جيل جديد من أبناء الجالية الإسلامية بأوروبا
نيسان ـ نشر في 2015/11/21 الساعة 00:00
عدت لتوي من العاصمة البلجيكية بروكسل؛ حيث انطلق معظم الذين نفذوا هجمات باريس ليلة الجمعة السبت الماضي، المدينة في حال من الوجوم من شدة الصدمة، وقوات الشرطة الخاصة بمكافحة الإرهاب، بملابسها العسكرية المميزة، موجودة بكثافة في محطة قطارات العاصمة الرئيسية والشوارع، والأحياء ذات الأغلبية المسلمة، يراقبون كل من هو داخل إليها، وكل من هو خارج منها، ولكن بأدب شديد ومهنية عالية.
الجالية الإسلامية في بلجيكا تنحني للعاصفة الأمنية العالية، وأفرادها، ومعظمهم من أبناء الاتحاد المغاربي، نسبة كبيرة منهم تقود سيارات التاكسي، يلتزمون الهدوء، الذي ليس من عادتهم، بحكم تجارب سابقة، خاصة مع شخص مثلي معروف لنسبة منهم من خلال شاشات التلفزة، ويصرون على تجنب الحديث بالعربية، والإصرار على الفرنسية، ربما من قبيل الاحتياط، ودرءًا للشبهات.
*
اسمان يترددان بقوة على ألسنة من أرادوا الحديث عن هجمات باريس الإرهابية بعد الاطمئنان إلى عدم وجود "أعين العسس"، الأول عبدالحميد أباعود، الذي يوصف بالعقل المدبر للهجمات، وقتل في هجوم لقوات الأمن الفرنسية في ضاحية سان دوني الباريسية، والثاني للفتاة حسناء آية بلحسن التي كانت ترتدي حزامًا ناسفًا، وفجرت نفسها على أن تستسلم للقوات الفرنسية التي اقتحمت الشقة.
قليلون هم الذين يظهرون أي تعاطف مع خلية بلدة "مولنبيك" في منطقة بروكسل التي ينتمي إليها، ونشأ فيها، ومعظم زملائه الآخرين منفذي الهجمات، أبو عمر البلجيكي، ونسبة المتبرئين من نهجهم وهجماتهم هم الاكثر، خاصة من جيل المهاجرين الأول، الكبار في السن، ولكن هذا ليس هو الحال مع أبناء الجيلين الثاني والثالث، الذين غالبًا ما يستخدمون كلمة "ولكن" بعد إدانة هذه الهجمات، ويقدم بعضهم مطالعة طويلة عن مظالم واقعة عليهم، أو على بلدان العالم الإسلامي.
أحد الشبان قال لي: هل اطلعت على بعض الصحف البلجيكية والفرنسية؟ هل شاهدت عمليات "التشويه" الأخلاقي لأعضاء الخلية؟ هل تمعنت في الصور المنشورة والأوصاف المستخدمة؟
طلبت التوضيح، وإن كنت أعلم جيدًا ما يقصد؛ فالصحف البريطانية "الرصينة" نشرت الصور نفسها، والتوصيفات نفسها، ومن بينها واحدة للفتاة حسناء وهي في حمام ساخن وسط فقاعات صابون، فقال غاضبًا: أعني الخوض في سيرة الشبان، والبحث في ماضيهم، والقول بأنهم منحرفون، مدمنو مخدرات وكحول، وخريجو سجون، والأكثر من ذلك نهش عرض الفتاة حسناء (السيدة الانتحارية الأولى، على حد وصف الصحف الفرنسية)، والحديث عن انحرافات أخلاقية قبل أن تلبس النقاب وتتحول إلى الإسلام المتشدد.
وأضاف بنبرة حزن وألم، يا سيدي هؤلاء اهتدوا و"خير الخطائين التوابون"، والآن حسابهم عند ربهم، وأكد أنه ليس مسلمًا متشددًا، ولا يقر هذه الهجمات، وقتل الأبرياء، ولكن هذا الإعلام المنفلت المحرض، يعرض المسلمين في أوروبا وأرواحهم للخطر، ويصعد من ظاهرة "الإسلاموفوبيا".
علينا فعلًا أن نستمع إلى الجيل الجديد من أبناء الجاليات الإسلامية في أوروبا، ومعنا الحكومات الغربية، التي أصبح هؤلاء من مواطنيها، للبحث عن حلول جذرية التي تدفع ببعضهم إلى التشدد والإقدام على هجمات إرهابية، وخاصة أزمة ضبابية الهوية التي يعانون منها، ولكن من المؤسف أن من يستمع إلى هؤلاء، أو بعضهم، بإصغاء شديد هم "شيوخ التويتر" و"أئمة الفيسبوك" و"السناب تشات" وغيرهم، الذين يتربعون حاليًا على وسائل التواصل الاجتماعي.
هناك مفهوم خاطئ لدى هذه الحكومات وأجهزة مخابراتها، وبنوك العقول "الفارغة" فيها، مفاده أن عمليات التحريض على التطرف تتم في المساجد في الغرب وأئمتها، ولذلك يزرعون أجهزة المراقبة والتجسس والمخبرين فيها، وينسون أن المصلين الكبار والصغار معًا يعرفون ذلك جيدًا، ولا يثقون بمعظم الأئمة، وبعضهم يعتبرهم، أي الأئمة، من موظفي الحكومة وعملائها، ويذهبون إلى مساجد ووعاظ وسائل التواصل الاجتماعي المفتوحة على مدى 24 ساعة، دون انقطاع، وفيها الكثير ما يثير اهتمامهم ويغير أفكارهم ويجندهم في صفوف الجماعات المتشددة.
من المهم أيضًا أن تفهم الحكومات الغربية أن سياساتها الخارجية، والجزء المتعلق منها بالتدخل العسكري، واعتبار أية هجمات في عواصمها ومدنها هو "إعلان حرب"، يجب الرد عليه بإرسال الطائرات الحربية، وحاملات الطائرات للقيام بردود فعل فورية مكثفة (قصف جوي)، هذه السياسات، وهذه الأعمال الانتقامية، قد تعطي نتائج عكسية تمامًا، ويكفي الإشارة إلى أنها أدت إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، وخلقت خمس دول إسلامية فاشلة على الأقل، وفراغًا ملأته الجماعات الإسلامية المتشددة، ولنا في ليبيا والعراق وسوريا والصومال وأفغانستان، وأخيرًا مالي أحد الأمثلة.
*
هؤلاء الشبان الذين أقدموا على هذه الهجمات في باريس هم أقلية الأقلية، ومن الخطأ أن تعامل الأغلبية بطريقة انتقامية أو ثأرية من جراء أفعالهم، وإلا تحولوا إلى الأكثرية، نقول هذا الكلام بمناسبة حملات التحريض الرائجة هذه الأيام في أوساط أحزاب اليمين الأوروبي العنصري ضد المسلمين جميعًا دون استثناء، وبات هذا التحريض يمتد إلى اللاجئين السوريين أيضًا.
المسلمون في العواصم الغربية يعيشون أوضاعًا صعبة هذه الأيام، وتواجههم نظرات التشكيك وأعمال التحريض في أي مكان يذهبون إليه، التشكيك في ولائهم، في اندماجهم، في هويتهم، ولكن رغم كل ذلك تظل أوضاعهم أفضل كثيرًا من نظرائهم في الدول العربية، أو من تبقى منها يستحق لقب الدولة.
رأي اليوم
نيسان ـ نشر في 2015/11/21 الساعة 00:00