خبراء الاقتصاد يفرطون في الاعتماد على النظريات في واقع متغير
نيسان ـ نشر في 2024/07/14 الساعة 00:00
لا تزال أعداد كبيرة من النساء يقطعن أميالاً على أقدامهن يومياً للحصول على المياه العذبة لعائلاتهن عبر بلدان العالم النامي، وبذلك فإن حفر الآبار الذي يهدف إلى تقليل خطر الإصابة بالأمراض المنقولة عن طريق المياه وتوفير النساء لأوقاتهن مشروع شائع بين وكالات التنمية، ومع ذلك، يمكن لهذه المبادرات المفيدة أن تفشل في بعض الأحيان.
وخلال الحرب في أفغانستان، اكتشف جنود مشاة البحرية «المارينز» الأمريكيون أن بئراً وحيدة تم حفرها حديثاً في إحدى القرى قد تم تدميرها. لم يدمر المتمردون البئر، وإنما دمرتها أيدي النساء اللاتي تم حفر البئر من أجلهن، فما السبب؟! كانت المسيرة اليومية لجلب الماء هي الفرصة الوحيدة التي أُتيحت لهؤلاء النسوة للهرب من حياة المنزل، ويسلط تصرفهن الضوء على نقطة بسيطة، لكنها منسية في مسألة صنع السياسات: ما يناسب مكاناً ما، لا يناسب بالضرورة مكاناً آخر.
إن مبدأ «جميع الأشياء الأخرى متساوية» هو مبدأ شائع في دراسة العلوم الاجتماعية، فمن خلال تقييم التأثير الجزئي لمتغير واحد على الآخر يمكن للباحثين تطوير نظريات سببية. رغم ذلك يمكن أن يؤدي هذا المبدأ في بعض الأحيان إلى تفكير قاصر، وتكمن جاذبية النماذج السببية في بساطتها، فغالباً ما يتم تفضيل القواعد الأساسية على التفسيرات المعقدة. وينصب التركيز على النظريات التي تقابل بين مدارس الفكر المختلفة، على سبيل المثال، الكينزية مقابل النقدية، لكن العالم الواقعي هو نظام معقد مليء بحلقات التغذية الراجعة، والسببية العكسية ونقاط التحول. ويعد مبدأ «جميع الأشياء الأخرى متساوية» أداة ضرورية للدراسات المنضبطة، لكن اتباع مبدأ «تغيير ما يحتاج إلى التغيير» ضروري في بيئة اقتصادية أو تكنولوجية أو اجتماعية دائمة التطور.
وهناك عدد من الأسباب وراء ذلك، أولاً: غالباً ما تنهار النظريات التي يتم الاعتماد عليها، على سبيل المثال تركيز محافظي البنوك المركزية على منحنى فيليبس (العلاقة السلبية النظرية بين التضخم والبطالة)، ففي أوروبا لا يزال منحنى البطالة هادئاً رغم انخفاض التضخم، إذاً لا بد أن هناك عوامل أخرى تلعب دوراً في ذلك، أحد التفسيرات هو أنه مع انحسار صدمات سلسلة التوريد انخفضت ضغوط الأسعار، لكن الشركات التي تشعر بالقلق إزاء توافر العمال بعد الجائحة قررت اكتناز العمالة.
ثانياً: يمكن أن تؤدي النظريات إلى عواقب غير مقصودة. أحد الأمثلة على ذلك هو محاولة الولايات المتحدة فصل نفسها عن الصين، فزيادة حواجز الاستيراد يجب أن يقلل من التدفق المباشر للسلع من الصين إلى أمريكا- وقد حدث ذلك بالفعل، ولكن تشير إحدى الدراسات إلى أن الولايات المتحدة ربما لا تزال بحاجة إلى الاعتماد على الصين، لأن سلاسل التوريد قد أعيد ربطها ببساطة، من خلال بلدان أخرى.
ثالثاً: قد تخضع العلاقات السببية لنظرية ما، لكن ليس بالطريقة التي كانت متوقعة، وغالباً ما تنتج عمليات سحب الودائع المصرفية المفاجئة عن أخبار سلبية، لكن قبل انهيار بنك «سيليكون فالي» لم يأخذ العديد من علماء الاجتماع في الحسبان الدور الذي قد تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في تسريع هذه العملية، فقد أدى انتشار المعلومات على موقع «إكس»، المقترن بسهولة الصيرفة الرقمية، في هروب المودعين على نحو أسرع من المتوقع.
وهناك مثال على ذلك في تركيا، ففي أواخر 2021 تعرض المصرف المركزي إلى ضغوط من الرئيس لخفض أسعار الفائدة رغم ارتفاع التضخم. وتصاعد نمو الأسعار إثر ذلك، كما هو متوقع، لكنه انخفض في أوائل 2023، وفوجئ بعض خبراء الاقتصاد بعدم تصاعد التضخم إلى مستويات أعلى. أحد التفسيرات هو أن المقرضين في القطاع الخاص أبقوا على ارتفاع فوائدهم رغم انخفاض الفائدة الرسمية، تحسباً لتضخم خارج عن السيطرة، وساعد هذا في الحفاظ على الانضباط الائتماني، ما كبح الأسعار.
ويتبنى بعض المراقبين وجهة نظر ساخرة تذهب إلى أن مثل هذا التعقيد يعني عدم قدرة صانعي السياسة على السيطرة على أي شيء أو نمذجته، وأنه يجب عليهم التركيز على تدخلات بسيطة لا تتسبب في أضرار. ومن جديد فإن هذا ما ظن من حفروا الآبار في أفغانستان أنهم يفعلونه، فحتى التدخلات البسيطة قد تأتي بعواقب غير متوقعة.
عموماً هناك أطر راسخة للسياسات العامة من اللوائح التنظيمية إلى الضرائب والإنفاق، والتي تؤثر على المعايير والحوافز بطريقة يمكن التنبؤ بها على نطاق واسع. وما على صانعي السياسات إلا أن يتذكروا أن جميع الحلول يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار كجزء من النظام، ويعني ذلك تشجيع تجارب السياسات على نطاق صغير، ثم الاستفادة من الخبرات متعددة التخصصات، واستخدام مزيد من البيانات الدقيقة، التي تعكس الوضع في الوقت الحقيقي.
وتأمل ماجا غوبيل، خبيرة الاقتصاد السياسي، بأن تساعد التكنولوجيا على ذلك، وقالت: إن الثورة الرقمية، المتمثلة في المستشعرات وإعداد الصور والتوائم الرقمية ومعالجة البيانات والتعرف على الأنماط والعمليات المؤتمتة، بإمكانها لعب دور حاسم في الربط بين الافتراضات عن العوامل الاقتصادية وأفضل خيارات السياسات من ناحية، والتطورات في العالم الواقعي من ناحية أخرى.
لقد ساعدنا الاقتصاد والعلوم الاجتماعية خلال القرون القليلة الماضية على تبسيط فهم العالم، من خلال تحويل ذلك إلى قواعد وعلاقات واتجاهات، لكن مدى نفع كل هذه القواعد والعلاقات سيتحدد بمدى قدرتها على استيعاب التعقيد خلال العقود المقبلة.
وخلال الحرب في أفغانستان، اكتشف جنود مشاة البحرية «المارينز» الأمريكيون أن بئراً وحيدة تم حفرها حديثاً في إحدى القرى قد تم تدميرها. لم يدمر المتمردون البئر، وإنما دمرتها أيدي النساء اللاتي تم حفر البئر من أجلهن، فما السبب؟! كانت المسيرة اليومية لجلب الماء هي الفرصة الوحيدة التي أُتيحت لهؤلاء النسوة للهرب من حياة المنزل، ويسلط تصرفهن الضوء على نقطة بسيطة، لكنها منسية في مسألة صنع السياسات: ما يناسب مكاناً ما، لا يناسب بالضرورة مكاناً آخر.
إن مبدأ «جميع الأشياء الأخرى متساوية» هو مبدأ شائع في دراسة العلوم الاجتماعية، فمن خلال تقييم التأثير الجزئي لمتغير واحد على الآخر يمكن للباحثين تطوير نظريات سببية. رغم ذلك يمكن أن يؤدي هذا المبدأ في بعض الأحيان إلى تفكير قاصر، وتكمن جاذبية النماذج السببية في بساطتها، فغالباً ما يتم تفضيل القواعد الأساسية على التفسيرات المعقدة. وينصب التركيز على النظريات التي تقابل بين مدارس الفكر المختلفة، على سبيل المثال، الكينزية مقابل النقدية، لكن العالم الواقعي هو نظام معقد مليء بحلقات التغذية الراجعة، والسببية العكسية ونقاط التحول. ويعد مبدأ «جميع الأشياء الأخرى متساوية» أداة ضرورية للدراسات المنضبطة، لكن اتباع مبدأ «تغيير ما يحتاج إلى التغيير» ضروري في بيئة اقتصادية أو تكنولوجية أو اجتماعية دائمة التطور.
وهناك عدد من الأسباب وراء ذلك، أولاً: غالباً ما تنهار النظريات التي يتم الاعتماد عليها، على سبيل المثال تركيز محافظي البنوك المركزية على منحنى فيليبس (العلاقة السلبية النظرية بين التضخم والبطالة)، ففي أوروبا لا يزال منحنى البطالة هادئاً رغم انخفاض التضخم، إذاً لا بد أن هناك عوامل أخرى تلعب دوراً في ذلك، أحد التفسيرات هو أنه مع انحسار صدمات سلسلة التوريد انخفضت ضغوط الأسعار، لكن الشركات التي تشعر بالقلق إزاء توافر العمال بعد الجائحة قررت اكتناز العمالة.
ثانياً: يمكن أن تؤدي النظريات إلى عواقب غير مقصودة. أحد الأمثلة على ذلك هو محاولة الولايات المتحدة فصل نفسها عن الصين، فزيادة حواجز الاستيراد يجب أن يقلل من التدفق المباشر للسلع من الصين إلى أمريكا- وقد حدث ذلك بالفعل، ولكن تشير إحدى الدراسات إلى أن الولايات المتحدة ربما لا تزال بحاجة إلى الاعتماد على الصين، لأن سلاسل التوريد قد أعيد ربطها ببساطة، من خلال بلدان أخرى.
ثالثاً: قد تخضع العلاقات السببية لنظرية ما، لكن ليس بالطريقة التي كانت متوقعة، وغالباً ما تنتج عمليات سحب الودائع المصرفية المفاجئة عن أخبار سلبية، لكن قبل انهيار بنك «سيليكون فالي» لم يأخذ العديد من علماء الاجتماع في الحسبان الدور الذي قد تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في تسريع هذه العملية، فقد أدى انتشار المعلومات على موقع «إكس»، المقترن بسهولة الصيرفة الرقمية، في هروب المودعين على نحو أسرع من المتوقع.
وهناك مثال على ذلك في تركيا، ففي أواخر 2021 تعرض المصرف المركزي إلى ضغوط من الرئيس لخفض أسعار الفائدة رغم ارتفاع التضخم. وتصاعد نمو الأسعار إثر ذلك، كما هو متوقع، لكنه انخفض في أوائل 2023، وفوجئ بعض خبراء الاقتصاد بعدم تصاعد التضخم إلى مستويات أعلى. أحد التفسيرات هو أن المقرضين في القطاع الخاص أبقوا على ارتفاع فوائدهم رغم انخفاض الفائدة الرسمية، تحسباً لتضخم خارج عن السيطرة، وساعد هذا في الحفاظ على الانضباط الائتماني، ما كبح الأسعار.
ويتبنى بعض المراقبين وجهة نظر ساخرة تذهب إلى أن مثل هذا التعقيد يعني عدم قدرة صانعي السياسة على السيطرة على أي شيء أو نمذجته، وأنه يجب عليهم التركيز على تدخلات بسيطة لا تتسبب في أضرار. ومن جديد فإن هذا ما ظن من حفروا الآبار في أفغانستان أنهم يفعلونه، فحتى التدخلات البسيطة قد تأتي بعواقب غير متوقعة.
عموماً هناك أطر راسخة للسياسات العامة من اللوائح التنظيمية إلى الضرائب والإنفاق، والتي تؤثر على المعايير والحوافز بطريقة يمكن التنبؤ بها على نطاق واسع. وما على صانعي السياسات إلا أن يتذكروا أن جميع الحلول يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار كجزء من النظام، ويعني ذلك تشجيع تجارب السياسات على نطاق صغير، ثم الاستفادة من الخبرات متعددة التخصصات، واستخدام مزيد من البيانات الدقيقة، التي تعكس الوضع في الوقت الحقيقي.
وتأمل ماجا غوبيل، خبيرة الاقتصاد السياسي، بأن تساعد التكنولوجيا على ذلك، وقالت: إن الثورة الرقمية، المتمثلة في المستشعرات وإعداد الصور والتوائم الرقمية ومعالجة البيانات والتعرف على الأنماط والعمليات المؤتمتة، بإمكانها لعب دور حاسم في الربط بين الافتراضات عن العوامل الاقتصادية وأفضل خيارات السياسات من ناحية، والتطورات في العالم الواقعي من ناحية أخرى.
لقد ساعدنا الاقتصاد والعلوم الاجتماعية خلال القرون القليلة الماضية على تبسيط فهم العالم، من خلال تحويل ذلك إلى قواعد وعلاقات واتجاهات، لكن مدى نفع كل هذه القواعد والعلاقات سيتحدد بمدى قدرتها على استيعاب التعقيد خلال العقود المقبلة.
نيسان ـ نشر في 2024/07/14 الساعة 00:00