عبد الحميد شرف ( 1939 - 1980)، قراءة في الفكر والممارسة

د. فيصل الغويين
نيسان ـ نشر في 2024/07/04 الساعة 00:00
يشكل القادة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية محطات بارزة في مسيرة الدول وتاريخ الأمم، ولما كان لهؤلاء القادة – على المستوى الوطني- دوراً كبيراً وعطاء مخلصاً وأصيلاً فإنّ من الواجب تذكير الأجيال الجديدة بهم، هذه الأجيال التي تم إفراغ ذاكرتها الوطنية من كثير من الرموز والبناة الحقيقيين للوطن، والذين ضحوا بدمائهم وشبابهم في سبيل رفعة وطنهم. كما تمثل سيرتهم دروساً في الوطنية الواعية، التي تنمي لديهم الاعتزاز والجد والمثابرة.
ولد عبد الحميد شرف عام 1939 في بغداد، ودرس في مدرسة المطران في عمان، ثم في الكلية العلمية الاسلامية، حيث أكمل دراسته الثانوية عام 1956، انتقل بعدها إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأمريكية، وتخرج في تخصص الفلسفة عام 1959.
حصل على شهادة الماجستير في القانون الدولي من الجامعة ذاتها عام 1962، حيث تناول في اطروحته موضوع " تطور القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة". وقد كان لتجربته في بيروت تأثير عميق في بلورة شخصيته وفكره السياسي وفلسفته في الحياة وفي الحكم، فقد تعلم فيها حب البحث عن الحقيقة التي هي ثمرة الحوار والمناقشة، وكان عاشقا للكتاب والمطالعة، قارئا لنوابغ الأدب وعمالقة الفكر والفلسفة.
التحق عبد الحميد شرف بعد عودته بوزارة الخارجية مديراً لقسم الشؤون العربية والفلسطينية، وقد منحته دراسته للقضية الفلسطينية وأبعادها الدولية والقانونية والإنسانية الأرض الصلبة التي وقف عليها كسفير للأردن في الأمم المتحدة فيما بعد. وفي عام 1963 عين مديراً عامًا للإذاعة الأردنية، وكان في ذات الوقت عضوا في اللجنة الفكرية لحركة القوميين العرب، ثم انتقل ليعمل مديراً للمنظمات الدولية في وزارة الخارجية، ثم مساعداً لرئيس الديوان الملكي.
وحين شكل الشهيد وصفي التل حكومته الثانية عام 1965 اختار عبد الحميد شرف ليشغل حقيبة الثقافة والاعلام، فكان بذلك أصغر وزير في تاريخ الأردن سنًا. وفي تموز 1967 اختارته الحكومة ليشغل منصب سفيرها في واشنطن، فكان واحداً من أنجح السفراء العرب، كما تابع دراسته العليا في جامعة جورج تاون في مجال العلاقات الدولية، وفي تموز 1972 أصبح مندوب الأردن الدائم في الأمم المتحدة.
في تموز من عام 1976 استدعي ليكون رئيسًا للديوان الملكي، فبدأ يمارس واجبه كمفكر ومواطن مسؤول على الصعيد العام، وبدأ يلقي المحاضرات ويتحدث في الندوات عن (بناء الانسان العربي الجديد)، وعن (الوحدة والتضامن العربي)، وعن (شروط التقدم السياسي والاجتماعي) في البلاد العربية، وعن (القضية الفلسطينية). وهكذا اجتمعت لدى عبد الحميد شرف إلى جانب تجربته الواسعة في العمل الدبلوماسي والقضايا الدولية، خبرة واسعة بالشؤون المحلية، الأمر جعله مؤهلاً لتولي منصب رئاسة الحكومة.
كان من المؤمنين بمحورية المواطن في أي عملية تنمية أو حركة نهوض اجتماعي أو سياسي، وكان يرى أنه من المستحيل لأية أمة أن تتقدم إذا لم تستنفر طاقات جميع أبنائها في معركة التقدم والبناء، ومن هنا كانت دعوته إلى اطلاق قوى التجديد والمشاركة الشعبية، وإلى الاهتمام بتربية الشباب عن طريق تطوير برامج التربية والتعليم؛ فقد طالب في احدى محاضراته بمراجعة جذرية وعميقة للعملية التربوية في الوطن العربي كله، بحيث يشكل اكتساب المهارات واستيعاب العلوم جانباً منها، وتشكل التربية وخلق المواطنة الصحيحة الجانب الآخر، كذلك دعا إلى ربط التربية في الوطن العربي بالأهداف القومية، داعيا الى مؤتمر عربي تربوي على مستوى رفيع غايته التركيز على نقطة محددة، وهي كيف ينقل التعليم إلى أبنائنا قيم المجتمع الجديد؟، وكيف يبني الشخصية المتكاملة؟
آمن قولا وفعلا بوجوب إطلاق حرية التعبير، وفي عهد رئاسته للديوان، وتاليا الحكومة، تم تشكيل المجلس الوطني الاستشاري، كإطار بديل ومؤقت عن المجلس النيابي الذي انتخب قبيل حرب عام 1967، وتوقفت جلساته بسبب احتلال الضفة الغربية ، حين رأت الحكومة آنذاك أن الظروف لا تسمح بإجراء انتخابات نيابية . وشكل المجلس الوطني فرصةلإعطاء المواطنين دورا في عملية صنع القرا . وكان عبد الحميد شرف من أشد المتحمسين لهذه الفكرة، ولم يشكل المجلس من المهللين لكل ما تفعله الدولة، بل من شخصيات فاعلة، ولها مصداقية في الشارع الأردني.
في التاسع عشر من كانون الأول 1979، كلف الملك حسين- رحمه الله - عبد الحميد شرف بتأليف الوزارة، وقد تميزت سياسته في الحكم بالدعوة إلى مجموعة من الأهداف، لا تزال تشكل مبادئ أساسية لأي نهج حكم فاعل، أهمها:
1- المشاركة الشعبية : حيث دعا الى أن تشكل الحكومة والشعب فريقًا واحدًا تقوم العلاقة فيه بينهما على الثقة المطلقة، وعلى فتح باب الحوار الإيجابي، من أجل عملية البناء والتنمية.
2- الشباب والعمل التطوعي : كان شرف يعلق الآمال على الشباب، وقد أولى قضيتهم عنايته القصوى، وكان هو نفسه أفضل تجسيد لروح الشباب؛ فقد اندمج في لقاءات متعددة مع الشباب وقياداتهم وممثلي أنديتهم، وكان آخر خطاب عام له موجه لشباب الأردن، حيث ألقى كلمة في حفل تخريج طلبة الكلية العربية في الأول من تموز 1980، قال فيها :" إنً القضية الأولى التي يواجهها وطننا بعد الحفاظ على وجوده هي قضية استيعاب الشباب في مؤسساته وكيانه، فبالشباب يتجدد الوطن، ويجدد خلاياه ويسير بخطى ثابتة نحو المستقبل".
3- التربية والتعليم : كان من الداعين إلى إعادة تقييم نظام التعليم في الاردن من خلال دراسة تجربتنا التعليمية، والعمل على إعادة توجيه التعليم بحيث يتناول ذلك مضمونه وسياسته معاً، بهدف ربط التعليم بالخطط الانمائية والبشرية، مع السعي لإعادة النظر في مناخ التعليم ومناهجه، مؤكداً على ضرورة الاهتمام بالمواهب والمهارات وصقلها وتأهيلها، ودعا إلى أن يكون التعليم جزء من تيار الحياة وحركة المجتمع، وأن يصبح تطوير المناهج ملبيًا لاحتياجات البلاد، وخاصة فيما يتعلق بالتعليم المهني.
4- التنمية الاقتصادية: انتقد عبد الحميد شرف الأنماط السلوكية عند البعض، حين رأى أنّ قطاعًا في المجتمع الاردني يسير في اتجاهات سلوكية خاطئة لا تتناسب مع شروط التنمية المتوازنة، وأنّ بعض قطاعات المجتمع تعيش في مناخ من الاسترخاء والفوضى الاستهلاكية، فدعا الى توجيه المجهود الوطني والشعبي للإنتاج، ولإنماء الثروة الوطنية والادخار، والاستثمار الانتاجي في قطاعات التنمية.
لم يكن الرجل من النوع الذي يطلق هذه الشعارات للاستهلاك السياسي دون متابعتها في مراحل التنفيذ، بل كان يعمل على تنفيذها، ويدعو اليها من خلال المؤتمرات الصحفية والندوات الإعلامية، ومن خلال اللقاءات المباشرة مع ممثلي القطاعات الاقتصادية في الأردن.
5- الحكم المحلي : في هذا المجال دعا عبد الحميد شرف إلى توسيع صلاحيات الحكام الإداريين، وكان يرى أنّ الحكم المحلي ينبغي أن يكون مشاركة بين الحكام الإداريين والمجالس البلدية، مع ضرورة منح الناس سلطات أكبر في اتخاذ القرارات التي تهم المحافظات بنظام يقوم على اللامركزية.
6- علاقة الحاكم بالمحكوم : تبنى عبد الحميد شرف في تعامله مع الشعب منهجاً يقوم على الصدق والصراحة، ومكاشفة المواطنين بحقائق الأمور، لذلك كان لا يتوانى في الكشف عن مواطن الضعف والتقصير في المؤسسات العامة، وكان يحلل الأسباب ويطرح أساليب العلاج دون أن يجامل أحد، وكان يعلن دائماً أنه لن يفرط إزاء أي اخلال بنزاهة الحكم، وبتأمين العدالة لجميع المواطنين، وقد أعدت وزارته مكتباً خاصا في الرئاسة يتلقى شكاوى المواطنين، كما أعدت تشريعا خاصا لإنشاء محكمة للنزاهة.
ومن الأحداث الهامة في عهد حكومته استحداث وزارة جديدة هي وزارة التنمية الاجتماعية، حيث دخلت من خلالها المرأة الأردنية الوزارة لأول مرة في تاريخ الأردن، ممثلة بوزير التنمية الاجتماعية انعام المفتي.
وبعد سبعة أشهر تقريباً من تولي حكومته مسؤولية الحكم، توفي رئيسها عبد الحميد شرف على أثر نوبة قلبية في 3 تموز 1980، عن واحد وأربعين عاما.
وإذا كانت حياته قصيرة بمفهوم الزمن، لكنها كانت زاخرة وغنية بالعطاء والريادة الفكرية والعملية. ولا تزال الكثير من أفكاره واجتهاداته تتضمن مبادئ وسياسات الحكم الرشيد. وقد نعى المغفور له الملك حسين رئيس وزرائه، وجاء في كلمته :" أيها الأخوة أبناء الأردن الحبيب، في مثل لمح البصر وفي وقت نحن في أشد الحاجة إلى مثل صدقه وإخلاصه ووضوح رؤياه وغزير عطائه غاب عنا الفارس ... إنّ الخسارة علي شخصًيا وعلى أسرتي الغالية ومواطنيه وأبناء أمته جسيمة علينا جميعاً سواء بسواء، فقد كان انسانا من خيرة من عرفت وانساناً من طليعة من توسمنا فيهم الخير والإخلاص والصدق والصفاء لرسالة ورثناها وراية نصونها".
وبعد فهذه لمحات من حياة رجل دولة أردني كبير، ومصلح متقدم على عصره، فما أحوجنا اليوم الى أمثاله من رجالات الوطن الأوفياء المخلصين، المؤمنين برفعة وطنهم وازدهاره.
في ذكرى وفاة عبدالحميد شرف نستذكر شعاره لترشيد الاستهلاك، وكانت الطفرة النفطية في أوجها، فنأسف ونغضب على ما فعلته فينا - ولا تزال - سياسات الحكومات منذ عقود، والتي شجعت ثقافة الاستهلاك التي استباحت كل شيء حتى قيمنا، فصار الفساد مباحاً، وصارت الإشارة إليه مدعاة للتهمة ليس للفاسد، بل لمن يحاول أن يحذر منه.
بعد أربعة وأربعين عاما، ينظر المجتمع الأردني إلى عبد الحميد شرف، كواحد من أهم من وصل إلى رئاسة الوزراء، إلى جانب الشهيدين هزاع المجالي ووصفي التل، نترحم عليه، وعلى مشروعه، وقد كان شخصا مثقفا، تنويريا، منفتحا، صريحا، نزيها، مخلصا لوطنه ومليكه قولا وفعلا.
    نيسان ـ نشر في 2024/07/04 الساعة 00:00