فواز طرابلسي عن 'زمن اليسار الجديد' (1)
نيسان ـ نشر في 2024/01/19 الساعة 00:00
لا أبالغ إذ أقولُ إن هذا الكتاب من أهمّ الكتب التي صدرت عن لبنان منذ سنوات. ولا أبالغ أبداً إذ أقول إن هذا الكتاب من أهم الكتب عن اليسار اللبناني (والعربي)، وهو صادر عن قائد عايش المرحلة من الداخل وفي أهم المفاصل التاريخية المعاصرة. هذا الكتاب صارَ مرجعاً عن الحرب الأهليّة وعن اليسار اللبناني وعن تاريخ لبنان المعاصر. المُنعش في هذه الشهادة الصادقة أنها نادرة لأن معظم، إن لم نقل كل، الشهادات من قبل قادة الحركة الوطنيّة كانت اعتذاريّة ومن منظور مضاد لليسار. تلك الشهادات كانت شهادات تائبين ونادمين، على عكس شهادات قادة المعسكر اليميني الانعزالي ومقاتليه. شهادات اليمين ملؤها الفخر والزهو والاعتزاز، حتى بجرائم القتل والعلاقة مع إسرائيل. كيف يمكن أن نفسّر أن نَفَس شهادات قادة اليسار والحركة الوطنية كان مُندّداً بِـ، وبمثابة إعلان طلاق بالكامل مع، المرحلة؟ فواز طرابلسي لم يقطع مع المرحلة وقدّم خدمة جليلة لكل من شارك في النضال الوطني والفلسطيني في لبنان. الشهادة كانت أمينة للمرحلة وكان الكاتب صريحاً حتى في تقييم دوره (وهو قدّم ما يشبه بيان الذمّة الماليّة وهذا نادر جداً ويجب أن يشكّل قدوة في كتابات القادة الوطنيّين وخصوصاً اليساريّين، والسياسيّين بصورة عامّة).
المزعج في موضوع تناول تاريخ اليسار اللبناني أن يساريّين سابقين (اعتنقوا اليمين وأصبحوا في خندق الخليج على أقل تقدير) تخصّصوا، لا بل احتكروا، مهمّة الكتابة عنه. «مؤسّسة روزا لوكسمبورغ» (وهي مؤسّسة رجعيّة يمينيّة صهيونيّة تتسرّب إلى العالم العربي تحت ستار اسم امرأة عظيمة، وتكشّفَ دورها أكثر في الحرب على غزة) نشرت كتاباً عن اليسار اللبناني بقلم يميني («اليسار اللبناني» لحسين يعقوب، وكانت مراسلة «الشرق الأوسط» مرجعاً في الكتاب، الذي يبدأ بخبر اعتداء عنيف من حزب الله في 7 أيّار على مركز لـ«اليسار الديموقراطي»). واليساري الذي يكتب عن تجربته في لبنان مُطالب دائماً بتقريع اليسار والتنديد به كي تكون كتابته مقبولة للنشر والعرض والمراجعة والتصفيق. وعندما كتب وديع حمدان كتابه «أوراق من دفتر العمر» هرع وضّاح شرارة إلى موقع «ميغافون» (المُمَوَّل من حكومات «الناتو» وسوروس) كي يهجو وديع حمدان بقسوة ويلومه على عدم الذهاب بعيداً في نقده ومراجعته. وردّ حمدان على شرارة مؤكّداً أنه انتقد اليسار بدليل هجومه على محسن إبراهيم، ولكن شرارة لم يكفه ذلك وأراد من حمدان أن يهجر اليسار قبل سنوات طويلة.
الثقافة السياسيّة العربيّة السائدة رجعيّة بالكامل وهي تضع كل كاتب في موقع الدفاع والتبرير لو كان يساريّ الهوى. هذا يفسّر لماذا تُشكّل طبقة المثقّفين اللبنانيّين «أمةً واحدة»، ولكنّ الاقتصاد السياسي لا الأيديولوجيا يفسّر الظاهرة. أسماء كثيرة من تاريخ اليسار اللبناني تمرّ في الكتاب ويستشهد طرابلسي بكتابات بعضهم، قبل وبعد. تكاد لا تصدّق ما ترى، من التحوّل من نقيض إلى نقيض (حازم صاغية كان قد دعا، مثلاً، إلى قتل أنور السادات عندما زار القدس). لكن النقيصة الوحيدة في الكتاب هي التالية: أن الكتاب يذكر أسماء كثيرين من تاريخ اليسار الذي عايشه المؤلّف ويذكر تحوّلات كثيرين منهم نحو اليمين ولكنّه لا يقدّم تفسيراً لهذه الظاهرة، وهو الأصلح والأكفأ لتفسيرها لأنه عايشها من الداخل وعرف شخصيّاتها. ولماذا منظمة العمل الشيوعي قدّمت متحوّلين ومتحوّلات إلى اليمين والحريريّة أكثر من غيرها من التنظيمات؟
كان طرابلسي قد كتب عن تجربته من قبل في كتاب «صورة الفتى بالأحمر»، وهو كتاب جميل ومشوّق. دخل طرابلسي إلى السياسة من باب الأدب فأضفى ذلك على كتاباته نفحة أدبيّة جميلة تضفي متعةً على القراءة. يقول عن ذلك: «يمكنني القول إنني جئتُ إلى اليسار والاشتراكيّة من قراءاتي الأدبيّة أكثر من التحصيل الفكري الذي سيأتي لاحقاً» (ص. 25) وهناك ملاحظات وحوارات ظريفة جداً ترد في الكتاب، مثل المدرّس الذي كان لا يتكلّم بغير الفصحى: «ماذا وراءك، يا فوّاز» (ص. 27). لكن كتاب التجربة الأوّل كان متحفّظاً وقلتُ للكاتب يومها إنه من الواضح أن لديه المزيد. وهذا الكتاب يكمل من حيث انتهى الكتاب الأول أو هو يسبقه. لا يتحفّظ المؤلّف هنا ويروي للمرّة الأولى تجربته الصعبة مع محسن إبراهيم ويقدّم لنا وصفاً عن شخصيّة رجل فذّ لعب دوراً في الحركة القوميّة العربيّة واليسار العربي بعدها. ومحسن إبراهيم لم يكتب مذكّراته، على ما نعلم (هو سجّل حلقات مع غسان شربل ولكنها لم تُنشر بعد).
الكتاب يذكر أسماء كثيرين من تاريخ اليسار الذي عايشه المؤلّف ويذكر تحوّلات كثيرين منهم نحو اليمين ولكنّه لا يقدّم تفسيراً لهذه الظاهرة، وهو الأصلح والأكفأ لتفسيره
ينطلق فواز طرابلسي من تجربة وطنيّة يساريّة ثريّة جداً. عرف الجميع وأسهم في مفاصل كثيرة. هل أحسده على تجربته؟ أحياناً أريد أن أعيش تلك المفاصل التاريخية التي سبقت زمني ولكن أتصوّر معاناة الخيبة من هزائم وفشل وانفصال. حليم بركات (وهو أكبر سنّاً من طرابلسي وعلّمه العربيّة، كما عرفنا من الكتاب) كان يحدّثني عن طول تجربته ولكنه يختمها بالقول إن المرحلة الحالية هي الأسوأ. هذا ما أعنيه. كنتُ أريد أن أعيش بهجة التأميم أو فرحة الوحدة أو الأمل بانطلاق العمل الفدائي. أتيتُ إلى التجربة (المتواضعة) في أواخر السبعينيات عندما كان اليسار والحركة الوطنية والفصائل الفلسطينيّة في حالة ترهّل وانتظار. طرابلسي عاش كل تلك التجارب والآمال والخيبات ولكن من دون أن يحوّله ذلك نحو الرجعيّة أو الخندق الخليجي (هو من قلّة نادرة من المثقّفين اللبنانيّين الذين واظبوا على نقد الأنظمة الخليجيّة وحذَّر مبكراً من «الجزيرة» عندما كانت قوميّة النزعة ولاحظ أنها لا تعرض أي نقد للسياسات النفطيّة والغازيّة). كنت كلّما ألتقي بالمؤلّف أمطره بالأسئلة كي أستزيد على ما كان قد كتبه من كتب ومقالات، رغم اختلاف سياسي بيننا أحياناً، كان آخرها عن زياد الرحباني.
فكرة الكتاب انطلقت من أطروحة دكتوراه أعدّتها مريم يونس وطرحت فيها على طرابلسي عدداً من الأسئلة (فصل «تقديم»). ويُسجَّل لطرابلسي أنه يستجيب لكل طلبات الباحثين والباحثات، في الجامعات العربيّة والغربيّة. وأوّل ما تعرّفتُ إليه كان في عام 1980 أو 1981 عندما زرتُ محسن إبراهيم (بوساطة عائلية لأنه لم يكن من السهل لقاء الأمين العام التنفيذي للحركة الوطنيّة) في مقرّ الحركة (وهو مبنى كامل في وطى المصيطبة). كان لديّ مجموعة من الأسئلة عن تجربة الحركة الوطنيّة والفساد والعجز المستشري فيها بغرض بحث في الجامعة. طلب مني إبراهيم قراءة الأسئلة وعندما فرغتُ قال لي إنه منهمك في أعمال كثيرة وإنه سيحيلني إلى الرفيق فواز وإنه يمثّله في أجوبته. أعطيتُ أسئلتي إلى طرابلسي وكان أن استجاب لي بودّ وقدّم إليّ بعد أيام أجوبة مستفيضة مطبوعة على آلة كاتبة. ولا أزال أحتفظ بها.
درَسَ طرابلسي في «ثانويّة برمّانا» التي كانت واقعة تحت تأثير «الكويكرز» (ص. 16). وهذه طائفة سلميّة (في الغالب) ولكن أفرادها لا يمانعون المقاومة لو كانت سلميّة. لكن يكفي أن نتذكّر أن ريتشارد نيكسون كان منتمياً إلى هذه الطائفة كي ندرك أن بعضهم يقبل الحرب والعنف ولو هجومياً، والبعض الآخر يقبله للدفاع عن النفس. وموقف الكويكرز في أميركا من قضيّة فلسطين كان متقدّماً على موقف باقي الكنائس. مرَّ على طرابلسي في المدرسة عدد من المعلّمين الفلسطينيّين (ص. 19) المُهجّرين من فلسطين (وكانت ذلك حالي في الـ«آي.سي» في الستينيّات وكان معظم المعلّمين المتميّزين من معلّمي «الكليّة العربيّة» التي أسّسها أحمد سامح الخالدي). كانت اهتمامات طرابلسي الأولى هي أدبيّة ولكن تلاميذ ذلك الجيل حظيوا بتنشئة سياسيّة بسبب تحزّب معظم المعلّمين ولأن شبح النكبة خيّم على جيل كامل، لا بل أجيال. تعرّض طرابلسي للطرد أكثر من مرّة، وواحدة منها كانت للتضامن مع خرّيجي «الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة» التي طفقت تعلّم الحقوق باللغة العربيّة (ص. 23). اليسوعيّة والنظام الطائفي رفضوا ذلك رفضاً قاطعاً: 1) لأنهم فضّلوا احتكار الجامعة اليسوعيّة في تعليم الحقوق. 2) لأن النظام لم يكن يريد تخريج محامين من المسلمين. قامت قضيّة بسبب رفض نقابة المحامين الاعتراف بشهادة هؤلاء الذين درسوا الحقوق باللغة العربيّة، يا للهول. إميل إده ما كان يريد أن يرافع إلا بالفرنسيّة في المحاكم. ويقول طرابلسي إن إضرابات تلك الحقبة ضغطت من أجل إنشاء الجامعة اللبنانيّة (تأخر إنشاء الجامعة اللبنانيّة عن إنشاء جامعات وطنيّة في الأقطار العربيّة: جامعة بيرزيت في 1924، جامعة القاهرة في 1908، وجامعة دمشق في 1923). السبب كان من أجل منع نشر العلم بين المسلمين لأن التعليم بالإنكليزية أو الفرنسيّة في الجامعة اليسوعيّة والأميركيّة كان منيعاً على خرّيجي المدارس الإسلاميّة. ولا ننسى أن الحكم في لبنان رفض بشدّة معادلة شهادة التوجيهيّة (التي كان عدد من المسلمين الذين يدرسون في دول عربيّة ينالونها) لأن السلطة المارونيّة الطائفيّة الحاكمة حاربت، بكل جهر، نشر العلم وتوزيع الشهادات على المسلمين. لبنان قبل الحرب كان نظام أبرثايد رسمي (الحكم هنا لي، لا لطرابلسي).
ويقول عن القراءات إنّ «الأدبيّات الشيوعيّة كانت ممنوعة في عهد كميل شمعون» (ص. 25). والتنويه بذلك ضروري أمام جمهرة «الزمن الجميل» المأسوف عليه دائماً. والدولة اللبنانيّة في الحرب الباردة اعتنقت رسميّاً سياسات معاداة الشيوعية والاشتراكيّة (وشارك في هذه الحملة بالتمويل صحف ودور نشر ومراكز. يكفي أن تنظر إلى «النهار» في تلك المدة لترى تخصّصها في ذمّ الشيوعية والاشتراكيّة والسخرية الدائمة من كمال جنبلاط وشعارات العدل الاجتماعي). وأوراق «فريد شهاب» (مدير الأمن العام النافذ) تكشف أن جهاز الاستخبارات القوي كان مكرّساً لرصد الشيوعية وصدّها في لبنان (واستمرّ شهاب في عمله حتى بعد تقاعده، لمصلحة جهة خارجية على الأرجح). لم يتمتّع لبنان بحرّية مطلقة إلى بعد اغتيال الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان. ومن المضحك أن جماعات الثورة وإعلام تمويل سوروس والغرب لا تزال تصرّ على أن ميشال عون كان ديكتاتوراً حكم مثل المحمديْن في الخليج.
يعرف فواز كل شخصيّات المرحلة، أو أفراداً أصبحوا في ما بعد شخصيّات المرحلة. تعجّبتُ عن دور كلوفيس مقصود في قيادته لمجموعة يساريّة بعد خروجه من الحزب التقدمي الاشتراكي (اعتراضاً على موقف كمال جنبلاط غير الإيجابي من عبد الناصر عند التأميم، حسب ما أخبرني). وكان كلوفيس يعقد حلقات عن مواضيع تقدميّة. لا أتصوّر كلوفيس في هذا الدور، ربما لأنني تعرّفتُ إليه في مرحلة لاحقة من حياته وكان قد فقد حيويّته وزخمه الذي سمعت عنه عندما كان شاباً لفت جمال عبد الناصر بشخصيّته وذكائه ومعرفته.
تأثّر طرابلسي بجدّه العلامة عيسى إسكندر المعلوف. قد يكون المعلوف أوّل أكاديمي بالمعنى الحديث في لبنان وشملت معرفته الكثير من العلوم. يروي أن جمال عبد الناصر كان معجباً به وأبرق معزيّاً عند وفاته. تتخيّل حكام اليوم يتابعون نتاجات أكاديميّة؟
(يتبع)
* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@
المزعج في موضوع تناول تاريخ اليسار اللبناني أن يساريّين سابقين (اعتنقوا اليمين وأصبحوا في خندق الخليج على أقل تقدير) تخصّصوا، لا بل احتكروا، مهمّة الكتابة عنه. «مؤسّسة روزا لوكسمبورغ» (وهي مؤسّسة رجعيّة يمينيّة صهيونيّة تتسرّب إلى العالم العربي تحت ستار اسم امرأة عظيمة، وتكشّفَ دورها أكثر في الحرب على غزة) نشرت كتاباً عن اليسار اللبناني بقلم يميني («اليسار اللبناني» لحسين يعقوب، وكانت مراسلة «الشرق الأوسط» مرجعاً في الكتاب، الذي يبدأ بخبر اعتداء عنيف من حزب الله في 7 أيّار على مركز لـ«اليسار الديموقراطي»). واليساري الذي يكتب عن تجربته في لبنان مُطالب دائماً بتقريع اليسار والتنديد به كي تكون كتابته مقبولة للنشر والعرض والمراجعة والتصفيق. وعندما كتب وديع حمدان كتابه «أوراق من دفتر العمر» هرع وضّاح شرارة إلى موقع «ميغافون» (المُمَوَّل من حكومات «الناتو» وسوروس) كي يهجو وديع حمدان بقسوة ويلومه على عدم الذهاب بعيداً في نقده ومراجعته. وردّ حمدان على شرارة مؤكّداً أنه انتقد اليسار بدليل هجومه على محسن إبراهيم، ولكن شرارة لم يكفه ذلك وأراد من حمدان أن يهجر اليسار قبل سنوات طويلة.
الثقافة السياسيّة العربيّة السائدة رجعيّة بالكامل وهي تضع كل كاتب في موقع الدفاع والتبرير لو كان يساريّ الهوى. هذا يفسّر لماذا تُشكّل طبقة المثقّفين اللبنانيّين «أمةً واحدة»، ولكنّ الاقتصاد السياسي لا الأيديولوجيا يفسّر الظاهرة. أسماء كثيرة من تاريخ اليسار اللبناني تمرّ في الكتاب ويستشهد طرابلسي بكتابات بعضهم، قبل وبعد. تكاد لا تصدّق ما ترى، من التحوّل من نقيض إلى نقيض (حازم صاغية كان قد دعا، مثلاً، إلى قتل أنور السادات عندما زار القدس). لكن النقيصة الوحيدة في الكتاب هي التالية: أن الكتاب يذكر أسماء كثيرين من تاريخ اليسار الذي عايشه المؤلّف ويذكر تحوّلات كثيرين منهم نحو اليمين ولكنّه لا يقدّم تفسيراً لهذه الظاهرة، وهو الأصلح والأكفأ لتفسيرها لأنه عايشها من الداخل وعرف شخصيّاتها. ولماذا منظمة العمل الشيوعي قدّمت متحوّلين ومتحوّلات إلى اليمين والحريريّة أكثر من غيرها من التنظيمات؟
كان طرابلسي قد كتب عن تجربته من قبل في كتاب «صورة الفتى بالأحمر»، وهو كتاب جميل ومشوّق. دخل طرابلسي إلى السياسة من باب الأدب فأضفى ذلك على كتاباته نفحة أدبيّة جميلة تضفي متعةً على القراءة. يقول عن ذلك: «يمكنني القول إنني جئتُ إلى اليسار والاشتراكيّة من قراءاتي الأدبيّة أكثر من التحصيل الفكري الذي سيأتي لاحقاً» (ص. 25) وهناك ملاحظات وحوارات ظريفة جداً ترد في الكتاب، مثل المدرّس الذي كان لا يتكلّم بغير الفصحى: «ماذا وراءك، يا فوّاز» (ص. 27). لكن كتاب التجربة الأوّل كان متحفّظاً وقلتُ للكاتب يومها إنه من الواضح أن لديه المزيد. وهذا الكتاب يكمل من حيث انتهى الكتاب الأول أو هو يسبقه. لا يتحفّظ المؤلّف هنا ويروي للمرّة الأولى تجربته الصعبة مع محسن إبراهيم ويقدّم لنا وصفاً عن شخصيّة رجل فذّ لعب دوراً في الحركة القوميّة العربيّة واليسار العربي بعدها. ومحسن إبراهيم لم يكتب مذكّراته، على ما نعلم (هو سجّل حلقات مع غسان شربل ولكنها لم تُنشر بعد).
الكتاب يذكر أسماء كثيرين من تاريخ اليسار الذي عايشه المؤلّف ويذكر تحوّلات كثيرين منهم نحو اليمين ولكنّه لا يقدّم تفسيراً لهذه الظاهرة، وهو الأصلح والأكفأ لتفسيره
ينطلق فواز طرابلسي من تجربة وطنيّة يساريّة ثريّة جداً. عرف الجميع وأسهم في مفاصل كثيرة. هل أحسده على تجربته؟ أحياناً أريد أن أعيش تلك المفاصل التاريخية التي سبقت زمني ولكن أتصوّر معاناة الخيبة من هزائم وفشل وانفصال. حليم بركات (وهو أكبر سنّاً من طرابلسي وعلّمه العربيّة، كما عرفنا من الكتاب) كان يحدّثني عن طول تجربته ولكنه يختمها بالقول إن المرحلة الحالية هي الأسوأ. هذا ما أعنيه. كنتُ أريد أن أعيش بهجة التأميم أو فرحة الوحدة أو الأمل بانطلاق العمل الفدائي. أتيتُ إلى التجربة (المتواضعة) في أواخر السبعينيات عندما كان اليسار والحركة الوطنية والفصائل الفلسطينيّة في حالة ترهّل وانتظار. طرابلسي عاش كل تلك التجارب والآمال والخيبات ولكن من دون أن يحوّله ذلك نحو الرجعيّة أو الخندق الخليجي (هو من قلّة نادرة من المثقّفين اللبنانيّين الذين واظبوا على نقد الأنظمة الخليجيّة وحذَّر مبكراً من «الجزيرة» عندما كانت قوميّة النزعة ولاحظ أنها لا تعرض أي نقد للسياسات النفطيّة والغازيّة). كنت كلّما ألتقي بالمؤلّف أمطره بالأسئلة كي أستزيد على ما كان قد كتبه من كتب ومقالات، رغم اختلاف سياسي بيننا أحياناً، كان آخرها عن زياد الرحباني.
فكرة الكتاب انطلقت من أطروحة دكتوراه أعدّتها مريم يونس وطرحت فيها على طرابلسي عدداً من الأسئلة (فصل «تقديم»). ويُسجَّل لطرابلسي أنه يستجيب لكل طلبات الباحثين والباحثات، في الجامعات العربيّة والغربيّة. وأوّل ما تعرّفتُ إليه كان في عام 1980 أو 1981 عندما زرتُ محسن إبراهيم (بوساطة عائلية لأنه لم يكن من السهل لقاء الأمين العام التنفيذي للحركة الوطنيّة) في مقرّ الحركة (وهو مبنى كامل في وطى المصيطبة). كان لديّ مجموعة من الأسئلة عن تجربة الحركة الوطنيّة والفساد والعجز المستشري فيها بغرض بحث في الجامعة. طلب مني إبراهيم قراءة الأسئلة وعندما فرغتُ قال لي إنه منهمك في أعمال كثيرة وإنه سيحيلني إلى الرفيق فواز وإنه يمثّله في أجوبته. أعطيتُ أسئلتي إلى طرابلسي وكان أن استجاب لي بودّ وقدّم إليّ بعد أيام أجوبة مستفيضة مطبوعة على آلة كاتبة. ولا أزال أحتفظ بها.
درَسَ طرابلسي في «ثانويّة برمّانا» التي كانت واقعة تحت تأثير «الكويكرز» (ص. 16). وهذه طائفة سلميّة (في الغالب) ولكن أفرادها لا يمانعون المقاومة لو كانت سلميّة. لكن يكفي أن نتذكّر أن ريتشارد نيكسون كان منتمياً إلى هذه الطائفة كي ندرك أن بعضهم يقبل الحرب والعنف ولو هجومياً، والبعض الآخر يقبله للدفاع عن النفس. وموقف الكويكرز في أميركا من قضيّة فلسطين كان متقدّماً على موقف باقي الكنائس. مرَّ على طرابلسي في المدرسة عدد من المعلّمين الفلسطينيّين (ص. 19) المُهجّرين من فلسطين (وكانت ذلك حالي في الـ«آي.سي» في الستينيّات وكان معظم المعلّمين المتميّزين من معلّمي «الكليّة العربيّة» التي أسّسها أحمد سامح الخالدي). كانت اهتمامات طرابلسي الأولى هي أدبيّة ولكن تلاميذ ذلك الجيل حظيوا بتنشئة سياسيّة بسبب تحزّب معظم المعلّمين ولأن شبح النكبة خيّم على جيل كامل، لا بل أجيال. تعرّض طرابلسي للطرد أكثر من مرّة، وواحدة منها كانت للتضامن مع خرّيجي «الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة» التي طفقت تعلّم الحقوق باللغة العربيّة (ص. 23). اليسوعيّة والنظام الطائفي رفضوا ذلك رفضاً قاطعاً: 1) لأنهم فضّلوا احتكار الجامعة اليسوعيّة في تعليم الحقوق. 2) لأن النظام لم يكن يريد تخريج محامين من المسلمين. قامت قضيّة بسبب رفض نقابة المحامين الاعتراف بشهادة هؤلاء الذين درسوا الحقوق باللغة العربيّة، يا للهول. إميل إده ما كان يريد أن يرافع إلا بالفرنسيّة في المحاكم. ويقول طرابلسي إن إضرابات تلك الحقبة ضغطت من أجل إنشاء الجامعة اللبنانيّة (تأخر إنشاء الجامعة اللبنانيّة عن إنشاء جامعات وطنيّة في الأقطار العربيّة: جامعة بيرزيت في 1924، جامعة القاهرة في 1908، وجامعة دمشق في 1923). السبب كان من أجل منع نشر العلم بين المسلمين لأن التعليم بالإنكليزية أو الفرنسيّة في الجامعة اليسوعيّة والأميركيّة كان منيعاً على خرّيجي المدارس الإسلاميّة. ولا ننسى أن الحكم في لبنان رفض بشدّة معادلة شهادة التوجيهيّة (التي كان عدد من المسلمين الذين يدرسون في دول عربيّة ينالونها) لأن السلطة المارونيّة الطائفيّة الحاكمة حاربت، بكل جهر، نشر العلم وتوزيع الشهادات على المسلمين. لبنان قبل الحرب كان نظام أبرثايد رسمي (الحكم هنا لي، لا لطرابلسي).
ويقول عن القراءات إنّ «الأدبيّات الشيوعيّة كانت ممنوعة في عهد كميل شمعون» (ص. 25). والتنويه بذلك ضروري أمام جمهرة «الزمن الجميل» المأسوف عليه دائماً. والدولة اللبنانيّة في الحرب الباردة اعتنقت رسميّاً سياسات معاداة الشيوعية والاشتراكيّة (وشارك في هذه الحملة بالتمويل صحف ودور نشر ومراكز. يكفي أن تنظر إلى «النهار» في تلك المدة لترى تخصّصها في ذمّ الشيوعية والاشتراكيّة والسخرية الدائمة من كمال جنبلاط وشعارات العدل الاجتماعي). وأوراق «فريد شهاب» (مدير الأمن العام النافذ) تكشف أن جهاز الاستخبارات القوي كان مكرّساً لرصد الشيوعية وصدّها في لبنان (واستمرّ شهاب في عمله حتى بعد تقاعده، لمصلحة جهة خارجية على الأرجح). لم يتمتّع لبنان بحرّية مطلقة إلى بعد اغتيال الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان. ومن المضحك أن جماعات الثورة وإعلام تمويل سوروس والغرب لا تزال تصرّ على أن ميشال عون كان ديكتاتوراً حكم مثل المحمديْن في الخليج.
يعرف فواز كل شخصيّات المرحلة، أو أفراداً أصبحوا في ما بعد شخصيّات المرحلة. تعجّبتُ عن دور كلوفيس مقصود في قيادته لمجموعة يساريّة بعد خروجه من الحزب التقدمي الاشتراكي (اعتراضاً على موقف كمال جنبلاط غير الإيجابي من عبد الناصر عند التأميم، حسب ما أخبرني). وكان كلوفيس يعقد حلقات عن مواضيع تقدميّة. لا أتصوّر كلوفيس في هذا الدور، ربما لأنني تعرّفتُ إليه في مرحلة لاحقة من حياته وكان قد فقد حيويّته وزخمه الذي سمعت عنه عندما كان شاباً لفت جمال عبد الناصر بشخصيّته وذكائه ومعرفته.
تأثّر طرابلسي بجدّه العلامة عيسى إسكندر المعلوف. قد يكون المعلوف أوّل أكاديمي بالمعنى الحديث في لبنان وشملت معرفته الكثير من العلوم. يروي أن جمال عبد الناصر كان معجباً به وأبرق معزيّاً عند وفاته. تتخيّل حكام اليوم يتابعون نتاجات أكاديميّة؟
(يتبع)
* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@
نيسان ـ نشر في 2024/01/19 الساعة 00:00