.. و المثقف المرعوب ! نص للأديب ماجد شاهين

نيسان ـ نشر في 2015/11/12 الساعة 00:00
( 1 ) باعة النصائح ! عديدون ، لديهم مهنة بائع النصائح ، رغم أنه لا يعرف من أمر النصح شيئا ً ولا حتى يستطيع أن يرى ما في أمر حاله ! يذهب في أيّ اتجاه و يرمي نصائحه ، تماما ً مثل حامل وعاء البخور المحترق يحرّكه في الاتجاهات كلّها ، فيظنّ الناس ُ أن " السيّد المُبَـخـَّر " يبعبق بالحكمة و الموعظة و يفيض وضوحاً و رائحة بخوره تشفي و تكفي و تعفي المستنشق أو المتنسّم من مباغتة ودهم القهر و سواه . .. باعة البخور و موزعوه و باعة الحكمة في الزوايا ، يوهمون الواهمين أن الدنيا محكومة لــ " قدحة بخور و شعلة نار و تمتمة " . عديدون يلحقون بمركب الوهم ، و يؤدون صلواتهم وراء أئمة بخور ، كثير منهم لا يعرفون قراءة الفاتحة و آخرون يصلّون من دون وضوء . .. النصيحة لا يعرف حكمتها سوى المجرّبين المؤهلين لمقاربة التجارب. ( 2 ) عن الكتابة ! وإن ْ كـُنت ُ أرغب ُ في ذلك كثيرا ً ، لكنّي أتجنّب الكتابة المباشرة في ما يسمّونه " سياسة " أو في عناوين و قصص أحداث تجري محليّاً و في الجوار ! أنأى عن الخوض في تفاصيل و أعماق ما يجري ، سواء أكنت ُ أعرف ُ تلك التفاصيل والأعماق أو لا أعرف . أبتعد خشية أن تنخفض السقوف و لا يعود لي متسع لكي أكتب الفاصلة . و أنأى لكي لا يتنطّح عديدون لتشريح فكرتي أو كتابتي وفق مساطر جاهزة للقياس ، فيأخذون هذا و يتركون ذاك ويفتتون النصّ على أهوائهم و أغدو مطروداً من مساحة الكلام . ... أنأى و أبتعد عن كتابة في عمق المشهد السياسيّ ، لأن ّ كثيرين يتحفزّون للبطش بالكلام و تحميله ما لم يكن في ذهن الكاتب و تأويله و تفسيره و اجتراح حكايات فرعية تشغل الرأي العام بعيداً عن متن النص الأصلي و لتمرير صورة أو أسئلة أو لقطع المسافة نحو غاية لم تكن في ذهن الكاتب ، بل في أذهان من يحاولون رفع السقوف أو خفضها . ... نكتب ولا نترك مجالاً لأحد كيما يقصقص من حروفنا وفق هواه و مقاصده . ... نهرب ُ إلى الأكثر دهشة وحضوراً ، نهرب إلى كتابة ٍ تليق بقلوب الناس و أرواحهم .. نهرب إلى المحبّة ! و نكتب السياسة على شكل إشارات و قصاصات كلام . و لأن ّ من يقرؤون لا تنقصهم الحكمة ولا تعوزهم الفطنة ، فإنّنا نكتب إليهم بقليل الكلام ونكتفي بالإشارة . ( 3 ) المثقف و ضرورات الأكل والتغوّط ! إذا كانت عناوين وانشغالات المثقف العام ، المفكّر و المبدع والكاتب والفنّان ، تتمثل في إعلاء شأن عناوين الحق ّ والخير والجمال والحريّة والشراكة الإنسانيّة ، فإن ّ أمر بقائه ، أي المثقف ، لاعبا ً حياتياً في إطار البيوت والمطابخ والمراحيض بوصفها ضرورة أو غرف النوم أو الصالونات أو غرف ومطارح الفرجة الرديئة على برامج تلفزيونية لتزجية الوقت ، يعـدّ حالة من الشراكة الواهمة . .. تلك شراكة جدران و أفراد مؤهلين للعيش اليوميّ ضمن شروط تقاسم الحصص . فــ يمكن أن تصنع في المطبخ ، مثلا ً ، شراكة مؤقتة لتناول طعام من نوع ما ، لكن لا يمكن أن تصنع موقفاً من الحياة والناس والشارع و حتى من فكرة الحصول على ما يمكن طبخه . إذا ً ، الحياة خارجاً ، بمعنى خارج الجدران المغلقة ، أوسع و أكثر جمالا ً ، فلماذا يتأخر المثقف الحقيقي عن إطلاق مشروع فضائه الخاص و شارعه و زوايا رصيفه و سوق خضاره ومكان نومه هنا وهناك ؟ ليست عُزلة ، بل تلك حالة انخراط في خيار العيش المطلق والعيش بهواجس و هموم الحرية والحق والخير والجمال ، دون الانفلات أو التفريط بكلّ أدوات الحضور البشريّ ، لأن ّ الأمر سيودي بالمثقف إلى الذوبان النهائي ّ والغياب . لماذا لا تكون للمثقف الحقيقيّ ، عزلته في الناس ، وليست في حيطان المنزل و أواني الطبخ و ضرورات التغوّط ؟ في الأماكن المفتوحة ، يستطيع المرء أن يجد طعاما ً يكفيه و ينفعه ، من تلك الأطعمة التي يصنعها عاملون متمرّنون .. والمراحيض متوافرة في كل الأماكن وفي الخلاء و لا أكلاف باهظة لاستخدامها .. أمّا الجدران فهناك في خارج الإطار تبدو أكثر رحابة ً . .. أدركت متأخرا ً ، في وقت ليس بعيدا ً ، أن ندرة حضور المثقف العربيّ في الحياة وندرة تأثيره ، أمران يرجعان إلى قبوله العيش فرداً داخل أسرة تحكمها أسعار السوق و أدوات الجلي و صراخات بلا جدوى يمارسها الشركاء . إذا لم تكن الشراكة بالروح والمعنى والفهم والحق ، فإن الأمر لا ينفع ، و ليذهب شركاء الجدران والمراحيض و المطابخ إلى الجحيم .
    نيسان ـ نشر في 2015/11/12 الساعة 00:00