'الطوفان' جرف 'النكسة'
نيسان ـ نشر في 2024/06/06 الساعة 00:00
د. موسى برهومة
حدثان ليس ثمّة ما هو أقسى منهما منذ وضعت الحرب العالميّة الثانية أوزارها؛ الأول تمثّل في هزيمة الجيوش العربيّة في الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967، والثاني انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.
حدثان استلهما آخرَ ما في التراجيديا السياسيّة من مفارقة وألم، وجاءا مثل لطمة مدوّية على الخدّ. وكان الخدّ هو التاريخ. والتاريخ ولئن توقّع ما جرى، إلا أنه ضاق ذرعاً بتحمّل نتائجه المأساويّة التي تعدّت هزيمة عسكريّة عربيّة جديدة، وانفراط عقد امبراطوريّة (لو بأدوات غير دمويّة)، وهو حدث نادر، وأغلب الظنّ أنه غير مسبوق.
على المستوى العربيّ، شكلت هزيمة 67 أكثر من "نكسة"، ومثّلت أكثر من منعطف، وأضحت علامة بارزة في تمزّق الروح القوميّة، وحلول اليأس بليله الطويل مكان أمل كان معلّقاً على "أهداب" الدبّابات العربيّة التي مُنيت بهزيمة مذلّة، في وقت قياسيّ.
ومن أجل أن "تحظى" بهزيمة لا تُنسى، ارفع سقف توقّعاتك، وتوعّد، كما فعل الإعلام العربيّ، بجعل العدوّ طعاماً لأسماك البحر التي دُعيت لأن "تتجوّع" انتظاراً للمأدبة الفاخرة.
الاتحاد السوفييتي العنيد تساقط مثل أحجار الدومينو، وتمزّقت دوله الخمس عشرة، وصارت الرؤوس النووية نموراً من ورق. نجحت المؤامرة الأمريكيّة، وكسبت الاستخبارات الغربيّة (وفي مقدمتها CIA) الرهان. ولم يبقَ من هيئة الاتحاد الفولاذيّ إلا صورة تذكاريّة لرئيسه المترنّح الأخير بوريس يلتسن وهو يرفع كأس الهزيمة (الديمقراطيّة) التي أطلقت العنان للولايات المتحدة، كي تصول وتجول وتستعمر العالم.
أمّا المصابون بالذهول من حجم الهزيمة العربيّة، فقد صاروا في مرمى شهوة التوسّع الإسرائيليّ؛ فمنذ سارت دبابات الميركافا بجنازيرها الثقيلة فوق أراضٍ عربيّة، كان ذلك آخر مسمار يُدقّ في نعش الأمل، من المحيط إلى الخليج. كانت الأحلام تنسفك مدراراة، والقهر يكوي الضلوع. وكانت الثقة بالجيوش والجنرالات تتصدّع. وصار كلّ شيء بمذاق اليأس.
وثمة من المفكّرين والمؤرّخين من ذهب إلى أنّ هزيمة حزيران قد أرخت بظلالها على كل ما في الحياة العربية من معانٍ؛ فالنهضة تعثّرت، والتعليم قلّت جودته، والشعور بالدونيّة تسرب حتى إلى (DNA) الجمعيّ. لم تكن إسرائيل كياناً غاصباً محتلّاً وحسب، بل أضحت هاجساً يقضّ مضاجع الحلم العربيّ، لاسيما وأنّ ما سُمّيت (إسفيناً في الخاصرة العربيّة) ظلت تنهش في الجسد وتقضمه، حتى صار أطلالاً.
وفي غضون ذلك سادت نزعة الاستسلام، وتمّ الترويج بأنّ الجيش الإسرائيلي لا يُقهر، وأنّ "الموساد" جِنٌّ غير مرئيّين إذا شاءوا أمراً حقّقوه، وإذا استهدفوا شيئاً نالوا منه على نحو يتعدّى الخيال.
كان تصنيع الصورة الخرافيّة عالقاً بهذا الكيان الذي استثمر في هذه الأسطورة، وراح يتنمّر على الدول والقادة، ويحاول مع الوقت فرض إرادته بقوّة "البُسطار".
لكنّ الصور، كما أخبرنا التاريخ، لا تعترف بالثبات، فالزمن والنائبات والرياح الهوج، تمزّق الصور وتجعل لونها باهتاً، وملامحها تذوب. ولعلّ هذا ما كان يفكّر فيه فلاديمير بوتين حين شنّ حربه على أوكرانيا. لقد كان يريد أن يمزّق الصورة الأخيرة ليلتسن الخّرِف وهو يرفع كأس الفودكا، واعداً آخر ما تبقى من السوفيات، بالديمقراطية والانعتاق، وتحويل الاقتصاد الاشتراكيّ الروسيّ إلى اقتصاد سوق رأسماليّ، وعلاج البلاد بالصدمة الاقتصاديّة. هجس بوتين (رجل الـ KGB) بأنّ الولايات المتحدة ليست قدراً، وكان في أثناء ذلك يتحسّس أزرار القنبلة النوويّة.
يقيّض للخامس من حزيران 2024، أن يمزّق الصور هو أيضاً. ثمّة السابع من أكتوبر 2023، يقول المؤرّخ الذي يستجمع شتات قوته، ويكتب أنّ الهزيمة ليست قدَراً.
سَمِّ "طوفان الأقصى" ما شئتَ. لكن تذكّر أنّ الأسطورة من صنع الخيال المذعور. لقد جاء من يَقهر "الجيش الذي لا يُقهر" ويمرّغ صورته بالوحل والعار.
"الطوفان" أطاح بالـ"النكسة". ثمّة تاريخ جديد ينبثق. المهم أن نُتقن قراءته.
حدثان ليس ثمّة ما هو أقسى منهما منذ وضعت الحرب العالميّة الثانية أوزارها؛ الأول تمثّل في هزيمة الجيوش العربيّة في الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967، والثاني انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.
حدثان استلهما آخرَ ما في التراجيديا السياسيّة من مفارقة وألم، وجاءا مثل لطمة مدوّية على الخدّ. وكان الخدّ هو التاريخ. والتاريخ ولئن توقّع ما جرى، إلا أنه ضاق ذرعاً بتحمّل نتائجه المأساويّة التي تعدّت هزيمة عسكريّة عربيّة جديدة، وانفراط عقد امبراطوريّة (لو بأدوات غير دمويّة)، وهو حدث نادر، وأغلب الظنّ أنه غير مسبوق.
على المستوى العربيّ، شكلت هزيمة 67 أكثر من "نكسة"، ومثّلت أكثر من منعطف، وأضحت علامة بارزة في تمزّق الروح القوميّة، وحلول اليأس بليله الطويل مكان أمل كان معلّقاً على "أهداب" الدبّابات العربيّة التي مُنيت بهزيمة مذلّة، في وقت قياسيّ.
ومن أجل أن "تحظى" بهزيمة لا تُنسى، ارفع سقف توقّعاتك، وتوعّد، كما فعل الإعلام العربيّ، بجعل العدوّ طعاماً لأسماك البحر التي دُعيت لأن "تتجوّع" انتظاراً للمأدبة الفاخرة.
الاتحاد السوفييتي العنيد تساقط مثل أحجار الدومينو، وتمزّقت دوله الخمس عشرة، وصارت الرؤوس النووية نموراً من ورق. نجحت المؤامرة الأمريكيّة، وكسبت الاستخبارات الغربيّة (وفي مقدمتها CIA) الرهان. ولم يبقَ من هيئة الاتحاد الفولاذيّ إلا صورة تذكاريّة لرئيسه المترنّح الأخير بوريس يلتسن وهو يرفع كأس الهزيمة (الديمقراطيّة) التي أطلقت العنان للولايات المتحدة، كي تصول وتجول وتستعمر العالم.
أمّا المصابون بالذهول من حجم الهزيمة العربيّة، فقد صاروا في مرمى شهوة التوسّع الإسرائيليّ؛ فمنذ سارت دبابات الميركافا بجنازيرها الثقيلة فوق أراضٍ عربيّة، كان ذلك آخر مسمار يُدقّ في نعش الأمل، من المحيط إلى الخليج. كانت الأحلام تنسفك مدراراة، والقهر يكوي الضلوع. وكانت الثقة بالجيوش والجنرالات تتصدّع. وصار كلّ شيء بمذاق اليأس.
وثمة من المفكّرين والمؤرّخين من ذهب إلى أنّ هزيمة حزيران قد أرخت بظلالها على كل ما في الحياة العربية من معانٍ؛ فالنهضة تعثّرت، والتعليم قلّت جودته، والشعور بالدونيّة تسرب حتى إلى (DNA) الجمعيّ. لم تكن إسرائيل كياناً غاصباً محتلّاً وحسب، بل أضحت هاجساً يقضّ مضاجع الحلم العربيّ، لاسيما وأنّ ما سُمّيت (إسفيناً في الخاصرة العربيّة) ظلت تنهش في الجسد وتقضمه، حتى صار أطلالاً.
وفي غضون ذلك سادت نزعة الاستسلام، وتمّ الترويج بأنّ الجيش الإسرائيلي لا يُقهر، وأنّ "الموساد" جِنٌّ غير مرئيّين إذا شاءوا أمراً حقّقوه، وإذا استهدفوا شيئاً نالوا منه على نحو يتعدّى الخيال.
كان تصنيع الصورة الخرافيّة عالقاً بهذا الكيان الذي استثمر في هذه الأسطورة، وراح يتنمّر على الدول والقادة، ويحاول مع الوقت فرض إرادته بقوّة "البُسطار".
لكنّ الصور، كما أخبرنا التاريخ، لا تعترف بالثبات، فالزمن والنائبات والرياح الهوج، تمزّق الصور وتجعل لونها باهتاً، وملامحها تذوب. ولعلّ هذا ما كان يفكّر فيه فلاديمير بوتين حين شنّ حربه على أوكرانيا. لقد كان يريد أن يمزّق الصورة الأخيرة ليلتسن الخّرِف وهو يرفع كأس الفودكا، واعداً آخر ما تبقى من السوفيات، بالديمقراطية والانعتاق، وتحويل الاقتصاد الاشتراكيّ الروسيّ إلى اقتصاد سوق رأسماليّ، وعلاج البلاد بالصدمة الاقتصاديّة. هجس بوتين (رجل الـ KGB) بأنّ الولايات المتحدة ليست قدراً، وكان في أثناء ذلك يتحسّس أزرار القنبلة النوويّة.
يقيّض للخامس من حزيران 2024، أن يمزّق الصور هو أيضاً. ثمّة السابع من أكتوبر 2023، يقول المؤرّخ الذي يستجمع شتات قوته، ويكتب أنّ الهزيمة ليست قدَراً.
سَمِّ "طوفان الأقصى" ما شئتَ. لكن تذكّر أنّ الأسطورة من صنع الخيال المذعور. لقد جاء من يَقهر "الجيش الذي لا يُقهر" ويمرّغ صورته بالوحل والعار.
"الطوفان" أطاح بالـ"النكسة". ثمّة تاريخ جديد ينبثق. المهم أن نُتقن قراءته.
نيسان ـ نشر في 2024/06/06 الساعة 00:00