بينالي البندقية: فلسطين بوصفها مسألة فنّية

نيسان ـ نشر في 2024/10/28 الساعة 00:00
خارج إطار مهرجان فينيسيا السينمائي، أو «المعرض الدولي للفن السينمائي لبينالي فينيسيا»، باسمه الإيطالي، لهذا المهرجان ميزة عن غيره، هي تزامنه مع بينالي الفنون في المدينة، المعرض الدولي للفنون المعاصرة الأكبر من نوعه، المنعقد هذا العام من 20 نيسان/إبريل إلى 24تشرين الثاني/نوفمبر. فيكون زائر بينالي السينما زائراً، للضرورة، لبينالي الفنون.
كان هذا حال كاتب هذه الأسطر، في التخلي عن يوم من المعرض السينمائي، الموسترا، لتكريسه إلى ذلك الفني، مضحّياً بفيلمين أو ثلاثة أفلام من المسابقة الرسمية مقابل يوم كامل في المعرض الموزّع على ساحتين شاسعتين ومنفصلتين على جزر فينيسيا وبين قنواتها، أرسينال وجيارديني. شساعة بالكاد تكفي ساعاتِ فتح المعرض أبوابه في اليوم، من الساعة الحادية عشرة حتى السابعة مساء.
المعرض المنتشر كذلك في مساحات منفصلة داخل المدينة، في مراكز وصالات، يقدّم معروضاته ضمن أجنحة دول، وبأسماء فنانين بمعزل عن أي تمثيل رسمي، ضمن صالاته الكبرى، وكلها تحت عنوان جامع لدورة هذا العام هو «أجانب في كل مكان». شعار، أو ثيمة للمعرض خيّم على أعمال هذه الدورة التي يلاحظ زائرها تنوعاً كبيراً في الثقافات والبلدان التي تمثلها، كأنّ للبينالي غاية ملء صالات العرض بالأعمال الأجنبية، في كل مكان، تلخيصاً لحال العالم المختلط بأجانبه، في مدنه الكبرى، الكوزموبوليتية على الأقل، كأن المعرض عاصمة مصغّرة. لكن، لا يمنع ذلك فلسطينياً يتجول في المعرض ويرى «أجنبيةً حقيقية» شقراء مسنّة، تحمل كيساً قماشياً على كتفها مكتوباً عليه «أجانب في كل مكان»، في بلد يحكمه يمين متطرف، ليقرأها: «اللعنة، الأجانب صاروا في كل مكان»، قبل أن يستدرك أنه شعار المعرض مطبوعاً على كيس، وحسب.
لكنه، الفلسطيني، سيلحظ أمرين خاصين بهذه الدورة الأقل «بياضاً» عن غيرها وعن عموم الأحداث الفنية الأوروبية، أولهما الوفرة النسبية للأعمال الآتية من أمريكا اللاتينية، قبل أن ينتبه إلى أن قيّم المعرض برازيلي، وهو الأول في منصبه من دول الجنوب العالمي، هو المدير الفني لمتحف الفنون في ساو باولو. وثانيهما حضور فلسطيني مدموج في الأعمال، بتأثير حرب الإبادة، وهذا ما جعل للمقالة هذه مبرراً وموضوعاً. بعد التفات بالصدفة إلى أول عمل دُمجت فيه القضية الفلسطينية، ثم ثاني عمل، مهما كان شكل الدمج وطبيعته، بدأت أشعر بضرورة الانتباه المتقصّد والبحث في الأعمال عن أي حضور فلسطيني فيها. سيكون قد فاتني منها بالتأكيد، لكني التقطت ما استدعى فكرة المقالة: فلسطين مدمجة بالفن.

أولها كان لوحة بالأكرليك والكولاج، للفنان البوسني سافيت زيك، أنجزها هذا العام بعنوان «سيدة مع طفل»، تصور امرأة تركض بطفلها المكفَّن بالأبيض، وأطراف اللوحة مدموجة بقصاصات من صحف لأهالي يحملون أطفالهم الشهداء، مكلومين، بأوجه وملامح لم تألفها العين سوى في قطاع غزة. بمروري أمام العمل التقطتني الأعين الهلعة متخللة القصاصات وطبقة الألوان عليها، قلت هذا الهلع غزّي. كان كذلك، وأعدت المرور بباقي أعمال المعرض، ثم في سلسلة أعمال في الجناح الإسباني، وهي للفنانة البيروفية ساندرا غامارا، دُمجت كذلك المسألة الفلسطينية في أحد أعمالها التي ملأت الصالة، من خلال نص مرّ بين هذه المسألة، ومواضيع اللوحات متعددة الوسائط، أحدها بعنوان «أقنعة مستيزا الثامنة: الجسد المتحوّل». أُنجز كذلك هذا العام، فالأفعال التضامنية هنا كلها لأعمال زامنت حرب الإبادة الراهنة. وعلى اللوحة نص مكتوب بالألوان، هو مقتطف من نص للكاتب الإسباني المتحول جنسياً بول ريسيادو بعنوان «الجسد المتحوّل مستعمرة»، يقول إن «الجسد المتحوّل بالنسبة للمغايرة الجنسية المعيارية، هو فلسطين بالنسبة للغرب: لا يستمر مداها وشكلها إلا من خلال العنف». ينتهي الاقتباس هنا، لكن استكمال النص يمكن أن يوضّح العبارة أكثر، لنقرأ أن فلسطين المقصودة هنا هي الدولة المستمعِرة لها، إسرائيل، فيكتمل الاقتباس المأخوذ من مقالة لكاتبه، بالتالي، والمقدَّم كاملاً في بطاقة اللوحة، في التوضيح لمعنى «العنف: اقطع هنا، ألصق هناك، أخرج هذه الأعضاء، استبدلها بتلك. المهاجر يخسر الدولة القومية. اللاجئ يفقد منزله. الشخص المتحول يفقد جسده. الجميع يعبر الحدود. الحدود تشكلهم. يعيشون على مفترق طرق».
عمل آخر، بانورامي، للمكسيكية فريدا تورانزو، أُدمجت فلسطين كذلك في لوحتها «الغضب آلةٌ في أزمنة البَلادة»، أنجزت عام 2024. وببساطة، في طرف العمل كان البطّيخ، وفي طرفه الآخر كتَبت مرّتين بالأحمر في ما بان تفصيلاً لونياً من أصل اللوحة: «ڤيڤا بالستينا». أوجزت الفنانة وأفصحت. والبيروفية دانييلا أورتيز، عرضت في صالة لأعمال الفيديو، شريط «سطوع أوروبا الجشعة». لا علاقة للعمل المنجَز عام 2022 بفلسطين أو موجات التضامن خلال العام الأخير، لكنها، وهذا هو النموذج الأوضح في عملية الإدماج الفني هذه، ألصقت نسخة رقمية من ستيكر علم فلسطين مكتوباً عليه: «قاطعوا الجناح الإسرائيلي» و»الحرية لفلسطين». من تلك الستيكرات التي نجدها في عموم شوارع أوروبا على أعمدة الإنارة وغيرها. هنا، حوّلت الفنانة الستيكر هذا إلى نسخة رقمية وأدمجتها داخل الفيديو، ثابتاً في زاويته، فلا يُخلع ولا يُطفأ. ليكون الاحتجاج من أصل العمل.
ولأن لا تفصيل عشوائياً في الأعمال الفنية، وإن كان ظاهراً بطرفه وعلى طرف الشاشة، في عمل تركيبي للأسترالية دانييل فريكلي لا يزال في طور الإنجاز منذ 2017، مرفق بفيديو يتحاور فيه اثنان بما لا شأن سياسياً فيه، يعلَّق العلم الفلسطيني أمام الكاميرا، قولاً تضامنياً بما يظهر خارج السياق، ويكون في صلبه. هو علم كخلفية تفصيلية للإفصاح الضروري، أو غير الضروري، بالصورة إن كان الكلام في شأن آخر.
في الأعمال كلها، وربما في غيرها مما مررتُ أمامه من دون انتباه، في ثماني ساعات تخللتها استراحة، فيها كلها حضرت فلسطين لا كموقف سياسي في بيان مكتوب، أو احتجاج جماعي، يُضاف إلى العمل الفني، أو إلى حضور العمل، بل كتفصيل فنّي ضمن العمل ذاته، حضرت بالإدماج لا بالإقحام، لتكون القضية الفلسطينية، بوصفها موئل التضامن العالمي الأول، والمشهد الفني ساحة شاسعة لذلك، لتكون مكوّناً لا لمضمون العمل الفني وحسب، بل لشكله كذلك.
هنا، بإدماج التضامن في العمل ليكون عنصراً عضوياً فيه، لا إرفاقه به ضمن سياق خاص، وخلعه في آخر، بإدماج وبتكرار وصل حدّ الظاهرة في بينالي البندقية، صارت المسألة الفلسطينية مسألة فنية كذلك، والحق الفلسطيني تفصيلاً ظاهراتياً في هذا العمل أو ذاك. التضامن، تضامن الأجانب في كل مكان، تضامن الجنوب العالمي تحديداً، اتخّذ فلسطينَ اسماً هنا، وكذلك شكلاً في اللوحة.
    نيسان ـ نشر في 2024/10/28 الساعة 00:00