أنطونيو غوتيريش.. كارت أحمر للسردية الإسرائيلية

نيسان ـ نشر في 2024/10/11 الساعة 00:00
جاء أنطونيو غوتيريش إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة حاملًا إرثًا سياسيًا وفكريًا، ينبع من خلفيته السياسية والأخلاقية حين كان شاباً أيام "ثورة القرنفل" التي أطاحت بالنظام الديكتاتوري في البرتغال، ما جعله مناصرًا قويًا لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها ومناهضًا للاستعمار بكافة أشكاله.
هذه الشخصية المختلفة عن تلك الصورة التي رُسِمَت في أذهاننا لعقود عن مواقف الأمين العام لم تكن لتروق لإسرائيل، خاصة مع وضوح غوتيريش في إدانة سياساتها الاستيطانية وممارساتها الاستعمارية في فلسطين أمام المجتمع الدولي. فقرر وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، الأسبوع الماضي إعلان غوتيريش، "شخصًا غير مرغوب فيه" في إسرائيل.
قرار المنع كان ردًا على ما اعتبرته إسرائيل "إخفاقًا" من غوتيريش في إدانة الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير على أراضيها. و ما أثار حفيظة إسرائيل بشكل خاص هو منشور الأمين العام على منصة "إكس" (تويتر سابقًا) عقب الهجوم، حيث كتب: "أدين اتساع رقعة الصراع في الشرق الأوسط، وهذا يجب أن يتوقف". كانت هذه العبارة بمثابة رسالة تحمل من الحياد والإنصاف ما لا يتماشى مع رغبة إسرائيل التي تسعى لإشعال حرب إقليمية وإعادة رسم الشرق الأوسط كما يرغب بنيامين نتنياهو، فكان يتوقع قادة الاحتلال موقفًا أشد حزمًا تجاه ما وصفوه بـ"التهديد الإيراني".
ربما هذه ليست محطة الصدام الوحيدة بين الرجل وبين قادة إسرائيل. إذ كان له منذ بداية الحرب موقفا حازما يطالب بوقف إطلاق النار. فبعد عملية "طوفان الأقصى"، خاطب مجلس الأمن الدولي برسالة واضحة أدانت الهجمات، لكنها وضعتها أيضًا في سياقها التاريخي. فتحدث بلهجة جريئة ومباشرة قائلاً: "من المهم أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدث في فراغ".. فقد عانى الفلسطينيون من 56 عامًا من الاحتلال الخانق، ورأوا أراضيهم تُلتهم من أجل المستوطنات، وابتلوا بالعنف، واقتصادهم مخنوق، وشعبهم مشرد، ومنازلهم تُهدم."
أكلمات غوتيريش كانت كالشرارة التي أشعلت غضب الحكومة الإسرائيلية. فخطابه الشهير لم يقتصر على إدانة الطرفين، بل أصر على أن هجمات المقاومة، مهما كانت مرعبة على حد وصفه، "لا يمكن أن تبرر العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني".
عدم تماهي غوتيريش مع السردية الإسرائيلية الغربية التي تقول أن " إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها"، أغضب إسرائيل لدرجة أنها طالبت باستقالته وأعلنت أنها سترفض منح تأشيرات لموظفي الأمم المتحدة رداً على ذلك.
ويأتي هنا السؤال، وسط موجة الدعم الغربي المطلق لإسرائيل، كيف استطاع أنطونيو غوتيريش، من خلال قيادة مؤسسة دولية مترهلة و محدودة القوة التنفيذية مثل الأمم المتحدة، أن يقف هذا الموقف العادل ويدافع عن حقوق الفلسطينيين؟
فمن هو أنطونيو غوتيريش ؟
تصف الكاتبة تيريكسا كونستنلا في مقال لها بصحيفة El País الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنه "شوكة في خاصرة إسرائيل"، وذلك لا لشيء إلا لأنه رجل يلتزم بمبادئه.
وُلد غوتيريش في لشبونة بالبرتغال قبل 74 عامًا لأسرة فقيرة، لكنه اليوم صار ذلك الرجل، المعروف بأنه يحمل رسالة قوية بصوت خافت، رغم ذلك تشير تيريكسا أن كل عام يسعى غويتريش في الابتعاد أكثر فأكثر عن شخصية الأمين العام المشلول بسبب السياسة التي تحرك العالم خلف الكواليس.
إذ كان له دور بارز في التوصل لاتفاق لتصدير الحبوب خلال الصراع بين روسيا وأوكرانيا وتركيا، كما كانت تصريحاته بشأن مخاطر تغير المناخ أكثر صرامة من المعتاد في الدبلوماسية الدولية، حيث حذر في خطاب له قائلاً: "لقد فتحت الإنسانية أبواب الجحيم". ولم يتردد في انتقاد الشركات الكبرى، متهمًا إياها باستخدام المال والنفوذ لتأخير الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون عبر "التأخير والتشتيت والخداع".
و عندما بدأت الحرب في غزة، كانت تصريحاته أكثر وضوحًا وصراحة مما توقعته إسرائيل أو ترغب فيه. ورغم الضغوط الهائلة، صرح قائلاً: "لن أستسلم رغم فشل مجلس الأمن"، متعهدًا بمواصلة السعي للوصول لوقف إطلاق النار، حتى لو كانت القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة، تقف عائقًا أمامه، حيث قال بوضوح بعد أن منعت أمريكا مجلس الأمن من وقف إطلاق النار، سيداوم السعي لوقف إطلاق النار، مشيرًا إلى أن "مجلس الأمن مشلول بسبب الانقسامات الجيوستراتيجية".
ووصف المؤسسات الدولية بأنها "عفا عليها الزمن" فقد تجاوزها منذ 80 عامًا، وقرر استخدام المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة ورغم أنها لم توقف الحرب، إلا أنها كانت أداة قوية بيده لم يتوانى أن يستخدمها. ورغم غضب إسرائيل واتهام وزير خارجيتها إيلي كوهين له بأنه "تهديد للسلم العالمي"، لم يتراجع.
في أعقاب تصريحاته حول الحرب في غزة، والتي أثارت غضب إسرائيل، أشارت باربرا ريس، رئيسة تحرير صحيفة بوبليكو السابقة، إلى أن موقف غوتيريش ربما يأتي من "تقليد طويل في السياسة البرتغالية: كل شيء من أجل فلسطين، ولا شيء ضد إسرائيل".
فعلى الرغم من تعاقب 29 حكومة بمختلف توجهاتها السياسية في البرتغال على مدار 50 عاماً، بقي موقف البرتغال ثابتًا في دعم حقوق الشعب الفلسطيني والدفاع عن شرعية وجود دولة إسرائيل.
لكن بحسب باربرا أيضاَ، لا تعود مواقف أنطونيو غوتيريش الحالية إلى السياسة البرتغالية فحسب، بل تستند إلى مسار أخلاقي بدأه منذ شبابه. فعلى الرغم من دخوله عالم السياسة بعد سقوط الديكتاتورية في البرتغال عام 1974، إلا أن التزامه بالعمل الاجتماعي والعدالة ظهر منذ أيامه كطالب.
أنطونيو غوتيريش.. الشاب الاشتراكي
في مقال نشر في صحيفة الغارديان للكاتبين أنجيليك كريسافيس وجوليان بورجر، يبرز أنطونيو غوتيريش كقائد أممي خلال أكثر الأوقات تحديًا على الساحة الدولية. ويشير الكاتبان إلى أن غوتيريش لم يصبح هذه الشخصية القيادية بشكل فجائي، بل هو نتاج مسيرة طويلة وشاقة بدأت منذ شبابه.
فلم يكن مجرد سياسي عادي، بل شخصًا أظهر التزامًا راسخًا بالقيم الأخلاقية منذ البداية. حيث قضى فترات من طفولته في الريف البرتغالي مع أقاربه، حيث عرف الفقر وشاهد بعينيه الحياة الصعبة التي يعيشها الناس تحت ظل الديكتاتورية. هذه التجارب المبكرة شكلت وعيه الاجتماعي والسياسي، وقادته نحو العمل التطوعي منذ شبابه.
كان كاثوليكي واشتراكي، تميز باهتماماته الدولية وإتقانه لعدة لغات. تزوج مرتين، أولًا من لويزا غيمارايش إي ميلو بين 1972 و 1998، وبعد وفاتها تزوج كاتارينا فاز بينتو في عام 2001، وهو أب لابن وابنة.
درس غوتيريش الفيزياء والهندسة الكهربائية في المعهد العالي للتكنولوجيا بجامعة لشبونة، وتخرج عام 1971 ليتولى التدريس كأستاذ مساعد.
وخلال عام 1967، عندما ضربت فيضانات مدمرة العاصمة لشبونة، تاركة وراءها آلاف المشردين والمئات من القتلى، كان غوتيريش جزءًا من الجهود التطوعية لمساعدة المتضررين.
وعلى الرغم من محاولات الحكومة الديكتاتورية إخفاء الكارثة، إلا أن هذه اللحظة كانت مفصلية في حياة غوتيرش الشاب البرتغالي آنذاك. إذ دفعته نحو الانخراط في العمل السياسي والاجتماعي. فانضم إلى مجموعة تطوعية تهدف إلى مساعدة الفقراء والمحتاجين في العاصمة البرتغالية، واستمر في ذلك النشاط حتى بعد دخوله عالم السياسة.
إذ "كان رجلًا ذو ضمير حي"، كما قال عنه ريكاردو كوستا، رئيس تحرير صحيفة SIC News البرتغالية، والذي حكى أن غوتيريش حتى بعد أن أصبح رئيساً للوزراء، كان يذهب بانتظام إلى الأحياء الفقيرة لتعليم الأطفال الرياضيات، وكان يرفض أي تغطية إعلامية لما يقوم به. إذ كان يؤمن أن ما يفعله شخصي وخالص، وليس للاستعراض.
رحلته الرسمية للسياسة
وفقًا لكتاب سيرته الذاتية Honest Broker: A Biography of António Guterres، الذي كتبه بيدرو لاتويرو وفيليبي دومينجيز، بعد سقوط الديكتاتورية في البرتغال على يد "ثورة القرنفل" عام 1974، بدأ غوتيريش رحلته السياسية بشكل رسمي. و في عام 1976، سارع غوتيريش إلى تسلق صفوف الحزب الاشتراكي. فشغل مناصب بارزة، منها رئاسة مكتب وزير الدولة للصناعة، وأصبح نائبًا عن منطقة كاستيلو برانكو في البرلمان، و سرعان ما أظهر مهارته الخطابية والسياسية، حيث أطلق عليه لقب "الفأس المتحدث" بسبب قدرته على تدمير حجج خصومه السياسيين بأسلوب دقيق وقاطع.
لم يكن مجرد عضو عادي في الحزب، بل قاد المقعد البرلماني للاشتراكيين، ولعب دورًا حاسمًا في مفاوضات انضمام البرتغال إلى الاتحاد الأوروبي، وهو إنجاز تاريخي لبلاده.
في ذلك الوقت، لم يتوقف غوتيريش عند السياسة المحلية، فقد كان عضوًا مؤسسًا في مجلس اللاجئين البرتغالي، مما أظهر مبكرًا اهتمامه العميق بالقضايا الإنسانية، وهو اهتمام سيقوده لاحقًا إلى العمل على مستوى عالمي.
غوتيريش رئيسًا للوزراء
وبعد سلسلة من الهزائم التي واجهها الحزب الاشتراكي البرتغالي في الانتخابات البرلمانية، تولى غوتيريش زعامة الحزب عام 1992. و تمكن بسرعة من أن يصبح زعيم المعارضة، و وضعت حملته الانتخابية شعار في الانتخابات "القلب والعقل"، إشارة إلى مزيج من الإنسانية والذكاء السياسي.
وفي عام 1995، صعد إلى منصب رئيس الوزراء. كان ذلك تتويجًا لرحلة طويلة في الحياة السياسية، لكن بداية تحديات جديدة.
في ولايته الأولى، كان غوتيريش يتمتع بشعبية كبيرة، حيث استفاد من النمو الاقتصادي الذي شهدته البرتغال و معظم الاقتصادات الغربية في التسعينيات. استثمر هذا النمو لتوسيع برامج الرعاية الاجتماعية والحد من العجز، وتوسيع نطاق التعليم.
وكما يذكر المؤلفان في سيرته الذاتية، لعب غوتيريش دورًا حاسمًا في تعزيز مكانة البرتغال على الساحة الدولية، خصوصًا من خلال دعوته لتدخل الأمم المتحدة في تيمور الشرقية (المستعمرة البرتغالية سابقاً)، وهي الخطوة التي ساعدت في تحقيق السلام هناك بعد أحداث عنف شديدة.
كما أشرف على نقل سيادة مكاو من البرتغال إلى الصين عام 1999، وهو حدث تاريخي بالنسبة للبلدين. فهذه العلاقة الدافئة مع الصين كان لها أثر بالغ في مستقبله السياسي، حيث لعبت بكين دورًا في تأييد انتخابه لاحقًا كأمين عام للأمم المتحدة بعد 17 عامًا.
في عام 2000، عندما تولت البرتغال الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، نُسب نجاحها إلى قدرة غوتيريش على جعل القادة الكبار يتفقون والقادة الأصغر حجمًا يُسمعون.
قال أنطونيو فيتورينو، نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع في حكومة غوتيريش، عنه: "كان شخصًا ماهرًا – ذكيًا جدًا، وسريعًا في فهم وجهة النظر الأخرى، ومركّزًا للغاية على إيجاد الحلول – ولهذا السبب نجح في إدارة الأمور".
مأساة عائلية صامته صاغت مهارات غوتيريش السياسية
إلا أن وراء نجاحه السياسي كانت تكمن مأساة عائلية صامتة. فقد كانت زوجته الأولى، لويزا جيماريش إي ميلو، طبيبة نفسية وأم لطفلين، تعاني من مرض خطير طوال معظم فترة تولي غوتيريش رئاسة الحكومة. وقد قال فيتورينو: "كانت واحدة من أصعب لحظات حياته السياسية.. ففي كل صباح جمعة، كان يستقل الطائرة إلى لندن ليقضي عطلة نهاية الأسبوع في وضع يائس للغاية بجانب زوجته المريضة، ثم يعود صباح يوم الاثنين لاستئناف عمله. كنت حينها نائبًا لرئيس الوزراء، وكنت مذهولًا. لم أكن لأتمكن من فعل ما كان يفعله".
في عام 1998، توفيت زوجة أنطونيو غوتيريش، تاركة وراءها أثرًا عميقًا على حياته الشخصية والسياسية. فواحدة من أهم المهارات التي امتلكها غوتيريش، لم يتعلمها من عالم السياسة البرتغالية أو من السنوات الصعبة التي قضاها في المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، بل اكتسبها من زوجته الأولى، لويزا.
فخلال حديثه أثناء منافسته على منصب الأمين العام للأمم المتحدة، أشار غوتيريش إلى كيف كانت رؤاها التحليلية النفسية ذات قيمة كبيرة في تشكيل تفكيره. قال: "لقد علمتني شيئًا كان مفيدًا للغاية في جميع أنشطتي السياسية. فعندما يجتمع شخصان معًا، لا يكونان اثنين بل ستة. ما هو كل واحد، وما يعتقد كل منهما أنه هو، وما يعتقد كل منهما أن الآخر هو".
وتابع غوتيريش موضحًا أن هذا التحليل العميق للعلاقات بين الأفراد ينطبق أيضًا على البلدان والمنظمات.
في العام التالي، ألقى بنفسه في الانتخابات العامة، ورغم نجاحه السابق في تحسين الاقتصاد البرتغالي، فإن ولايته الثانية كانت مليئة بالتحديات. ففي الانتخابات العامة التالية، سعى غوتيريش لتحقيق أغلبية برلمانية لكنه انتهى بقيادة حكومة أقلية، مما جعله يواجه تحديات كبيرة مثل التباطؤ الاقتصادي وكارثة جسر هينتزي ريبيرو. في عام 2002، مما دفع غوتيريش في نهاية المطاف إلى تقديم استقالته في عام 2002. وقال حينها أنه يريد تجنب سقوط البلاد في "مستنقع سياسي" وأنه اكتشف أن "السياسة لها حدودها".
غوتيريش مفوضاً سامياً لشؤون اللاجئين
بعد استقالته من منصب رئيس الوزراء، تحول غوتيريش إلى العمل على الساحة الدولية. في عام 2005، تولى منصب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وخلال عقد أمضاه أنطونيو غوتيريش في منصب المفوض السامي، من 2005 إلى 2015، اعتبره الكثيرين في البرتغال امتدادًا طبيعيًا لشخصيته، إذ جمع بين التزامه الاجتماعي وبراعته في إيجاد أرضية مشتركة للحوار.
فكانت فترة قيادته للمفوضية مرحلة محورية له، حيث شهدت المنظمة نموًا ملحوظًا، ليس فقط بسبب زيادة عدد اللاجئين في العالم في القرن الحادي والعشرين، بل بفضل توسيع غوتيريش نطاق الفئات التي تشملها حماية المفوضية. إذ لم يقتصر تركيزه على اللاجئين التقليديين، بل امتد ليشمل النازحين داخليًا والمهاجرين الذين أجبروا على مغادرة منازلهم بسبب الكوارث الطبيعية وتغير المناخ، مفضلًا استخدام العبارة الشاملة "الناس في حركة" لوصفهم.
كان غوتيريش معروفًا في الأوساط السياسية بشغفه الثقافي ومحادثاته العميقة التي تتراوح من اليونان القديمة إلى ثقافة الشرق الأوسط والجغرافيا والأوبرا. وخلال زياراته إلى واشنطن، كان يستغل الفرصة لزيارة مكتبات لشراء الكتب التي لم تكن متوفرة بسهولة في جنيف. هذا الشغف بالمعرفة، كما أشار ميشيل غابودان، الممثل الإقليمي للمفوضية، عكس عقلية غوتيريش الواسعة النطاق وقدرته على الجمع بين التفكير الاستراتيجي والإنساني.
تحت قيادة أنطونيو غوتيريش، شهدت المفوضية نمواً كبيراً، حيث نجح في إقناع المانحين بتمويل توسعاتها بفضل الثقة في كفاءة إدارة الأموال. كان غوتيريش عملياً ودقيقاً في التعامل مع التفاصيل المالية، كما أشار غابودان إلى قدرته على تحليل جداول البيانات بسرعة تفوق مسؤوله المالي، مما مكنه من اكتشاف الأخطاء وتدقيق الميزانيات بفاعلية. بالإضافة إلى ذلك، خفض غوتيريش الإنفاق على المقر الرئيسي في جنيف والموظفين إلى النصف تقريباً، بينما زاد من قدرة المفوضية على استيعاب أعداد أكبر من اللاجئين. ووفقاً لأندريه كوريا دالميدا، كان هذا الإنجاز مثيراً للإعجاب، خاصة بالنظر إلى ميل الأمم المتحدة نحو التضخم والفساد.
ويذكر جاستن فورسيث، الرئيس التنفيذي لمنظمة "أنقذوا الأطفال" في المملكة المتحدة، عندما كان يسافر مع أنطونيو غوتيريش إلى مخيمات اللاجئين في لبنان، كان يتأثر بشدة بتفاعل غوتيريش المباشر مع اللاجئين، وخاصة الأطفال. إذ يقول فورسيث: "كان يجلس القرفصاء على أرضية خيمة ويتحدث إلى الأطفال. يستمع بعمق، يطرح الأسئلة، ويتأثر حقًا بما يسمعه. كان يلوث يديه ويغوص في التفاصيل".
و في إحدى الزيارات لأطفال اللاجئين في وادي البقاع بلبنان، بدأ بتدريس فصل رياضيات للأطفال، كما تذكر المتحدثة السابقة باسم وكالة اللاجئين، مليسا فليمنج.
رغم ذلك، لم تكن فترة غوتيريش خالية من الانتقادات. إذ أشار بعض المسؤولين السابقين في الأمم المتحدة إلى أن غوتيريش كان ينبغي أن يتخذ مواقف أكثر حزمًا دفاعًا عن حقوق اللاجئين المنصوص عليها في اتفاقية اللاجئين لعام 1951.
ومن الأمثلة التي أثيرت ضده كانت إعادة تايلاند للأويغور قسرًا إلى الصين، ومشكلة اللاجئين الصوماليين في كينيا.
ففي عام 2015، واجه غوتيريش أزمة مع كينيا، التي هددت بإغلاق مخيم داداب للاجئين الصوماليين وطردهم. حينها طار غوتيريش من مقره في جنيف إلى مقديشو للقاء الرئيس الصومالي، ثم إلى نيروبي للقاء الرئيس الكيني، ثم إلى مخيم اللاجئين داداب، وتمكن من التوصل إلى اتفاق لإبقاء المخيم مفتوحًا مع إعادة الصوماليين الراغبين في العودة فقط. ورغم أن الاتفاق لم يكن مثاليًا، كما قال بيل فريليك من هيومن رايتس ووتش، فقد احتوى موقفًا متفجرًا.
إلا أن بعض النقاد، مثل فينسنت كوشتل من مفوضية الأمم المتحدة، رأوا أن ميل غوتيريش لعقد الصفقات حدّ من قدرته على مواجهة الدول القوية التي يعتمد عليها للحصول على الدعم المالي. كما أشار بيتر هيهنكامب إلى أن غوتيريش كان "يحاول جاهداً إبرام صفقات ثنائية لإبقاء الحدود مفتوحة"، في حين كان ينبغي عليه أن يطالب العالم باتخاذ إجراءات أكبر لحل أزمة اللاجئين بشكل جذري.
رغم ذلك، وفقاً لصحيفة واشنطن بوست، بصفته رئيسًا لوكالة اللاجئين التي تعاني من نقص السيولة النقدية بشكل دائم من عام 2005 إلى عام 2015، كان يسافر باستمرار، ويزرع ثقة القادة في كل من البلدان التي تستضيف اللاجئين وتلك التي تدفع لهم.
غوتيريش في الأمم المتحدة .. نسخة مختلفة
أنطونيو غوتيريش، منذ توليه منصب الأمين العام للأمم المتحدة خلفا لبان كي مون، في عام 2017، قاد العديد من الإصلاحات والمبادرات العالمية الهامة. ركّز بشكل خاص على مواجهة التغير المناخي، حيث دعم تنفيذ اتفاق باريس ودعا الدول الغنية إلى تقديم الدعم المالي للدول النامية المتضررة.. كما قاد جهود الإصلاح داخل الأمم المتحدة، وركّز على تقليص البيروقراطية وزيادة فعالية المنظمة في الاستجابة للأزمات، بما في ذلك استجابته السريعة لجائحة كوفيد-19، حيث دعا إلى توزيع عادل للقاحات بين الدول الفقيرة والغنية لضمان تعافٍ عالمي مستدام.
في ملف اللاجئين، واصل غوتيريش دعمه القوي للاجئين، مستفيداً من خبرته السابقة كمفوض سامي لشؤون اللاجئين. دعا إلى تعزيز التعاون الدولي لإيجاد حلول دائمة لأزمة اللاجئين والمهاجرين، فتجول غوتيريش في مختلف مناطق الصراع حول العالم، وكانت له مواقف معروفة من مسألة اللاجئين الذين تدفقوا على أوروبا خاصة من منطقة الشرق الأوسط، إذ قال في تصريح له إن ما قدمته أوروبا في موضوع اللاجئين ليس بالكثير، وإن القارة بحاجة إلى مهاجرين.
انتقد أنطونيو غوتيريش بشدة تعامل الدول الغنية مع أزمة اللاجئين السوريين، معبرًا عن أسفه حيال عدم إدراك تلك الدول لمدى خطورة الأزمة إلا بعد أن وصل اللاجئون إلى أوروبا. وقال في إحدى تصريحاته الشهيرة: "للأسف، لا يلاحظ الأغنياء وجود الفقراء إلا بعد أن يدخل الفقراء باحات الأغنياء"، مشيرًا إلى التأخر في الاستجابة العالمية تجاه هذه الكارثة الإنسانية.
غوتيريش لطالما تميز بخطاباته الذكية واللاذعة، حيث أشار مرارًا إلى فشل النظام الدولي الحالي وتأثره بإرث الاستعمار. وانتقد غياب تمثيل القارة الإفريقية في مجلس الأمن الدولي، معتبرًا أنه "من المخزي ألا يكون للقارة الإفريقية مقعد دائم في مجلس الأمن". وفي إطار إصلاح النظام العالمي، دعا إلى إجراء تغييرات جذرية تبدأ من مجلس الأمن وصولاً إلى النظام المالي الدولي ليصبح أكثر شمولية ويعكس التحديات الحديثة.
فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ظل غوتيريش صوتًا قويًا للدفاع عن حقوق الفلسطينيين، وواحدًا من القادة الدوليين الذين لم يترددوا في إدانة السياسات الإسرائيلية بشكل صريح. دعا باستمرار إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، مع تأكيده على أهمية حل الدولتين على حدود 1967، كما ندد بوضوح بممارسات إسرائيل المتعلقة بالتوسع الاستيطاني واستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين الفلسطينيين، وخصوصًا خلال حرب غزة. دعمه المستمر لوكالة الأونروا، التي وصفها بأنها "شريان الحياة" للاجئين الفلسطينيين، كان أيضًا جزءًا محوريًا من مواقفه، مؤكدًا أن وقف عمل الوكالة سيؤدي إلى كارثة إنسانية في الأراضي المحتلة.
لم يكن أنطونيو غوتيريش دائمًا من منتقدي إسرائيل بهذا الشكل، ففي أكتوبر 2020، حصل غوتيريش على جائزة تيودور هرتزل من المؤتمر اليهودي العالمي، حيث وصفه رئيس المؤتمر، رونالد لاودر، بأنه "صديق حقيقي ومخلص للشعب اليهودي ودولة إسرائيل".
إلا أن مواقفه باتت تأخذ منحنى تراه إسرائيل تعد كل خطوطها الحمراء، خلال السنوات الأخيرة، مما أثار غضبها بشكل كبير، فقبل اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، كان غوتيريش قد ندد بخطط إسرائيل لبناء أكثر من 5500 وحدة سكنية جديدة في المستوطنات بالضفة الغربية المحتلة، مشيرًا إلى أن هذه السياسات تشكل عقبة كبرى أمام عملية السلام وحل الدولتين.
وموقفه لم يقتصر على ذلك، بل سبق وأن انتقد إسرائيل في حرب غزة عام 2021 بشدة، داعيًا إلى وقف فوري لإطلاق النار، مما أدى إلى ردود فعل غاضبة من قبل إسرائيل حينها.
وخلال الحرب، وفي لفتة إنسانية ظهر أنطونيو غوتيريش بزيارته لمعبر رفح في غزة مرتين، الأولى في بداية الحرب، والثانية خلال شهر رمضان وهو صائم. هناك، وقف متحدثًا للعالم، داعيًا إلى وقف فوري لإطلاق النار وإنهاء المعاناة الإنسانية، مما أغضب إسرائيل بشدة، حتى وصل الأمر بوزير خارجيتها إلى اتهام الأمم المتحدة بأنها "منظمة معادية لإسرائيل". لكن لم يتراجع غوتيريش، وقام بعدها بإدراج إسرائيل في القائمة السوداء، للأطراف التي ترتكب انتهاكات جسيمة ضد الأطفال.
وبالتوازي مع الحرب، حضر غوتيريش القمة العربية في البحرين، لما يجري من مآسٍ في غزة قائلاً، "إن الحرب في غزة هي جرح مفتوح قد يتسبب بعدوى في جسد المنطقة بأكملها" و استغل الفرصة ليقدم خطابًا غير مألوف في مثل هذه اللقاءات، داعيًا القادة العرب إلى الوحدة والتضامن. استحضر في كلمته التاريخ المجيد الذي عاشته قرطبة وبغداد عندما كانتا منارات للحضارة الإنسانية، وكيف تبدلت موازين القوى منذ ذلك الحين. ورغم التحديات الحالية، أعرب غوتيريش عن تفاؤله الكبير بمستقبل المنطقة العربية، مشيرًا إلى أن العالم العربي يمتلك اليوم إمكانيات هائلة من الموارد والثقافة والبشر تمكنه من استعادة دوره الفاعل والمؤثر على الساحة العالمية.
    نيسان ـ نشر في 2024/10/11 الساعة 00:00