الاستثمار في إرهاب داعش

خليل العناني
نيسان ـ نشر في 2015/11/17 الساعة 00:00
ا تخلو هجمات باريس الإرهابية، على إجرامها وبشاعتها، من دلالات سياسية كثيرة، ليس أقلها الاستثمار والتوظيف السياسي لها، من أجل إحراز نقاط معينة. فما هي ساعات قليلة، بعد وقوع الهجمات حتى خرج الرئيس السوري بشار الأسد (من مخبأ ما) معلقاً عليها بلغةٍ لا تخلو من اللوم والشماتة في فرنسا التي عنّفها بقوة، وانتقد سياستها الخارجية. كما ارتدى "جزار سورية" ثوب الحكمة والعقل، وتوجه إلى فرنسا بالنصح، لكي تقتدي به في محاربته الجماعات المتطرفة، ومطالباً إياها، بوقاحة، أن تشترك معه في "الحرب على الإرهاب". ولم تكن تعليقات الأسد سوى مناورة من أجل تحقيق نقاط سياسية وخلط الأوراق في اجتماعات فيينا، من أجل الضغط على فرنسا في تلك المفاوضات، حتى تعدل موقفها الرافض له، ولبقائه في السلطة.
في الوقت نفسه، خرج وزير الخارجية المصري، سامح شكري، كي يعرض مساعدة بلاده لفرنسا في مجال مكافحة الإرهاب، وذلك أيضاً فى لغة لا تخلو من إحساس بالذات والشماتة في ما حدث، وكأنه يوجه رسالة ضمنية للفرنسيين، ومن ورائهم الغرب، بأننا "لسنا وحدنا الفاشلين في محاربة الإرهاب، بل أنتم أيضا". منطق الطغاة واحد، وهو الاستثمار في الكوارث والمصائب، من أجل تعزيز سرديتهم ورؤيتهم الأحداث. يحاولون عزل الأمور عن سياقها وإبرازها كما لو أنهم أبرياء منها، كما يحاولون عدم الربط بين أفعالهم وسياساتهم ونتائجها التي يدفع ثمنها الغرب والشرق معاً. أما الطريف، فإن عرض شكري مساعدة لفرنسا، يأتي بعد الفشل المصري الذريع في حماية وتأمين الطائرة الروسية التي أسقطها الدواعش في سيناء أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري، في مفارقة لا تخلو من سذاجة وجهل.
في الوقت نفسه، لم يكن مفاجئاً أن يطلق الإعلام الموجّه سلطويا، حملة للتشفي والشماتة في فرنسا، وفي الغرب بوجه عام بعد هجمات باريس، وارتدى مروجوه "ثوب الحكمة"، موجهين اللوم والتأنيب للغرب، كتلك المذيعة التي طالبت بـ"التفتيش على مطاعم باريس"، في إسقاط سخيف على عملية التفتيتش التي تجري على مطار شرم الشيخ، بعد حادث الطائرة الروسية التي سقطت نتيجة اختراق أمني كبير. أو ذلك المذيع "الفاشي" الذي أشاد بإجراءات الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، الاستثنائية، ومن ضمنها فرض حالة الطوارئ، في محاولة باهتة لتبرير ما يفعله نظام السيسي من قمع وكبت وإغلاق للمجال العام. فضلاً عن ثلة المذيعين الآخرين الذين اتهموا الغرب بصناعة داعش، وبالتالي عليه، أن يدفع الثمن. وهو ما يعكس حالة بائسة ومركباً عجيباً من التدليس والترهيب وبث الأكاذيب وخلط الأوراق، يمارسها هؤلاء، ليس لشيء سوى لتبرير فاشيتهم وسلطويتهم وقمع حكوماتهم وإرهابهم المعارضين. أعرف واحدا من هؤلاء الصحفيين "الفاشيين" يعمل في إحدى الجرائد الحكومية الكبرى، ينتظر بفارغ الصبر وقوع أية جريمة إرهابية أو مقال فى الصحف الغربية عن جرائم "داعش"، لكي ينشره ويضعه على صفحته علي "فيسبوك"، في شعور عفوي وتلقائي، لتبرير جرائم الجنرال عبد الفتاح السيسي، ولسان حاله يقول "نحن، الفاشيين، أفضل بديلاً من الدواعش".
"إننا إزاء عملية استثمار سياسية، تجمع بين ثلاثة لاعبين متناقضين، هم الطغاة والدواعش وساسة أوروبا المتطرفون. مدفوعين جميعاً بمنطق المخاصمة والإقصاء والعقاب الجماعي"
ما يفعله هؤلاء الإعلاميون، ذكّرني بالأطروحة المتهافتة للرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، والتي كان يروجها من أجل تسويق نفسه وتبرير قمعه، وكانت تقوم على مطالبة الغرب باتباع "النموذج المصري"، في محاربة الإرهاب، من خلال القبضة الحديدية والتصفية الجسدية المباشرة من دون محاكمات للمتشددين، فضلاً عن إغلاق المجال السياسي أمام الإسلاميين، معتدلين أو متطرفين. وعلى غرار ما يفعل رجال السيسي الآن، كان مبارك مع كل حادثة إرهابية، ينتقد الغرب ويذكّرهم بحكمة بلاده في محاربة الإرهاب.
لغة الإرهابيين والطغاة واحدة، وهي تتبنى الأطروحة الفاسدة "من ليس معنا فهو ضدنا". وهي لغة كان قد استحدثها وتبناها شخص آخر موتور، قاد حرباً فاشلة، أدت إلى تدمير بلد عربي، ووضع من خلالها البذرة الأولى لتنظيم "الدواعش" ووحشيتهم. وهو المنطق نفسه الذي يروجه بعض ساسة أوروبا الآن، بعد سلسلة الهجمات الأخيرة فى بلدانهم، والذين يطالبون بمعاقبة كل المسلمين، خصوصاً من المهاجرين، بسبب إرهاب "الدواعش". وهم بذلك يرتكبون حماقة تاريخية، ليس فقط من الناحية الأخلاقية، وإنما السياسية أيضا. فهم بذلك يحققون ما يسعي إليه "الدواعش"، وهو زيادة الفجوة بين المسلمين ومجتمعاتهم الجديدة في الغرب، ما قد يدفع شبابهم إلى الهجرة إلى دولة "الخلافة".
أي إننا إزاء عملية استثمار سياسية، تجمع بين ثلاثة لاعبين متناقضين، هم الطغاة والدواعش وساسة أوروبا المتطرفون. مدفوعين جميعاً بمنطق المخاصمة والإقصاء والعقاب الجماعي. والجميع يستثمر في حماقات الطرف الآخر. فالطغاة يستثمرون في إرهاب الدواعش وسذاجة الغرب، والدواعش يستثمرون فى رعونة الغرب وقمع الطغاة، واليمين الأوروبي المتطرف يستثمر في وحشية الدواعش وإجرامهم من أجل تعميم أحكامه على الجاليات العربية والمسلمة التي تعيش في الغرب.
ولم يعد من سبيل أمام العقلاء، إن وجدوا، سوى مواجهة العوار الذي يحكم منطق هؤلاء جميعاً، من خلال إعادة تعريف مصدر الداء الذي يغذّي هذه الحلقة المفرغة من العبث، والمتمثلة في غياب الحرية والديمقراطية، وسيطرة القمع والاستبداد.
    نيسان ـ نشر في 2015/11/17 الساعة 00:00