رسالة من غزة

اسماعيل الشريف
نيسان ـ نشر في 2024/07/15 الساعة 00:00
والسابقون السابقون... ثُلَّة من الأولين، وقليل من الآخرين- الواقعة، 10، 13، 14
كنت قد وصلت إلى قناعة أن الأمانة قد ضاعت بين الناس وخاصة بين الأقرباء، خنجر في الظهر يقتل الذكريات وبراءة الأطفال وملاعب الصبا. قلب مثقل بآلام الخيانة والغدر. لا يراعي الدم والرحم، يتحول به من اعتقدت أنه ملاذك الآمن إلى عشماوي أو سياف. إلى أن عشت قصة بكافة تفاصيلها الدقيقة، بطلها غزّي يعيش اليوم بأخلاق عصر النبوة، نسفت قناعتي تلك.
أُرسلت بعض الأموال القليلة إلى بطل قصتي في غزة، بقصد التخفيف البسيط من مصاب أهلها الجلل، فانقطعت أخباره ثلاثة أيام، بعدها تفقد المرسل هاتفه ليجد رسالة نصية قصيرة كتب فيها –شطبت أسماء الأماكن والأشخاص حفاظا على السرية-:
نحن محاصرون منذ أربعة أيام انقطع الانترنت، أود إبلاغك بأني لم أتمكن من بدء الصرف على النازحين بسبب صعوبة الظرف.. دعواتكم. وإذا جرى لنا شيء اطلب من (...) النقود التي أرسلت، يا رب يكتب لنا النجاة.
وفي اليوم الخامس أرسل يقول، بفضل دعاء الصابرة المصابرة أمي ما زلنا بخير، نحن مطوقون في محيط (...) من الدبابات والقناصة وروائح الجثث التي بدأت تنهشها الكلاب.. لم نتجهز لهذه المباغتة لدينا بالكاد 10 لتر ماء، نحن بين احتمالات ثلاثة: الاعتقال، أو النزوح، أو فلا الدنيا لنا وما كنا يوما للدنيا، كلنا لله وإنا إليه راجعون. دعواتكم
بعد أسبوع عاد الانترنت فأرسل رسالة أخرى عنونها" شهادة عيان" قال فيها: اقتحمت آليات الاحتلال (...) الساعة 2 فجرا.. سبق دخولَهم، أحزمة نارية عنيفة رجَعَت بذاكرتنا لبدايات الحرب.. لم أتمكن من مغادرة مكاني بسبب تدهور الحالة الصحية لوالدتي.. فمرغما قررت البقاء متأسيا ببقائي في الاجتياح السابق..
نازحو (...) ومن وفد إليها من (...) شعروا بالمباغتة فبدأوا بالهرب من أماكن مختلفة.
من الواضح بأن الجيش استخدم نفس جنود الاقتحام السابق فحركة الدبابات السريعة بين الشوارع وطريقة تنقلهم تؤكد معرفتهم لتضاريس المنطقة.
مع بزوغ الفجر، اكتمل تموضع الآليات واتخذت (...) مقرا لها
في الصباح اعتلى القناصة الأماكن المرتفعة، وبدأت الإعدامات لكل متحرك.. استمر هذا السيناريو طيلة 5 أيام بوتيرة متصاعدة رافق كل ذلك اقتحامات للمنازل وإعدامات ميدانية للنساء والرجال وحرق لبعضهم كما حدث مع ثلاثة نساء من عائلة (...)
احتراق المنازل المحيطة مشهدٌ يتكرر يوميا من بعد العصر، فأينما وقعت عيني أرى بنايات كاملة مشتعلة.
عدد صناديق الرصاص التي أفرغها الجيش عشوائيا على المنازل وتركها خلفه لا أبالغ إن قلت، تلُفّ سورَ دونم كامل، فضلا عن رصاص القنص وطلقات الكوادكابتر..
أحصيت في حائط واحد فقط، للمنزل الذي نزح فيه أكثر من 70 رصاصة بعضها اخترق الحائط، هذا كلّه ونحن متكومون أرضا بالداخل.. الفرصة الوحيدة التي نلتقط فيها أنفاسَنا هي لحظات تذخير أسلحتهم..
جاء دور شارعنا.. آليّة بدون سائق تقدمت فيه رافقها إطلاق للرصاص العشوائي استمر 20 دقيقة دون توقف.. ثم تراجَعت..
فسمعنا بعدها أصوات مداهمة الجنود لمنزل تلو المنزل. الشارع مُخلى من ساكنيه سوى أنا ومنازل أربعة من النازحين اقتادوا منهم 3 عائلات وطلبوا منهم عبر الصوت إبلاغ من تبقى بالشارع بالخروج سمعت اسمي بدأ يتكرر بصراخ مرتفع.. ثم ردّده الجنود تأكيدا على أهمية الطلب، أصبحت في موقف لا أُحسد عليه، بالباب جثث لأم وابنها وابنتها حاولوا الهرب فتم قنصهم ونزفوا حتى الموت، الجثث بدأت تتحلل وعليهم آثار نهش كلاب فتذرعت بهم لو سئلنا عن سبب إهمالنا للإشارة فجمعت قوتي المتخثرة وتركت الأمر لله ولمفاعيل الاستغفار.
بيني وبين صوت الجنود مسافة 10 متر يفصلهم سُور مرتفع.
وأنا ما زلت أقاوم رغبة بالاستجابة تنهار كلما سمعت اسمي.. في هذه اللحظات تدفق إطلاق للنار على الشبابيك مدة تجاوزت النصف ساعة يكفلني في ذلك الله فزادت رهبتي ومَن معي.. فقررت الصمت إلى أن أسمع الطرق على الباب أو انتظار تفجيره كما اعتاد على فعل ذلك الجنود.. حتى حدثت المعجزة.. تخطى الجنود خروجنا وكنا عائلتين بالمبنى بالمناسبة، وبقيتُ في المدعكة مع ابني وبنتاي وزوجتي وأمي التي اجتمع عليها المرض ونقص الماء والطعام والدواء، فنجونا بفضل الله ثم تمتمة لسانها..
نحن بخير، وأكاد لا أصدق أني للمرة الثالثة نجوت..
نعم بخير! فشكرا للنبلاء والمخلصين ولكل من دعا لنا سرّا وعلانية.
اللهم أفرغ على أهل غزة الصبر وثبت أقدامَهم، وبَـرّد على قلوب ثكلاهم ولا تجعلهم فتنة للكافرين.
انتهت الرسالة.
هذه قصة تتفوق على جميع قصص الأمانة التي قرأتها في كتب التراث مجتمعة التي تتحدث أولا عن الأمانة، ثم عن البر، تعجز كلماتي ويجف قلمي وترتجف أصابعي على لوحة المفاتيح عن التعليق على هذه القصة.
أقرأها مرات ومرات ومرات وأصحو عليها ليل نهار.
هؤلاء أصحاب عقيدة لا يهزمون!
    نيسان ـ نشر في 2024/07/15 الساعة 00:00