأستاذ، وحفاظا على قداستهم المكذوبة وهيبتهم المغشوشة، فيلاحقه التهديد والتخويف والقهر من كل جانب، فالطالب الجامعي عليه أن يتلقى المعلومات والأفكار كأنها وحي من السماء.
ثم ينتقل بعد ذلك، إلى بقية أشكال القمع، في الحياة الفكرية والعملية بكل أبعادها، ليعيش حياة مريرة، كالقمع الحزبي إذا كان منتميا لحزب سياسي أو آيديولوجي، والقمع الطائفي أو المذهبي إذا حاول أو اجتهد في عملية تصحيح أو نقد، أو أنه فكر بطريقة تختلف عن الفكر السائد لأتباع المذهب أو الطائفة. ولا ريب في أن أغلب رجال الدين عبر العصور كانوا من أكثر الناس ظلما واستبدادا تجاه الآخر المخالف. وقل مثل ذلك وأكثر في القمع المهني والوظيفي، فالموظف في مؤسسته كالآلة، ويعيش صراعا مخيفا مع مسؤوليه في تقييمه وأمنه الوظيفي وفصله من العمل إن تجرأ على قول "لا" لمسؤوله.
وثمة أشكال يومية من القمع المجتمعي، فالمصلي في المسجد مقموع من الإمام، والزبون مقموع من التاجر، والراكب مقموع من سائق الحافلة العامة، والعامل مقموع من رب العمل، والممرض مقموع من الطبيب الذي يعمل معه. والقائمة تطول في ظل غياب تام لفكرة الحوار والاحترام والنصح والإرشاد والعمل بروح الفريق، والإيمان بفكرة العجز والتقصير والنسيان والخطأ بوصفنا بشرا، بل نحن مشبعون حتى التخمة عند كبيرنا وصغيرنا بالفكرة الفرعونية المتألهة ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾.
وحتى لا يُفهم هذا الكلام على أنه دعوة للحرية المطلقة، أو أنه دعوة للفوضى والضياع، فإنني أردت من هذا فتح باب الحوار والنقاش والمحاججة والاستماع للآخر أيا كان، ابنا بنتا أخا صديقا تلميذا زميلا؛ أجل الاقتناع والإيمان الحقيقي بالفكرة أو السلوك أو أي فعل، لبناء آخر صادقا من جهة، وثابتا قويا من جهة أخرى، في وجه أي تغيير أو فكرة فاسدة أو سلوك منحرف، وحتى لا يكون منطلقه حول أي فكرة أو سلوك هو البيئة أو الخوف أو الثقافة السائدة أو المصلحة، بمعنى حتى لا يكون إنسانا منافقا ينتظر الفرصة ليعلن من فوره عن كفره وتمرده بكل ما نشأ عليه وتربى.
وفي هذا الواقع المرير، والتنظير الكاذب للأفراد، يقول الكاتب الفرنسي إيتيان دولا بويسيه. في كتابه "العبودية المختارة": إن الشعب هو الذي يَسترِق نفسه بنفسه، وهو الذي يذبح نفسه بيده، إذ لما كان يملك الخيار بين أن يكون عبدًا أو أن يكون حرًا، فقد تخلى عن حريته، ووضع القيد في عنقه.
فالمؤمن الحقيقي أو صاحب الحق هو الذي لا يحتكر الحقيقة إطلاقا، فكلما حصرت الحقيقة في ما يقول ويؤمن به دل على عدم إيمانه، ودل على جهله وتعنته وعنجهيته، ودل أيضا على بعده عن خُلُق القرآن وخُلُق الرسول الكريم في التعامل مع الآخر في الدعوة إلى الحق والتنوير، ولا بد أن نكون صادقين في دعوانا للآخر، انطلاقا من فكرة الشك بوصفها مدخلا للحوار الصادق والمحاججة الدامغة ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.
ولا شكّ، في نظري، بأنّ هذا القمع هو أبسط وأهون أنواع القمع التي يعيشها الإنسان، وذلك لأن القمع السياسي، إنْ وجد، قد يكون نتيجة حتمية، للقمع الناتج عن أنواع القمع الأخرى التي نمارسها بشكل يومي، سواء أكنا قامعين أم مقموعين، من مثل: القمع الأسري، القمع المدرسي، القمع الجامعي، القمع الاجتماعي، القمع العشائري، القمع الحزبي، القمع الفكري، القمع الطائفي والمذهبي.
وهكذا، فإن أحدنا يمر، منذ ولادته، بمراحل لا تحصى من القمع، فينشأ على القمع الأسري، من والدته ووالده، من باب افعل ولا تفعل، "هذا عيب"، "هذا لا يجوز"، "هذا خطأ"، "ماذا تعرف من الحياة حتى تُستشار أو تفكر أو تبدي وجهة نظرك"، "فأنت ما زلت صغيرا"، "ما زلت طفلا"، بعدك "ما بتعرف شي"، "شو مفهمك بهيك أمور"، "ولك اخرس، اسكت، انكب، ضع حذاء في فمك"، وما شابه ذلك من عبارات القمع والتحطيم النفسي. وإذا كان لدى الواحد إخوة أكبر منه يتضاعف القمع الأسري عليه، من كثرة الأوامر والتهديد والضرب والمنع والتهميش والظلم، تحت عبارات من مثل: "هذا أخوك أكبر منك، الأولوية للكبير، أخوك الكبير بعرف أكثر منك"، فتكون للأخ الأكبر حصة الأسد على حساب هذا الذي قُدّر له أن يكون أصغرهم.
ثم ينتقل للمرحلة الأسوأ والأخطر على الإطلاق في مسيرته القمعية، فهي الأساس الذي يُبنى عليه القمع بأشكاله وأنواعه، وهي مرحلة المدرسة، فهو قمع رباعي الأبعاد، ( المدير، المعلم، ولي الأمر، الطالب المتنمر). فالطالب في مدرسته لا يختلف كثيرا عن السجين في سجنه، أو العبد في عبوديته فهو عبد مأمور في كل تصرفاته وسلوكاته وأقواله ومشاعره، وتمارس في حقه أبشع صور القمع والتحقير والتهميش، فممنوع عليه أن يعبر عن رغباته وطموحاته وأفكاره ومشاعره، ولا يحق له أن يدافع عن سلوكه أو فكرته أو وجوده، ولا يُنادى الطالب من قبلهم، غالبا، إلا بـ "يا حمار، يا غبي، يا لوح، يا بهيم، يا كلب، يا جحش"، وغير ذلك مما هو أفظع وأبشع.
ثم ينتقل بعد ذلك، لمرحلة القمع الجامعي، القمع الأشد تعصبا وتخلفا وتحجرا، فلا يحقّ للطالب الجامعي أن ينقد بعض أساتذته أو يناقشهم أو يحاورهم أو يعبر لهم عن فكرته المناقضة لفكرة بعضهم، والويل له إن فعل هذا، وإن فعل، فقد يتكالب عليه بعض زملاء الأستاذ الجامعي كتكالب الناس على قصعتهم، دفاعا عن زميلهم الأستاذ، وحفاظا على قداستهم المكذوبة وهيبتهم المغشوشة، فيلاحقه التهديد والتخويف والقهر من كل جانب، فالطالب الجامعي عليه أن يتلقى المعلومات والأفكار كأنها وحي من السماء.
ثم ينتقل بعد ذلك، إلى بقية أشكال القمع، في الحياة الفكرية والعملية بكل أبعادها، ليعيش حياة مريرة، كالقمع الحزبي إذا كان منتميا لحزب سياسي أو آيديولوجي، والقمع الطائفي أو المذهبي إذا حاول أو اجتهد في عملية تصحيح أو نقد، أو أنه فكر بطريقة تختلف عن الفكر السائد لأتباع المذهب أو الطائفة. ولا ريب في أن أغلب رجال الدين عبر العصور كانوا من أكثر الناس ظلما واستبدادا تجاه الآخر المخالف. وقل مثل ذلك وأكثر في القمع المهني والوظيفي، فالموظف في مؤسسته كالآلة، ويعيش صراعا مخيفا مع مسؤوليه في تقييمه وأمنه الوظيفي وفصله من العمل إن تجرأ على قول "لا" لمسؤوله.
وثمة أشكال يومية من القمع المجتمعي، فالمصلي في المسجد مقموع من الإمام، والزبون مقموع من التاجر، والراكب مقموع من سائق الحافلة العامة، والعامل مقموع من رب العمل، والممرض مقموع من الطبيب الذي يعمل معه. والقائمة تطول في ظل غياب تام لفكرة الحوار والاحترام والنصح والإرشاد والعمل بروح الفريق، والإيمان بفكرة العجز والتقصير والنسيان والخطأ بوصفنا بشرا، بل نحن مشبعون حتى التخمة عند كبيرنا وصغيرنا بالفكرة الفرعونية المتألهة ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾.
وحتى لا يُفهم هذا الكلام على أنه دعوة للحرية المطلقة، أو أنه دعوة للفوضى والضياع، فإنني أردت من هذا فتح باب الحوار والنقاش والمحاججة والاستماع للآخر أيا كان، ابنا بنتا أخا صديقا تلميذا زميلا؛ أجل الاقتناع والإيمان الحقيقي بالفكرة أو السلوك أو أي فعل، لبناء آخر صادقا من جهة، وثابتا قويا من جهة أخرى، في وجه أي تغيير أو فكرة فاسدة أو سلوك منحرف، وحتى لا يكون منطلقه حول أي فكرة أو سلوك هو البيئة أو الخوف أو الثقافة السائدة أو المصلحة، بمعنى حتى لا يكون إنسانا منافقا ينتظر الفرصة ليعلن من فوره عن كفره وتمرده بكل ما نشأ عليه وتربى.
وفي هذا الواقع المرير، والتنظير الكاذب للأفراد، يقول الكاتب الفرنسي إيتيان دولا بويسيه. في كتابه "العبودية المختارة": إن الشعب هو الذي يَسترِق نفسه بنفسه، وهو الذي يذبح نفسه بيده، إذ لما كان يملك الخيار بين أن يكون عبدًا أو أن يكون حرًا، فقد تخلى عن حريته، ووضع القيد في عنقه.
فالمؤمن الحقيقي أو صاحب الحق هو الذي لا يحتكر الحقيقة إطلاقا، فكلما حصرت الحقيقة في ما يقول ويؤمن به دل على عدم إيمانه، ودل على جهله وتعنته وعنجهيته، ودل أيضا على بعده عن خُلُق القرآن وخُلُق الرسول الكريم في التعامل مع الآخر في الدعوة إلى الحق والتنوير، ولا بد أن نكون صادقين في دعوانا للآخر، انطلاقا من فكرة الشك بوصفها مدخلا للحوار الصادق والمحاججة الدامغة ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.
نيسان ـ نشر في 2023/09/27 الساعة 00:00